[ ص: 57 ] مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين . أحدهما أنه لما نازعوا الرسول عليه السلام في النبوة واقترحوا عليه الآيات كان ذلك لكبرهم وحسدهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - على ما آتاه الله من النبوة والدرجة الرفيعة ، فناسب ذكر قصة آدم - عليه السلام - وإبليس حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود . والثاني أنه لما قال : ( فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ) بين ما سبب هذا الطغيان وهو قول إبليس ( لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) وانتصب ( طينا ) على الحال قاله وتبعه الزجاج الحوفي ، فقال : من الهاء في خلقته المحذوفة ، والعامل ( خلقت ) فقال : ( والزمخشري طينا ) إما من الموصول والعامل فيه ( أأسجد ) على آسجد له وهو طين أي : أصله طين ، أو من الراجع إليه من الصلة على آسجد لمن كان في وقت خلقه ( طينا ) . انتهى . وهذا تفسير معنى . وقال أبو البقاء : والعامل فيه ( خلقت ) يعني إذا كان حالا من العائد المحذوف وأجاز الحوفي أن يكون نصبا على حذف من التقدير من طين كما صرح به في قوله : ( وخلقته من طين ) وأجاز أيضا وتبعه الزجاج ابن عطية أن يكون تمييزا ، ولا يظهر كونه تمييزا ، وقوله : ( أأسجد ) استفهام إنكار وتعجب . وبين قوله : ( أأسجد ) وما قبله كلام محذوف ، وكأن تقديره قال : لم لم تسجد لآدم قال : ( أأسجد ) وبين قوله : ( أرأيتك ) وقال آسجد جمل قد ذكرت حيث طولت قصته والكاف في أرأيتك للخطاب ، وتقدم الكلام عليها في سورة الأنعام ولا يلحق كاف الخطاب هذه إلا إذا كانت بمعنى أخبرني ، وبهذا المعنى قدرها الحوفي وتبعه ، وهو قول الزمخشري فيها سيبويه . والزجاج
قال الحوفي : و ( أرأيتك ) بمعنى عرفني وأخبرني ، وهذا منصوب بأرأيتك ، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي لم كرمته علي ، وقد خلقتني من نار وخلقته من طين ، وحذف هذا لما في الكلام من الدليل عليه . وقال : الكاف للخطاب و ( الزمخشري هذا ) مفعول به ، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي أي : فضلته لم كرمته علي وأنا خير منه ، فاختصر الكلام بحذف ذلك ثم ابتدأ فقال : ( لئن أخرتني ) . وقال ابن عطية : والكاف في ( أرأيتك ) حرف خطاب ومبالغة في التنبيه لا موضع لها من الإعراب فهي زائدة ، ومعنى أرأيت أتأملت ونحوه كان المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد . وقال : هي بمعنى أخبرني ، ومثل بقوله : ( سيبويه أرأيتك ) زيدا أيؤمن هو . وقاله ولم يمثل ، وقول الزجاج صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله ، وأما في هذه الآية فهي كما قلت وليست التي ذكر سيبويه رحمه الله . انتهى . وما ذهب إليه سيبويه الحوفي في ( والزمخشري أرأيتك ) هنا هو الصحيح ، ولذلك قدر الاستفهام وهو لم كرمته علي فقد انعقد من قوله : هذا الذي كرمته علي لم كرمته علي جملة من مبتدأ وخبر ، وصار مثل : زيد أيؤمن هو دخلت عليه ( أرأيتك ) فعملت في الأول ، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني والمستقر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر استفهاما ، فإن صرح به فذلك واضح وإلا قدر . وقد أشبعنا الكلام في الأنعام وفي شرح التسهيل .
وقال الفراء : هنا للكاف محمل من الإعراب ، وهو النصب أي : أرأيت نفسك قال : وهذا كما تقول أتدبرت آخر أمرك . فإني صانع فيه كذا ، ثم ابتدأ ( هذا الذي كرمت علي ) . انتهى . والرد عليه مذكور في علم النحو ، ولو ذهب ذاهب إلى أن هذا مفعول أول لقوله : ( أرأيتك ) بمعنى أخبرني والثاني الجملة القسمية بعده لانعقادهما مبتدأ وخبرا قبل دخول ( أرأيتك ) لذلك مذهبا حسنا ، إذ لا يكون في الكلام إضمار ، وتلخص من هذا كله الكاف إما في موضع نصب وهذا مبتدأ ، وإما حرف خطاب وهذا مفعول بأرأيت بمعنى محذوف ، وهو الجملة الاستفهامية [ ص: 58 ] أو مذكور وهو الجملة القسمية ، ومعنى ( لئن أخرتني ) أي : أخرت مماتي وأبقيتني حيا .
وقال : ( ابن عباس لأحتنكن ) لأستولين عليهم وقاله الفراء . وقال ابن زيد : لأضلنهم . وقال : لأستأصلن ، وكفر إبليس بجهله صفة العدل من الله حين لحقته الأنفة والكبر ، وظهر ذلك في قوله : ( الطبري أرأيتك هذا الذي كرمت علي ) إذ نص على أنه لا ينبغي أن يكرم بالسجود مني من أنا خير منه ، وأقسم إبليس على أنه يحتنك ذرية آدم وعلم ذلك إما بسماعه من الملائكة ، وقد أخبرهم الله به أو استدل على ذلك بقولهم : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه ذو شهوة وعوارض كالغضب ونحوه ، ورأى خلقته مجوفة مختلفة الأجزاء ، وقال الحسن : ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما فظن ذلك بذريته ، وهذا ليس بظاهر ; لأن قول ذلك كان قبل وسوسته لآدم في أكل الشجرة ، واستثنى القليل ; لأنه علم أنه يكون في ذرية آدم من لا يتسلط عليه ، كما قال : ( لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) والأمر بالذهاب ليس على حقيقته من نقيض المجيء ، ولكن المعنى اذهب لشأنك الذي اخترته ، وعقبه بذكر ما جره سوء فعله من جزائه وجزاء أتباعه جهنم ، ولما تقدم اسم غائب وضمير خطاب غلب الخطاب فقال : ( جزاؤكم ) ويجوز أن يكون ضمير من على سبيل الالتفات ، والموفور المكمل ووفر متعد كقوله :
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ولازم تقول : وفر المال يفر وفورا ، وانتصب ( جزاء ) على المصدر ، والعامل فيه ( جزاؤكم ) أو يجاوز مضمره أو على الحال الموطئة . وقيل : تمييز ولا يتعقل ( واستفزز ) معطوف على فاذهب وعطف عليه ما بعده من الأمر ، وكلها بمعنى التهديد كقوله : ( اعملوا ما شئتم ) ومن في ( من استطعت ) موصولة مفعولة باستفزز . وقال أبو البقاء : ( من استطعت ) من استفهام في موضع نصب باستطعت ، وهذا ليس بظاهر ; لأن ( استفزز ) ومفعول ( استطعت ) محذوف تقديره ( من استطعت ) أن تستفزه والصوت هنا الدعاء إلى معصية الله . وقال مجاهد : الغناء والمزامير واللهو . وقال الضحاك : صوت المزمار ، وذكر الغزنوي أن آدم أسكن ولد هابيل أعلى الجبل وولد قابيل أسفله . وفيهم بنات حسان ، فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا . وقيل : الصوت هنا الوسوسة .
وقرأ الحسن ( واجلب عليهم ) بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثيا ، والظاهر أن إبليس له خيل ورجالة من الجن جنسه قاله قتادة ، والخيل تطلق على الأفراس حقيقة وعلى أصحابها مجازا وهم الفرسان ، ومنه : يا خيل الله اركبي ، والباء في ( بخيلك ) قيل : زائدة . وقيل : من الآدميين أضيفوا إليه لانخراطهم في طاعته وكونهم أعوانهم على غيرهم قاله مجاهد .
وقال ابن عطية : وقوله ( بخيلك ورجلك ) . قيل : هذا مجاز واستعارة بمعنى اسع سعيك وابلغ جهدك . انتهى . وقال أبو علي ليس للشيطان خيل ولا رجل ولا هو مأمور إنما هذا زجر واستخفاف به كما تقول لمن تهدده : اذهب فاصنع ما شئت واستعن بما شئت . وقال : فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله ؟ قلت : هو كلام وارد مورد التمثيل مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم ، وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم . انتهى . وقرأ الجمهور : ( الزمخشري ورجلك ) بفتح الراء وسكون الجيم ، وهو اسم جمع واحد راجل كركب وراكب ، وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية وحفص بكسر الجيم . قال صاحب اللوامح بمعنى الرجال . وقال ابن عطية : هي صفة يقال : فلان يمشي رجلا أي : غير راكب ، ومنه قول الشاعر :
رجلا إلا بأصحاب
وقال [ ص: 59 ] : وقرئ ( الزمخشري ورجلك ) على أن فعلا بمعنى فاعل نحو تعب وتاعب ، ومعناه وجمعك الرجل وتضم جيمه أيضا فيكون مثل حدث وحدث وندس وندس وأخوات لهما . انتهى . وقرأ قتادة وعكرمة ورجالك . وقرئ ورجل لك - بضم الراء وتشديد الجيم . والمشاركة في الأموال ، قال الضحاك : ما يذبحون لآلهتهم وقتادة البحيرة والسائبة . وقيل : ما أصيب من مال وحرام ، وقيل : ما جعلوه من أموالهم لغير الله ، وقيل : ما صرف في الزنا ، والأولى ما أخذ من غير حقه وما وضع في غير حقه والمشاركة في الأولاد . قال : تسميتهم عبد العزى وعبد اللات وعبد الشمس وعبد الحرث ، وعنه أيضا ترغيبهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية . وعنه أيضا إقدامهم على قتل الأولاد ، قال ابن عباس الحسن وقتادة : وما مجسوه وهودوه ونصروه وصبغوهم غير صبغة الإسلام . وقال مجاهد : عدم التسمية عند الجماع فالجان ينطوي إذ ذاك على إحليله فيجامع معه . وقيل : ترغيبهم في القتال والقتل وحفظ الشعر المشتمل على الفحش ، والأولى أنه كل تصرف في الولد يؤدي إلى ارتكاب منكر وقبيح ، وأما وعده فهو الوعد الكاذب كوعدهم أن لا بعث وهذه مشاركة في النفوس .وقال : ( الزمخشري وعدهم ) المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة ، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها ، والاتكال على الرحمة وشفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حميما ، وإيثار العاجل على الآجل . انتهى . وهو جار على مذهب المعتزلة في أنه لا تغفر الذنوب بدون التوبة ، وبأنه لا شفاعة في الكبائر ، وبأنه لا يخرج من النار أبدا من دخلها من فاسق مؤمن . وانتصب ( غرورا ) وهو مصدر على أنه وصف لمصدر محذوف أي : وعدا غرورا على الوجوه التي في رجل صوم ، ويحتمل أن يكون مفعولا من أجله أي ( وما يعدكم ) ويمنيكم ما لا يتم ولا يقع إلا لأن يغركم ، والإضافة إليه تعالى في ( إن عبادي ) إضافة تشريف ، والمعنى المختصين بكونهم ( عبادي ) لا يضافون إلى غيري ، كما قال في مقابلهم : ( أولياؤهم الطاغوت ) و ( أولياء الشيطان ) .
وقيل : ثم صفة محذوفة أي إن عبادي الصالحين ، ونفى السلطان وهو الحجة والاقتدار على إغوائهم عن الإيمان ويدل على لحظ الصفة قوله : ( إنما سلطانه على الذين يتولونه ) . وقال الجبائي : ( عبادي ) عام في المكلفين ، ولذلك استثنى منه في آي من اتبعه في قوله : ( إلا من اتبعك من الغاوين ) واستدل بهذا على أنه لا سبيل له ولا قدرة على تخليط العقل وإنما قدرته على الوسوسة ، ولو كان له قدرة على ذلك لخبط العلماء ليكون ضرره أتم ، ومعنى ( وكيلا ) حافظا لعباده الذين ليس له عليهم سلطان من إغواء الشيطان أو ( وكيلا ) يكلون أمورهم إليه فهو حافظهم بتوكلهم عليه .