لما كان من قول أهل العلم والإيمان : ثواب الله خير ، ذكر محل الثواب ، وهو الدار الآخرة . والمعنى : تلك التي سمعت بذكرها ، وبلغك وصفها . ( الدار الآخرة ) أي : نعيم الدار الآخرة ، وهي الجنة ، والبقاء فيها سرمدا ، وعلق حصولها على مجرد الإرادة ، فكيف بمن باشر العلو والفساد ؟ ثم جاء التركيب بلا في قوله : ( ولا فسادا ) فدل على أن كل واحد من العلو والفساد مقصود ، لا مجموعهما . قال الحسن : العلو : العز والشرف إن جر البغي . الضحاك : الظلم والفساد يعم أنواع الشر . وعن علي ، كرم الله وجهه : أن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل تحتها . وعن الفضيل ، أنه قرأها ثم قال : ذهبت الأماني . وعن : أنه كان يرددها حتى قبض . ( عمر بن عبد العزيز فله خير منها ) يحتمل أن يكون ( خير ) أفعل التفضيل ، وأن يكون واحد الخيور ، أي : فله خير بسبب فعلها ، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : ( فلا يجزى الذين عملوا السيئات ) تهجينا لحالهم وتبغيضا للسيئة إلى قلوب السامعين ، ففيه بتكراره ما ليس فيه لو كان : فلا يجزون بالصهر وما كانوا ، على حذف : مثل ، أي : إلا مثل ما كانوا يعملون ; لأن جزاء السيئة سيئة مثلها ، والحسنة بعشر أمثالها .
( إن الذي فرض عليك القرآن ) قال عطاء : العمل به ; ومجاهد : أعطاكه ; ومقاتل : أنزله عليك ، وكذا قال الفراء وأبو عبيدة . وقال : أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه ; يعني أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف ليثيبك عليها ثوابا لا يحيط به الوصف . والمعاد قال الجمهور : في الآخرة أي : باعثك بعد الموت ، ففيه إثبات الجزاء والإعلام بوقوعه . وعن الزمخشري ، ابن عباس : المعاد : الموت . وقيل : وأبي سعيد الخدري بيت المقدس . وقيل : الجنة ، وكان قد دخلها ليلة المعراج . وقال أيضا ابن عباس ومجاهد : المعاد : مكة ، أراد رده إليها يوم الفتح . ونكره والمقصود : التعظيم ، أي معاد أي معاد ، أي : له شأن لغلبة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها وقهره لأهلها ، ولظهور عز الإسلام وأهله ، فكأن الله وعده وهو بمكة أنه يهاجر منها ويعود إليها ظافرا ظاهرا . وقيل : نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره ، وقد اشتاق إليها ، فقال له جبريل : أتشتاق إليها ؟ قال : نعم ، فأوحاها إليه . و " من " منصوب بإضمار فعل ، أي : يعلم من جاء بالهدى ، ومن أجاز أن يأتي " أفعل " بمعنى " فاعل " ، وأجاز مع ذلك أن ينصب به جاز أن ينتصب به ، إذ يؤوله بمعنى عالم ، ويعطيه حكمه من العمل .
ولما وعده تعالى أنه يرده إلى معاد ، وأنه تعالى فرض عليه القرآن أمره أن يقول للمشركين ذلك أي : هو تعالى عالم بمن جاء بالهدى ، وهو محمد ، وبما يستحقه من الثواب في معاده ، وهذا إذا عنى بالمعاد ما بعد الموت . ويعني بقوله : ( ومن هو في ضلال مبين ) المشركين الذين أمره الله بأن يبلغهم ذلك ، هو عالم بهم ، وبما يستحقونه من العقاب في معادهم ، وفي ذلك متاركة للكفار وتوبيخ . ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب ) هذا تذكير لنعمه تعالى على رسوله ، وأنه تعالى رحمه رحمة لم يتعلق بها رجاؤه . وقيل : بل هو معلق بقوله : ( إن الذي فرض عليك القرآن ) وأنت بحال من لا يرجو ذلك ، وانتصب ( رحمة ) على [ ص: 137 ] الاستثناء المنقطع ، أي : لكن رحمة من ربك سبقت ، فألقى إليك الكتاب . وقال : هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل : وما ألقي عليك الكتاب إلا رحمة من ربك . انتهى . فيكون استثناء متصلا ، إما من الأحوال ، وإما من المفعول له . وقرأ الجمهور : ( يصدنك ) مضارع صد وشدوا النون ، الزمخشري ويعقوب كذلك ، إلا أنه خففها . وقرئ : " يصدنك " مضارع أصد بمعنى صد ، حكاه أبو زيد عن رجل من كلب قال : وهي لغة قومه ، وقال الشاعر :
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم صدود السواقي عن أنوف الحوائم
( بعد إذ أنزلت إليك ) أي : بعد وقت إنزالها ، و " إذ " تضاف إليها أسماء الزمان كقوله : ( بعد إذ هديتنا ) ويومئذ ، وحينئذ . قال الضحاك : وذلك حين دعوه إلى دين آبائه ، أي : لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم ، فيصدونك عن اتباع آيات الله . ( وادع إلى ربك ) أي : دين ربك ، وهذه المناهي كلها ظاهرها أنها للرسول ، وهي في الحقيقة لأتباعه ، والهلاك يطلق بإزاء العدم المحض ، فالمعنى : أن الله يعدم كل شيء سواه . وبإزاء نفي الانتفاع به ، إما للإماتة ، أو بتفريق الأجزاء ، وإن كانت نافية يقال : هلك الثوب ، لا يريدون فناء أجزائه ، ولكن خروجه عن الانتفاع به . ومعنى : ( إلا وجهه ) إلا إياه ، قاله . وقال الزجاج مجاهد والسدي : هالك بالموت إلا العلماء ، فإن علمهم باق . انتهى . ويريدون إلا ما قصد به وجهه من العلم ، فإنه باق . وقال الضحاك : إلا الله عز وجل ، والعرش ، والجنة ، والنار . وقيل : ملكه ، ومنه : ( لمن الملك اليوم ) . وقال أبو عبيدة : المراد بالوجه جاهه الذي جعله في الناس . وقال : إلا وجهه : ما عمل لذاته ومن طاعته وتوجه به نحوه ، ومنه قول الشاعر : سفيان الثوري
رب العباد إليه الوجه والعمل
. وقوله : ( يريدون وجهه ) . ( له الحكم ) أي : فصل القضاء . ( وإليه ترجعون ) أي : إلى جزائه . وقرأ عيسى : " ترجعون " مبنيا للفاعل ، والجمهور مبنيا للمفعول .