[ ص: 408 ] الظاهر أن هذا من خطاب موسى لقومه . وقيل : ابتداء خطاب من الله لهذه الأمة ، وخبر ( قوم نوح وعاد وثمود ) قد قصه الله في كتابه ، وتقدم في الأعراف وهود ، والهمزة في ( ألم ) للتقرير والتوبيخ . والظاهر أن ( والذين ) في موضع خفض عطفا على ما قبله إما على ( الذين ) وإما على ( قوم نوح وعاد وثمود ) .
قال : والجملة من قوله : ( الزمخشري لا يعلمهم إلا الله ) اعتراض والمعنى : أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله ، انتهى . وليست جملة اعتراض ؛ لأن جملة الاعتراض تكون بين جزأين ، يطلب أحدهما الآخر . وقال أبو البقاء : تكون هذه الجملة حالا من الضمير في ( من بعدهم ) ، فإن عنى من الضمير المجرور في ( بعدهم ) فلا يجوز ؛ لأنه حال مما جر بالإضافة ، وليس له محل إعراب من رفع أو نصب ، وإن عنى من الضمير المستقر في الجار والمجرور النائب عن العامل أمكن . وقال أبو البقاء : أيضا ويجوز أن يكون مستأنفا ، وكذلك جاءتهم . وأجاز وتبعه الزمخشري أبو البقاء : أن يكون ( والذين ) مبتدأ وخبره ( لا يعلمهم إلا الله ) . وقال : والجملة من المبتدأ والخبر وقعت اعتراضا ، انتهى . وليست باعتراض ؛ لأنها لم تقع بين جزأين أحدهما يطلب الآخر . والضمير في ( جاءتهم ) عائد على ( الزمخشري الذين من قبلكم ) ، والجملة تفسيرية للنبأ . والظاهر أن الأيدي هي الجوارح ، وأن الضمير في ( أيديهم ) وفي ( أفواههم ) عائد على الذين جاءتهم الرسل . وقال ابن مسعود وابن زيد : أي جعلوا ؛ أي : أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم ليعضوها غيظا مما جاءت به الرسل . وقال ابن زيد : ( عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) والعض بسبب مشهور من البشر . وقال الشاعر :
قد أفنى أنامله أزمه وأضحى يعض علي الوظيفا
( وقال آخر )
:
لو أن سلمى أبصرت تخددي ودقة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي عضت من الوجد بأطراف اليد
وقال : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم . وقال ابن عباس أبو صالح : لما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنا رسول الله إليكم ، أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أن اسكت تكذيبا له ، وردا لقوله ، واستبشاعا لما جاء به . وقيل : ردوا أيديهم في أفواههم ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه . وقيل : أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم : ( إنا كفرنا بما أرسلتم به ) أي : هذا جواب لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق . وقيل : الضميران عائدان على الرسل قاله : مقاتل ، قال : أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم . وقال الحسن وغيره : جعلوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل ردا لقولهم ، وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم ، فعلى هذا الضمير في ( أيديهم ) عائد على الرسل . وقيل : المراد بالأيدي هنا النعم ، جمع يد المراد بها النعمة ؛ أي : ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم ، وما أوحي إليهم من الشرائع والآيات في أفواه الأنبياء ؛ لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها فكأنهم ردوها في أفواههم ، ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل . وقيل : الضمير في ( أفواههم ) على هذا القول عائد على الكفار ، وفي بمعنى الباء ؛ أي : بأفواههم ، والمعنى : كذبوهم بأفواههم . وفي بمعنى الباء يقال : جلست في البيت ، وبالبيت . [ ص: 409 ] وقال الفراء : قد وجدنا من العرب من يجعل " في " موضع " الباء " فتقول : أدخلك الله الجنة ، وفي الجنة . وأنشد :
وأرغب فيها من لقيط ورهطه ولكني عن شنبس لست أرغب
يريد : أرغب بها . وقال أبو عبيدة : هذا ضرب مثل أي : لم يؤمنوا ولم يجيبوا . والعرب تقول للرجل إذا سكت عن الجواب وأمسك : رد يده في فيه ، وقاله الأخفش أيضا . وقال القتبي : لم يسمع أحد من العرب يقول : رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به ، انتهى . ومن سمع حجة على من لم يسمع ، هذاأبو عبيدة والأخفش نقلا ذلك عن العرب ، فعلى ما قاله أبو عبيدة يكون ذلك من مجاز التمثيل ، كأن الممسك عن الجواب الساكت عنه وضع يده على فيه . وقد رد قول الطبري أبي عبيدة وقال : إنهم قد أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ، ولا يرد ما قاله ، لأنه يريد الطبري أبو عبيدة أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضي الذي يقتضيه مجيء الرسل بالبينات ، وهو الاعتراف بالإيمان والتصديق للرسل . قال ابن عطية : ويحتمل أن يتجوز في لفظة الأيدي أي : أنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوا بأفواههم من التكذيب ، فكان المعنى : ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم ؛ أي : في أقوالهم ، وعبر عن جميع المدافعة بالأيدي ، إذ الأيدي موضع أشد المدافعة والمرادة ، انتهى . بادروا أولا إلى الكفر وهو التكذيب المحض ، ثم أخبروا بأنهم في شك وهو التردد ، كأنهم نظروا بعض نظر اقتضى أن انتقلوا من التكذيب المحض إلى التردد ، أو هما قولان من طائفتين : طائفة بادرت بالتكذيب والكفر ، وطائفة شكت ، والشك في مثل ما جاءت به الرسل كفر . وقرأ طلحة : ( مما تدعونا ) بإدغام نون الرفع في الضمير ، كما تدغم في نون الوقاية في مثل : ( أتحاجوني ) والمعنى : مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله . و ( مريب ) صفة توكيدية ، ودخلت همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار على الظرف الذي هو خبر عن المبتدأ ، لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه ، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه . وقدر مضاف فقيل : أفي إلاهية الله . وقيل : أفي وحدانيته ، ثم نبههم على الوصف الذي يقتضي أن لا يقع فيه شك البتة وهو كونه منشئ العالم وموجده ، فقال : ( فاطر السماوات والأرض ) . و ( فاطر ) صفة لله ، ولا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ ، فيجوز أن تقول : في الدار زيد الحسنة ، وإن كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد . وقرأ : " فاطر " نصبا على المدح ، ولما ذكر أنه موجد العالم ، ونبه على الوصف الذي لا يناسب أن يكون معه فيه شك ذكر ما هو عليه من اللطف بهم والإحسان إليهم فقال : ( زيد بن علي يدعوكم ليغفر لكم ) أي : يدعوكم إلى الإيمان كما قال : ( إذ تدعون إلى الإيمان ) ، أو يدعوكم لأجل المغفرة ، نحو : دعوته لينصرني . وقال الشاعر :
دعوت لما نابني مسورا فلبى فلبي يدي مسور
و ( من ذنوبكم ) ذهب أبو عبيدة والأخفش إلى زيادة ( من ) أي : ليغفر لكم ذنوبكم . وجمهور البصريين لا يجيز زيادتها في الواجب ، ولا إذا جرت المعرفة ، والتبعيض يصبح فيها إذ المغفور هو ما بينهم وبين الله ، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم . وبطريق آخر يصح التبعيض وهو أن الإسلام يجب ما قبله ، ويبقى ما يستأنف بعد الإيمان من الذنوب مسكوتا عنه ، هو في المشيئة والوعد إنما هو بغفران ما تقدم ، لا بغفران ما يستأنف . وقال ما معناه : إن الاستقراء في الكافرين أن يأتي من ذنوبكم ، وفي المؤمنين ذنوبكم ، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ، ولأن لا يسوي بين الفريقين ، انتهى . ويقال : ما فائدة الفرق في الخطاب والمعنى مشترك ، إذ الكافر إذا آمن ، والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران ، [ ص: 410 ] وما تخيلت فيه مغفرة بعض الذنوب في الكافر الذي آمن هو موجود في المؤمن الذي تاب ، وقال الزمخشري أبو عبد الله الرازي : أما قول صاحب الكشاف : المراد تمييز خطاب المؤمن من خطاب الكافر ، فهو من باب الطامات ؛ لأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب ، وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسدا .
وقال : ( إلى أجل مسمى ) : إلى وقت قد بيناه ، أو بينا مقداره إن آمنتم ، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت ، انتهى . وهذا بناء على القول بالأجلين ، وهو مذهب المعتزلة . وتقدم الكلام في طرف من هذا في سورة الأعراف في قوله : ( ولكل أمة أجل ) وقيل هنا : ويؤخركم إلى أجل مسمى قبل الموت فلا يعاجلكم بالعذاب ، إن أنتم إلا بشر مثلنا لا فضل بيننا وبينكم ، ولا فضل لكم علينا ، فلم تخصون بالنبوة دوننا ؟ قال : ولو أرسل الله إلى البشر رسلا لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة ، انتهى . وهذا على مذهب المعتزلة في تفضيل الملائكة على من سواهم . وقال الزمخشري ابن عطية : في قولهم استبعاد بعثة البشر . وقال بعض الناس : بل أرادوا إحالته ، وذهبوا مذهب البراهمة ، أو من يقول من الفلاسفة أن الأجناس لا يقع فيها هذا القياس . فظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض ، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم حجة ، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز ؛ أي : بعثتكم محال ، وإلا فأتوا بسلطان مبين ؛ أي : إنكم لا تفعلون ذلك أبدا ، فتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة ، انتهى .
والذي يظهر أن طلبهم السلطان المبين وقد أتتهم الرسل بالبينات إنما هو على سبيل التعنت والاقتراح ، وإلا فما أتوا به من الدلائل والآيات كاف لمن استبصر ، ولكنهم قلدوا آباءهم فيما كانوا عليه من الضلال ، ألا ترى إلى أنهم لما ذكروا أنهم مماثلوهم قالوا : ( تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ) أي : ليس مقصودكم إلا أن نكون لكم تبعا ، ونترك ما نشأنا عليه من دين آبائنا . وقرأ طلحة : ( أن تصدونا ) بتشديد النون ، جعل " أن " هي المخففة من الثقيلة ، وقدر فصلا بينها وبين الفعل ، وكان الأصل أنه تصدوننا ، فأدغم نون الرفع في الضمير ، والأولى أن تكون " أن " الثنائية التي تنصب المضارع ، لكنه هنا لم يعملها بل ألغاها ، كما ألغاها من قرأ ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) برفع ( يتم ) حملا على " ما " المصدرية أختها .