( وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ) .
لما طلبوا الرسول بالآيات المقترحة وأخبر الله بالمصلحة في عدم المجيء بها طعن الكفار فيه ، وقالوا : لو كان رسولا حقا لأتى بالآيات المقترحة ، فبين الله أنه ينصره ويؤيده وأنه ( أحاط بالناس ) . فقيل : بعلمه فلا يخرج شيء عن علمه ، وقيل : بقدرته فقدرته غالبة كل شيء ، وقيل : الإحاطة هنا : الإهلاك كقوله : ( وأحيط بثمره ) والظاهر : أن الناس عام . وقيل : أهل مكة ، بشره الله تعالى أنه يغلبهم ويظهر عليهم ، و ( أحاط ) بمعنى يحيط ، عبر عن المستقبل بالماضي ; لأنه واقع لا محالة ، والوقت الذي وقعت فيه الإحاطة بهم ، قيل : يوم بدر . وقال العسكري : هذا خبر غيب قدمه قبل وقته ، ويجوز أن يكون ذلك في أمر الخندق ومجيء الأحزاب يطلبون ثأرهم ببدر فصرفهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا . وقيل : يوم بدر ويوم الفتح . وقيل : الأشبه أنه يوم الفتح ; فإنه اليوم الذي أحاط أمر الله بإهلاك أهل مكة فيه وأمكن منهم . وقال : ( الطبري أحاط بالناس ) في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك ، فالآية إخبار له أنه محفوظ من الكفرة آمن أن يقتل وينال بمكروه عظيم ، أي : فلتبلغ رسالة ربك ولا تتهيب أحدا من المخلوقين . قال ابن عطية : وهذا تأويل بين جار مع اللفظ . وقد روي نحوه عن الحسن والسدي إلا أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة ، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسبا لما بعده توطئة له .
فأقول : اختلف الناس في الرؤيا . فقال الجمهور : هي رؤيا عين ويقظة ، وهي ما رأى في ليلة الإسراء من العجائب قال الكفار : إن هذا لعجب نخب إلى بيت المقدس شهرين إقبالا وإدبارا ، ويقول محمد جاءه من ليلته وانصرف منه ، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفاء المسلمين فارتدوا وشق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية ، فعلى هذا يحسن أن يكون معنى قوله : ( وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ) أي : في إضلالهم وهدايتهم ، وأن كل واحد ميسر لما خلق له أي : فلا تهتم أنت بكفر من كفر ، ولا تحزن عليهم فقد قيل لك : إن الله محيط بهم مالك لأمرهم ، وهو جعل رؤياك هذه فتنة ; ليكفر من سبق عليه الكفر ، وسميت الرؤية في هذا التأويل رؤيا إذ هما مصدران من رأى . وقال النقاش : جاء ذلك من اعتقاد من اعتقد أنها منامية وإن كانت الحقيقة غير ذلك . انتهى . وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم : هو قصة الإسراء والمعراج عيانا آمن به الموفقون وكفر به المخذولون ، وسماه رؤيا لوقوعه في الليل وسرعة تقضيه ، كأنه منام . وعن أيضا هو رؤياه أنه يدخل ابن عباس مكة فعجل في سنته الحديبية ورد فافتتن الناس ، وهذا مناسب لصدر الآية فإن الإحاطة بمكة أكثر ما كانت . وعن : هي رؤياه سهل بن سعد بني أمية ينزون على [ ص: 55 ] منبره نزو القردة فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات ، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من ملكهم ، وصعودهم المنابر إنما يجعلها الله فتنة للناس . ويجيء قوله : ( أحاط بالناس ) أي : بأقداره وإن كان ما قدره الله فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك .
وقال الحسن بن علي في خطبته في شأن بيعته لمعاوية : وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين . وقالت عائشة : ( الرؤيا ) رؤيا منام . قال ابن عطية : وهذه الآية تقضي بفساده ، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها ، وما كان أحد لينكرها . انتهى . وليس كما قالابن عطية : فإن رؤيا الأنبياء حق ويخبر النبي بوقوع ذلك لا محالة فيصير إخباره بذلك فتنة لمن يريد الله به ذلك . وقال صاحب التحرير : سألت أبا العباس القرطبي عن هذه الآية فقال : ذهب المفسرون فيها إلى أمر غير ملائم في سياق أول الآية ، والصحيح أنها رؤية عين يقظة ، لما آتاه بدرا أراه جبريل - عليه السلام - مصارع القوم فأراها الناس ، وكانت فتنة لقريش ، فإنهم لما سمعوا أخذوا في الهزء والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم . ( والشجرة الملعونة ) هنا هي أبو جهل . انتهى .
وقال : ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر : " الزمخشري والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم " وهو يومئ إلى الأرض ، ويقول : " " . فتسامعت هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان قريش بما أوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمر بدر وما أري في منامه من مصارعهم ، فكانوا يضحكون ويستسخرون به استهزاء . وقيل : رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة . انتهى . والظاهر أنه أريد بالشجرة حقيقتها . فقال : هي الكشوث المذكورة في قوله : ( ابن عباس كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) وعنه أيضا : هي الشجرة التي تلتوي على الشجرة فتفسدها . قال : والفتنة قولهم ما بال الحشائش تذكر في القرآن . وقال الجمهور : هي شجرة الزقوم لما نزل أمرها في الصافات وغيرها قال أبو جهل وغيره : هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت الشجر ، والنار تأكل الشجر ، وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد ، ثم أمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمرا وزبدا ، وقال لأصحابه : " تزقموا " فافتتن أيضا بهذه المقالة بعض الضعفاء .
قال : وما أنكروا أن يجعل الله ( الشجرة ) من جنس لا تأكله النار ، فهذا وبر السمندل ، وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منها مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ ، وبقي المنديل سالما لا تعمل فيه النار ، وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا يضرها ، ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة نارا فلا تحرقها فما أنكروا أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها ، والمعنى : أن الآيات إنما نرسل بها تخويفا للعباد ، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر فما كان ما أريناك منه في منامك بعد الوحي إليك إلا فتنة لهم حيث اتخذوه سخريا ، وخوفوا بعذاب الآخرة وبشجرة الزقوم فما أثر فيهم ، ثم قال : ( الزمخشري ونخوفهم ) أي : بمخاوف الدنيا والآخرة ( فما يزيدهم ) التخويف ( إلا طغيانا كبيرا ) فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات . انتهى . وقوله بعد الوحي إليك هو قوله : ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ) وقوله : ( قل للذين كفروا ستغلبون ) والظاهر إسناد اللعنة إلى ( الشجرة ) واللعن : الإبعاد من الرحمة ، وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة . وقيل : تقول العرب لكل طعام مكروه ضار : ملعون .
قال : وسألت بعضهم ، فقال : نعم الطعام الملعون القشب الممحون . وقال الزمخشري : ( ابن عباس الملعونة ) يريد آكلها ، ونمقه ، فقال : لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة ; لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة ، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز . انتهى . الزمخشري
وقيل لما شبه طلعها برءوس الشياطين ، والشيطان [ ص: 56 ] ملعون نسبت اللعنة إليها . وقال قوم ( الشجرة ) هنا مجاز عن واحد وهو أبو جهل ، وقيل : هو الشيطان ، وقيل : مجاز عن جماعة وهم اليهود الذين تظاهروا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعنهم الله تعالى وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثة الرسول عليه السلام ، فلما بعثه الله كفروا به وقالوا : ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم عن الإسلام . وقيل : بنو أمية حتى إن من المفسرين من لا يعبر عنهم إلا بالشجرة الملعونة لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة ، وأخذ الأموال من غير حلها وتغيير قواعد الدين وتبديل الأحكام ، ولعنها في القرآن ( ألا لعنة الله على الظالمين ) إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة .
وقرأ الجمهور : ( الشجرة الملعونة ) عطفا على ( الرؤيا ) فهي مندرجة في الحصر ، أي وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس . وقرأ برفع ( زيد بن علي والشجرة الملعونة ) على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره كذلك أي : فتنة ، والضمير في ( ونخوفهم ) لكفار مكة . وقيل : لملوك بني أمية بعد الخلافة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكا عضوضا " والأول أصوب . وقرأ : ويخوفهم بياء الغيبة والجمهور بنون العظمة . الأعمش