[ ص: 327 ] ( قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين ) .
[ ص: 328 ] ولما نبههم على قبيح مرتكبهم وغلبهم بإقامة الحجة عليهم لاذوا بالإيذاء له والغضب لآلهتهم واختاروا أشد العذاب وهو الإحراق بالنار التي هي سبب للإعدام المحض والإتلاف بالكلية وكذا كل من أقيمت عليه الحجة وكانت له قدرة يعدل إلى المناصبة والإذابة كما كانت قريش تفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دمغهم بالحجة وعجزوا عن معارضة ما آتاهم به عدلوا إلى الانتقام وإيثار الاغتيال ، فعصمه الله والظاهر أن قول ( قالوا حرقوه ) أي قال بعضهم لبعض . وقيل : أشار بإحراقه نمروذ . وعن رضي الله عنهما : رجل من أعراب العجم . قال ابن عمر : يريد الزمخشري الأكراد . وقال ابن عطية : روي أنه رجل من الأكراد من أعراب فارس أي باديتها فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، وذكروا لهذا القائل اسما مختلفا فيه لا يوقف منه على حقيقة لكونه ليس مضبوطا بالشكل والنقط ، وهكذا تقع أسماء كثيرة أعجمية في التفاسير لا يمكن الوقوف منها على حقيقة لفظ لعدم الشكل والنقط فينبغي إطراح نقلها .
وروي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى واختلفوا في عدة حبسه وفي عرض الحظيرة وطولها ، ومدة جمع الحطب ، ومدة الإيقاد ، ومدة سنه إذ ذاك ، ومدة إقامته في النار وكيفية ما صارت أماكن النار اختلافا متعارضا تركنا ذكره واتخذوا منجنيقا . قيل : بتعليم إبليس إذ كان لم يصنع قبل فشد إبراهيم رباطا ووضع في كفة المنجنيق ورمي به فوقع في النار . وروي أن جبريل عليه السلام جاءه وهو في الهواء فقال : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا ، وذكر المفسرون أشياء صدرت من الوزغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط الله أعلم بذلك . وعن : إنما نجا بقوله حسبي الله ونعم الوكيل . قيل : وأطل ابن عباس نمروذ من الصرح فإذا إبراهيم في روضة ومعه جليس له من الملائكة فقال إني مقرب إلى آلهك فذبح أربعة آلاف بقرة . وكف عن إبراهيم ، وكان إبراهيم إذ ذاك ابن ست عشرة سنة ، وقد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه ألقي في النار فجعلها الله عليه ( بردا وسلاما ) وخرج منها سالما فكانت أعظم آية والظاهر أن القائل ( قلنا يانار ) هو الله تعالى . وقيل : جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى . وعن : لو لم يقل : ( وسلاما ) لهلك ابن عباس إبراهيم من البرد ، ولو لم يقل على إبراهيم لما أحرقت نار بعدها ولا اتقدت . انتهى . ومعنى ( وسلاما ) سلامة ، وأبعد من ذهب إلى أنها هنا تحية من الله ولو كانت تحية لكان الرفع أولى بها من النصب . والمعنى ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كان ذاتها بردا وسلاما ، ولما كانت النار تنفعل لما أراده الله منها كما ينفعل من يعقل عبر عن ذلك بالقول لها والنداء والأمر .
قال : فإن قلت : كيف بردت النار وهي نار ؟ قلت : نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة والإشراق والاشتعال ، كما كانت والله على كل شيء قدير ، ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم الزمخشري إبراهيم أدنى حرها ويذيقه فيها عكس ذلك كما يفعل بخزنة جهنم ، ويدل عليه قوله : ( على إبراهيم ) . انتهى .
وروي أنهم قالوا هي نار مسجورة لا تحرق فرموا فيها شيخا منهم فاحترق وأرادوا به كيدا . قيل : هو إلقاؤه في النار ( فجعلناهم الأخسرين ) أي المبالغين في الخسران وهو إبطال ما راموه جادلوا إبراهيم فجدلهم وبكتهم وأظهر لهم وأقر عقولهم ، وتقووا عليه بالأخذ والإلقاء فخلصه الله . وقيل : سلط عليهم ما هو من أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض يأكل من لحومهم ويشرب من دمائهم ، وسلط الله على نمروذ بعوضة واختلف في كيفية إذايتها له وفي مدة إقامتها تؤذيه إلى أن مات منها .
والضمير في ( ونجيناه ) عائد على إبراهيم وضمن معنى أخرجناه بنجاتنا إلى الأرض [ ص: 329 ] ولذلك تعدى ( نجيناه ) بإلى ويحتمل أن يكون ( إلى ) متعلقا بمحذوف أي منتهيا ( إلى الأرض ) فيكون في موضع الحال ، ولا تضمين في ( ونجينا ) على هذا و ( الأرض ) التي خرجا منها هي كوثى من أرض العراق ، والأرض التي صار إليها هي أرض الشام وبركتها ما فيها من الخصب والأشجار والأنهار وبعث أكثر الأنبياء منها . وقيل : مكة قاله ، كما قال ( ابن عباس إن أول بيت ) الآية . وقيل أرض مصر وبركتها نيلها وزكاة زروعها وعمارة مواضعها .
وروي إبراهيم خرج مهاجرا إلى ربه ومعه لوط وكان ابن أخيه ، فآمنت به أن سارة وهي ابنة عمه فأخرجها معه فارا بدينه ، وفي هذه الخرجة لقي الجبار الذي رام أخذها منه فنزل حران ومكث زمانا بها . وقيل : سارة ابنة ملك حران تزوجها إبراهيم وشرط عليه أبوها أن لا يغيرها ، والصحيح أنها ابنة عمه هاران الأكبر ، ثم قدم مصر ثم خرج منها إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من السبع أو أقرب فبعثه الله نبيا . والنافلة العطية قاله مجاهد وعطاء أو الزيادة كالمتطوع به إذا كان إسحاق ثمرة دعائه رب هب لي من الصالحين ، وكان يعقوب زيادة من غير دعاء . وقيل : النافلة ولد الولد فعلى الأول يكون مصدرا كالعاقبة والعافية وهو من غير لفظ ( وهبنا ) بل من معناه ، وعلى الآخرين يراد به يعقوب فينتصب على الحال ، و ( كلا ) يشمل من ذكر إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب .
( يهدون بأمرنا ) يرشدون الناس إلى الدين . و ( أئمة ) قدوة لغيرهم .
( وأوحينا إليهم ) أي خصصناهم بشرف النبوة لأن الإيحاء هو التنبئة . قال : ( الزمخشري فعل الخيرات ) أصله أن يفعل ( فعل الخيرات ) ثم فعلا الخيرات وكذلك ( وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) . انتهى . وكان لما رأى أن ( الزمخشري فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) ليس من الأحكام المختصة بالموحى إليهم بل هم وغيرهم في ذلك مشتركون ، بنى الفعل للمفعول حتى لا يكون المصدر مضافا من حيث المعنى إلى ضمير الموحى ، فلا يكون التقدير فعلهم الخيرات وإقامهم الصلاة وإيتاؤهم الزكاة ، ولا يلزم ذلك إذ الفاعل مع المصدر محذوف ، ويجوز أن يكون مضافا من حيث المعنى إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليهم وغيرهم ، أي فعل المكلفين الخيرات ، ويجوز أن يكون ذلك مضافا إلى الموحى إليهم أي أن يفعلوا الخيرات ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وإذا كانوا قد أوحي إليهم ذلك فأتباعهم جارون مجراهم في ذلك ولا يلزم اختصاصهم به ثم اعتقاد بناء المصدر للمفعول الذي لم يسم فاعله مختلف فيه أجاز ذلك الأخفش والصحيح منعه ، فليس ما اختاره مختارا . الزمخشري
وقال ابن عطية : والإقام مصدر وفي هذا نظر . انتهى . وأي نظر في هذا وقد نص على أنه مصدر بمعنى الإقامة ، وإن كان الأكثر الإقامة بالتاء وهو المقيس في مصدر أفعل إذا اعتلت عينه وحسن ذلك هنا أنه قابل ( سيبويه وإيتاء ) وهو بغير تاء فتقع الموازنة بين قوله ( وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) وقال : فحذفت الهاء من إقامة لأن الإضافة عوض عنها . انتهى . وهذا قول الزجاج الفراء زعم أن تاء التأنيث قد تحذف للإضافة وهو مذهب مرجوح .
ولما ذكر تعالى ما أنعم على إبراهيم ما أنعم به على من هاجر معه فارا بدينه وهو لوط ابن أخيه وانتصب ( ولوطا ) على الاشتغال والحكم الذي أوتيه النبوة . وقيل : حسن الفصل بين الخصوم في القضاء . وقيل : حفظ صحف إبراهيم ، ولما ذكر الحكم ذكر ما يكون به وهو العلم و ( القرية ) سدوم وكانت قراهم سبعا وعبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة ، وكانت من كورة فلسطين إلى حد السراة إلى حد نجد بالحجاز ، قلب منها تعالى ستا وأبقى منها زغر لأنها كانت محل لوط وأهله ومن آمن به أي [ ص: 330 ] ( ونجيناه من ) أهل ( القرية ) أي خلصناه منهم أو من العذاب الذي حل بهم ، ونسب عمل ( الخبائث ) إلى القرية مجازا وهو لأهلها وانتصب ( الخبائث ) على معنى ( تعمل ) لأعمال أو الفعلات الخبيثة وهي ما ذكره تعالى في غير هذه السورة مضافا إلى كفرهم بالله وتكذيبهم نبيه ، وقوله ( إنهم ) يدل على أن التقدير من أهل القرية ( وأدخلناه في رحمتنا ) أي في أهل رحمتنا أو في الجنة ، سماها رحمة إذ كانت أثر الرحمة .
ولما ذكر تعالى قصة إبراهيم وهو أبو العرب وتنجيته من أعدائه ذكر قصة أبي العالم الإنسي كلهم وهو الأب الثاني لآدم لأنه ليس أحد من نسله من سام وحام ويافث ، وانتصب ( نوحا ) على إضمار اذكر أي واذكر ( نوحا ) أي قصته ( إذ نادى ) ومعنى نادى دعا مجملا بقوله ( أني مغلوب فانتصر ) مفصلا بقوله ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) والكرب أقصى الغم والأخذ بالنفس ، وهو هنا الغرق عبر عنه بأول أحوال ما يأخذ الغريق ، وغرقت في بحرالنيل ووصلت إلى قرار الأرض ولحقني من الغم والكرب ما أدركت أن نفسي صارت أصغر من البعوضة ، وهو أول أحوال مجيء الموت .