تقدم الكلام على قوله : ( ويوم يناديهم ) وكرر هنا على جهة الإبلاغ والتأكيد . ( ونزعنا ) أي : ميزنا وأخرجنا بسرعة من كل أمة من الأمم . ( شهيدا ) وهو نبي تلك الأمة ; لأنه هو الشهيد عليها ، كما قال : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) . وقيل : عدولا وخيارا . والشهيد على هذا اسم الجنس ، والشهيد يشهد على تلك الأمة بما صدر منها ، وما أجابت به ; لما دعيت إلى التوحيد ، وأنه قد بلغهم رسالة ربهم . ( فقلنا ) أي : للملأ ( هاتوا برهانكم ) أي : حجتكم فيما كنتم عليه في الدنيا من الكفر ومخالفة هذا الشهيد ( فعلموا أن الحق لله ) لا لأصنامهم وما عبدوا من دون الله . ( وضل عنهم ) أي : وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ( ما كانوا يفترون ) من الكذب والباطل .
وقارون أعجمي : منع الصرف للعجمة والعلمية . وقيل : ومعنى كان من قومه أي : ممن آمن به . قال ابن عطية : وهو إسرائيلي بإجماع . انتهى . واختلف في قرابته من موسى عليه السلام ، اختلافا مضطربا متكاذبا ، وأولاها ما قاله أنه ابن عمه ، وهو ابن عباس قارون بن يصهر بن قاهث ، جد موسى ; لأن النسابين ذكروا نسبه كذلك ، وكان يسمى المنور لحسن صورته ، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم ، فنافق كما نافق السامري . ( فبغى عليهم ) ذكروا من أنواع بغيه الكفر ، والكبر ، وحسده لموسى على النبوة ، ولهارون على الذبح والقربان ، وظلمه لبني إسرائيل حين ملكه فرعون عليهم ، ودسه بغيا تكذب على موسى أنه تعرض لها ، وتفضحه بذلك في ملأ من بني إسرائيل . ومن تكبره أن زاد في ثيابه شبرا . ( وآتيناه من الكنوز ) قيل : أظفره الله بكنز من كنوز يوسف عليه السلام . وقيل : سميت أمواله كنوزا ، إذ كان ممتنعا من أداء الزكاة ، وبسبب ذلك عادى موسى عليه السلام أول عداوته . و ( ما ) موصولة ، صلتها " إن " ومعمولاها . وقال النحاس : سمعت علي بن سليمان ، يعني ، يقول : ما أقبح ما يقوله الأخفش الصغير الكوفيون في الصلات ، أنه لا يجوز أن تكون صلة " الذي " " إن " وما عملت [ ص: 132 ] فيه ، وفي القرآن : ( ما إن مفاتحه ) . انتهى . وتقدم الكلام في " مفاتح " في سورة الأنعام ، وقالوا هنا : مقاليد خزائنه . وقال : هي الخزائن نفسها . وقال السدي الضحاك : ظروفه وأوعيته . وقرأ : " مفاتيحه " ، بياء ، جمع مفتاح ، وذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب ، أو يقارب الكذب ، فلم أكتبه . قال الأعمش أبو زيد : نؤت بالعمل ، إذا نهضت به . قال الشاعر :
إذا وجدنا خلفا بئس الخلف عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
ويقول : ناء ينوء ، إذا نهض بثقل . قال الشاعر :
تنوء بأخراها فلأيا قيامها وتمشي الهوينى عن قريب فتبهر
وقال أبو عبيدة : هو مقلوب وأصله : لتنوء بها العصبة ، أي : تنهض ، والقلب عند أصحابنا بابه الشعر . والصحيح أن الباء للتعدية ، أي : لتنيء العصبة ، كما تقول : ذهبت به وأذهبته ، وجئت به وأجأته . ونقل هذا عن الخليل وسيبويه ، واختاره والفراء النحاس ، وروي معناه عن ابن عباس وأبي صالح والسدي ، وتقول العرب : ناء الحمل بالبعير إذا أثقله . قال ابن عطية : ويمكن أن يسند " تنوء " إلى المفاتح ; لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها ، وذا مطرد في ناء الحمل بالبعير ونحوه ، فتأمله . وقرأ بديل بن ميسرة : " لينوء " بالياء وتذكيره ، راعى المضاف المحذوف ، التقدير : ما إن حمل مفاتحه ، أو مقدارها ، أو نحو ذلك . وقال : ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ، ويعطيها حكم ما أضيف إليه للملابسة والإيصال ، كقوله : ذهبت الزمخشري أهل اليمامة . انتهى . يعني : أنه اكتسب المفاتح التذكير من الضمير الذي لقارون ، كما اكتسب أهل التأنيث من إضافته إلى اليمامة ، فقيل فيه : ذهبت . وذكر أن أبو عمرو الداني بديل بن ميسرة قرأ : " ما إن مفتاحه " على الإفراد ، فلا تحتاج قراءته " لينوء " بالياء إلى تأويل . وتقدم تفسير العصبة في سورة يوسف عليه السلام . وتقدم قبل تفسير المفاتح ، أهي المقاليد ، أو الخزائن نفسها ، أو الظروف والأوعية ، وعن ابن عباس والحسن : أن المفاتح هي الأموال .
قال : كانت خزائنه تحملها أربعون أقوياء ، وكانت أربعمائة ألف ، يحمل كل رجل عشرة آلاف . وقال ابن عباس أبو مسلم : المراد من المفاتح : العلم والإحاطة ، كقوله تعالى : ( وعنده مفاتح الغيب ) والمراد : وآتيناه من الكنوز ، ما إن حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة ، أي : هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها ، يتعب حفظها القائمين على حفظها . ( إذ قال له قومه لا تفرح ) نهوه عن الفرح المطغي الذي هو انهماك وانحلال نفس وأشر وإعجاب ، وإنما يفرح بإقبال الدنيا عليه من اطمأن إليها وغفل عن أمر الآخرة ، ومن جعل أنه مفارق زهرة الدنيا عن قريب ، فلا يفرح بها . وقال أبو الطيب :
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا
قال : ومحل " إذ " منصوب بـ : " تنوء " . انتهى ، وهذا ضعيف جدا ; لأن إثقال المفاتح العصبة ليس مقيدا بوقت قول قومه له : ( الزمخشري لا تفرح ) . وقال ابن عطية : متعلق بقوله : ( فبغى عليهم ) وهو ضعيف أيضا ; لأن بغيه عليهم لم يكن مقيدا بذلك الوقت . وقال الحوفي : الناصب له محذوف تقديره : اذكر . وقال أبو البقاء : ( إذ قال له ) ظرف لـ : " آتيناه " ، وهو ضعيف أيضا ; لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك القول . وقال أيضا : ويجوز أن يكون ظرفا لفعل محذوف دل عليه الكلام ، أي : بغى عليهم ( إذ قال له قومه ) . انتهى . ويظهر أن يكون تقديره : فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز ( إذ قال له قومه لا تفرح ) . وقال تعالى : ( ولا تفرحوا بما آتاكم ) والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير . وقال الشاعر :
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ولا جازع من صرفه المتحول
[ ص: 133 ] وقال الآخر :
إن نلاق منفسا لا تلفنا فرح الخير ولا نكبو لضر
وقرئ : الفارحين ، حكاه عيسى بن سليمان الحجازي . و ( لا يحب ) صفة فعل ، لا صفة ذات ، بمعنى الإرادة ; لأن الفرح أمر قد وقع ، فالمعنى : لا يظهر عليهم بركته ، ولا يعمهم رحمته . ولما نهوه عن الفرح المطغي أمروه بأن يطلب فيما آتاه الله من الكنوز وسعة الرزق ثواب الدار الآخرة ، بأن يفعل فيه أفعال البر ، وتجعله زادك إلى الآخرة . ( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) قال والجمهور : معناه : ولا تضيع عمرك في أن لا تعمل صالحا في دنياك ، إذ ابن عباس ، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها ، وهذا التأويل فيه عظة . وقال الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا الحسن وقتادة معناه : لا تضيع حظك من الدنيا في تمتعك بالحلال وطلبك ، أي : إياه ، ونظرك لعاقبة دنياك ، وفي هذا التأويل بعض رفق . وقال الحسن : معناه : قدم الفضل وأمسك ما تبلغ به . وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف . وقيل : أرادوا بنصيبه الكفن ، وهذا وعظ متصل ، كأنهم قالوا : تترك جميع مالك ، لا يكون نصيبك منه إلا الكفن ; كما قال الشاعر :
نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تأوي فيهما وحنوط
وقال : أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك ، وهذا قريب من قول الزمخشري الحسن ( وأحسن ) إلى عباد الله ، أو بشكرك وطاعتك لله . ( كما أحسن الله إليك ) بتلك النعم التي خولكها ، والكاف للتشبيه ، وهو يكون في بعض الأوصاف ; لأن مماثلة إحسان العبد لإحسان الله من جميع الصفات يمتنع أن تكون ، فالتشبيه وقع في مطلق الإحسان ، أو تكون الكاف للتعليل ، أي : أحسن لأجل إحسان الله إليك . ( ولا تبغ الفساد ) أي : ما أنت عليه من البغي والظلم . ( على علم ) علم : مصدر ، يحتمل أن يكون مضافا إليه ومضافا إلى الله . فقال الجمهور : ادعى أن عنده علما استوجب به أن يكون صاحب تلك الكنوز . فقيل : علم التوراة وحفظها ، وكان أحد السبعين الذين اختارهم موسى للميقات ، وكانت هذه مغالطة . وقال أبو سليمان الداني : أي علم التجارة ووجوه المكاسب ، أي : أوتيته بإدراكي وسعيي . وقال : علم الكيمياء ، قال ابن المسيب : وكان ابن المسيب موسى عليه السلام يعلم الكيمياء ، وهي جعل الرصاص والنحاس ذهبا . وعن ابن عباس : على علم لصنعة الذهب ، ولعل ذلك لا يصح عنه ولا عن . وأنكر ابن المسيب علم الكيمياء وقال : باطل لا حقيقة له . انتهى . الزجاج
وكثيرا ما تولع أهل مصر بطلب أشياء من المستحيلات والخرافات ; من ذلك : تغوير الماء ، وخدمة الصور الممثلة في الجدر خطوطا ، وادعاؤهم أن تلك الخطوط تتحرك إذا خدمت بأنواع من الخدم لهم والكيمياء حتى أن مشايخ العلم عندهم ، الذين هم عندهم بصورة الولاية ، يتطلب ذلك من أجهل وارد من المغاربة . وقال ابن زيد وغيره : أراد ( أوتيته على علم ) من الله وتخصيص من لدنه قصدني به ، أي : فلا يلزمني فيه شيء مما قلتم ، ثم جعل قوله : ( عندي ) كما يقول : في معتقدي وعلى ما أراه . وقال مقاتل : ( على علم ) أي : على خير علمه الله عندي . والظاهر أن قوله : ( أولم يعلم ) تقرير لعلمه ذلك ، وتنبيه على خطئه في اغتراره أي : قد علم أن الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى ; لأنه قد قرأه في التوراة ، وأخبر به موسى ، وسمعه في التواريخ ، كأنه قيل : أولم يعلم في جملة ما عنده من العلم ؟ هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته . قال : ويجوز أن يكون نعتا لعلمه بذلك ; لأنه لما قال : ( الزمخشري أوتيته على علم عندي ) فتنفح بالعلم وتعظم به ، قيل : أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ؟ وأري نفسه به مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي نفسه مصارع الهالكين . انتهى . ( وأكثر جمعا ) إما للمال ، أو جماعة يحوطونه ويخدمونه . قال ابن عطية : ( أولم يعلم ) برجح أن [ ص: 134 ] قارون تشبع بعلم نفسه على زعمه .
وقرأ الجمهور : ( ولا يسأل ) مبنيا للمفعول و ( المجرمون ) رفع به ، وهو متصل بما قبله ، قاله محمد بن كعب . والضمير في ( ذنوبهم ) عائد على من أهلك من القرون ، أي : لا يسأل غيرهم ممن أجرم ، ولا ممن لم يجرم عمن أهلكه الله بل : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) . وقيل : أهلك من أهلك من القرون ، عن علم منه بذنوبهم ، فلم يحتج إلى مسألتهم عنها . وقيل : هو مستأنف عن حال يوم القيامة . قال قتادة : لا يسألون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها ; لأنهم يدخلون النار بغير حساب . وقال قتادة أيضا ومجاهد : لا تسألهم الملائكة عن ذنوبهم ; لأنهم يعرفونهم بسيماهم من السواد والتشويه ، كقوله : ( يعرف المجرمون بسيماهم ) . وقيل : لا يسألون سؤال توبيخ وتقريع . وقرأ أبو جعفر في روايته : " ولا تسأل " ، بالتاء والجزم ، " المجرمين " : نصب . وقرأ ، ابن سيرين وأبو العالية كذلك في " ولا تسأل " على النهي للمخاطب ، وكان ابن أبي إسحاق لا يجوز ذلك إلا أن يكون " المجرمين " بالياء في محل النصب ، بوقوع الفعل عليه . قال صاحب اللوامح : فالظاهر ما قاله ، ولم يبلغني في نصب المجرمين شيء ، فإن تركاه على رفعه ، فله وجهان : أحدهما : أن تكون الهاء والميم في ( عن ذنوبهم ) راجعة إلى ما تقدم من القرون ، وارتفاع " المجرمين " بإضمار المبتدأ ، وتقديره : هم المجرمون ، أو : أولئك المجرمون ، ومثله ( التائبون العابدون ) في التوبة . والثاني : أن يكون بدلا من أصل الهاء والميم في ( ذنوبهم ) ; لأنها - وإن كانت في محل الجر بالإضافة إليها - فإن أصلها الرفع ; لأن الإضافة إليها بمنزلة إضافة المصدر إلى اسم الفاعل ; فعلى ذلك ( المجرمون ) محمول على الأصل ، على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ : ( أن يضرب مثلا ما بعوضة ) بالجر ، على أنها بدل من أصل المثل ، و ( ما ) زائدة فيه ، وتقديره : لا يستحي بضرب مثل بعوضة ، أي : بضرب بعوضة . في ذلك فسر أن مع الفصل بالمصدر ناصب إلى المفعول به ، ثم أبدل منه البعوضة من غير أن أعرف فيها أثرا لحال . فأما قوله : من ذنوبهم ، فذنوب جمع ، فإن كان جمع مصدر ففي إعماله خلاف . وأما قوله على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ ، فقد ذكر في البقرة أنه سمع ذلك ، ولا نعرف فيها أثرا ، فينبغي أن لا يجعلها قراءة .
ولما ذكر تعالى قارون ونعته ، وما آتاه من الكنوز ، وفرحه بذلك فرح البطرين ، وادعاءه أن ما أوتي من ذلك إنما أوتيه على علم ، ذكر ما هو ناشئ عن التكبر والسرور بما أوتي ، فقال : ( فخرج على قومه في زينته ) وكان يوم السبت : أي : أظهر ما يقدر عليه من الملابس والمراكب وزينة الدنيا . قال جابر ، ومجاهد : في ثياب حمر . وقال ابن زيد : هو وحشمه في ثياب معصفرة . وقيل : في ثياب الأرجوان . وقيل : على بغلة شهباء عليها الأرجوان ، وعليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف على زيه . وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعلى يمينه ثلاثمائة غلام ، وعلى يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهم الحلي والديباج . وقيل : في تسعين ألفا عليهم المعصفرات ، وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر . وقيل غير ذلك من الكيفيات .
( قال الذين يريدون الحياة الدنيا ) قيل : كانوا مؤمنين . وقال قتادة : تمنوه ليتقربوا به إلى الله . وقيل : رغبة في اليسارة والثروة . وقيل : كانوا كفارا ، وتمنوا ( مثل ما أوتي قارون ) ولم يذكروا زوال نعمته ، وهذا من الغبطة . ( إنه لذو حظ عظيم ) أي : درجة عظيمة ، قاله الضحاك . وقيل : نصيب كثير من الدنيا ، والحظ البخت والسعد ، يقال : فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ . ( وقال الذين أوتوا العلم ) منهم : يوشع ، والعلم : معرفة الثواب والعقاب ، أو التوكل ، أو الإخبار ، أقوال . ( ويلكم ) دعاء بالشر . ( ثواب الله ) وهو ما أعده في الآخرة للمؤمن ( خير ) مما أوتي قارون . ( ولا يلقاها ) أي : هذه الحكمة ، وهي معرفة ثواب الله ، وقيل : الجنة ونعيمها . وقيل : هذه المقالة ، وهي قولهم : ( ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ) وبخهم بها . ( إلا الصابرون ) على الطاعات وعلى قمع أنفسهم عن الشهوات .
تقدم [ ص: 135 ] طرف من خبر قارون وحسده لموسى . ومن حسده أنه جعل لبغي جعلا ، على أن ترمي موسى بطلبها وبزنائها ، وأنها تابت إلى الله ، وأقرت أن قارون هو الذي جعل لها جعلا على رمي موسى بذلك ، فأمر الله الأرض أن تطيعه ، فقال : يا أرض ، خذيه وأتباعه ، فخسف بهم في حكاية طويلة ، الله أعلم بها . ولما خسف بقارون ومن معه ، فقال بنو إسرائيل : إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه ، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله . و " من " زائدة ، أي : من جماعة تفيد استغراق الفئات . وإذا انتفت الجملة ، ولم يقدر على نصره ، فانتفاء الواحد عن نصرته أبلغ . ( وما كان من المنتصرين ) أي : لم يكن في نفسه ممن يمتنع من عذاب الله .
( وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس ) بدل ، وأصبح ، إذا حمل على ظاهره ، أن الخسف به وبداره كان ليلا ، وهو أفظع العذاب ، إذ الليل مقر الراحة والسكون ، والأمس يحتمل أن يراد به الزمان الماضي ، ويحتمل أن يراد به ما قبل يوم الخسف ، وهو يوم التمني ، ويدل عليه العطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في قوله : ( فخسفنا ) فيكون فيه اعتقاب العذاب خروجه في زينته ، وفي ذلك تعجيل العذاب . ومكانه : منزلته في الدنيا من الثروة والحشم والأتباع . و " وي " عند الخليل : اسم فعل مثل : صه ومه ، ومعناها : أعجب . قال وسيبويه الخليل : وذلك أن القوم ندموا فقالوا : متندمين على ما سلف منهم : وي ، وكل من ندم فأظهر ندامته قال : وي . وكأن : هي كاف التشبيه الداخلة على " أن " ، وكتبت متصلة بكاف التشبيه لكثرة الاستعمال ، وأنشد : سيبويه
وي كأن من يكن له نشب يح بب ومن يفتقر يعش عيش ضر
والبيت لزيد بن عمرو بن نفيل . وحكى الفراء أن امرأة قالت لزوجها : أين ابنك ؟ فقال : ويكأنه وراء البيت ، وعلى هذا المذهب يكون الوقف على وي . وقالالأخفش : هي ويك ، وينبغي أن تكون الكاف حرف خطاب ، ولا موضع له من الإعراب ، والوقف عليه ويك ، ومنه قول عنترة :
ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
قال الأخفش : وأن عنده مفتوح بتقدير العلم ، أي : أعلم أن الله ، وقال الشاعر :
ألا ويك المضرة لا تدوم ولا يبقي على البؤس النعيم
وذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك ، فحذفت اللام والكاف في موضع جر بالإضافة . فعلى المذهب الأول قيل : تكون الكاف خالية من معنى التشبيه ، كما قيل : ( ليس كمثله شيء ) . وعلى المذهب الثاني ، فالمعنى : أعجب لأن الله . وعلى المذهب الثالث تكون ويلك كلمة تحزن ، والمعنى أيضا : لأن الله . وقال أبو زيد وفرقة معه : ويكأن ، حرف واحد بجملته ، وهو بمعنى : ألم تر . وبمعنى : ألم تر ، قال ابن عباس والكسائي وأبو عبيد . وقال الفراء : ويك في كلام العرب كقول الرجل : أما ترى إلى صنع الله ؟ وقال ابن قتيبة ، عن بعض أهل العلم أنه قال : معنى ويك : رحمة لك ، بلغة حمير .
ولما صدر منهم تمني حال قارون ، وشاهدوا الخسف ، كان ذلك زاجرا لهم عن حب الدنيا ، وداعيا إلى الرضا بقدر الله ، فتنبهوا لخطئهم فقالوا : وي ، ثم قالوا : ( كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ) بحسب مشيئته وحكمته ، لا لكرامته عليه ، ويضيق على من يشاء ، لا لهوانه ، بل لحكمته وقضائه ابتلاء . وقرأ : " لولا من الله " ، بحذف " أن " ، وهي مزادة . وروي عنه : " من الله " برفع النون والإضافة . وقرأ الجمهور : ( لخسف ) مبنيا للمفعول . الأعمش وحفص ، وعصمة ، وأبان عن عاصم ، وابن أبي حماد عن أبي بكر : مبنيا للفاعل . ، وطلحة ، وابن مسعود : " لانخسف بنا " ، كقولك : انقطع بنا ، كأنه فعل مطاوع ، والمقام مقام الفاعل هو ( بنا ) . ويجوز أن يكون المصدر أي : لانخسف الانخساف ، ومطاوع فعل لا يتعدى إلى مفعول به ، فلذلك بني [ ص: 136 ] إما للبناء وإما للمصدر . وعن والأعمش أيضا : " لتخسف " ، بتاء وشد السين ، مبنيا للمفعول . ابن مسعود