الظاهر أن الإنسان هنا جنس الكافر ، وقيل : معين ، كعتبة بن ربيعة . ويدخل في الضر جميع المكاره في جسم أو أهل أو مال .
( دعا ربه ) : استجار ربه وناداه ، ولم يؤمل في كشف الضر سواه ، ( منيبا إليه ) أي : راجعا إليه وحده في إزالة ذلك .
( ثم إذا خوله ) : أناله وأعطاه بعد كشف ذلك الضر عنه . وحقيقة خوله أن يكون من قولهم : هو خائله ، قال : إذا كان متعهدا حسن القيام عليه ، أو من خال يخول ، إذا اختال وافتخر ، وتقول العرب :
إن الغني طويل الذيل مياس
( نسي ما كان يدعو ) أي : ترك ، والظاهر أن ما بمعنى الذي ، أي : نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه . وقيل : ما بمعنى من أي : نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل في كشف ضره . وقيل : ما مصدرية ، أي : نسي كونه يدعو .
وقيل : تم الكلام عند قوله : ( نسي ) ، أي : نسي ما كان فيه من الضر . وما نافية ، نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصا لله مقصورا من قبل الضرر ، وعلى الأقوال السابقة . ( من قبل ) أي : من قبل تخويل النعمة ، وهو زمان الضرر .
( وجعل لله أندادا ) أي : أمثالا يضاد بعضها بعضا ويعارض . قال قتادة أي : من الرجال يطيعونهم في المعصية . وقال غيره : أوثانا ، وهذا من سخف عقولهم . حين مس الضر دعوا الله ولم يلتجئوا في كشفه إلا إليه ; وحين كشف ذلك وخول النعمة أشركوا به ، فاللام لام العلة ، وقيل : لام العاقبة . وقرأ الجمهور : ( ليضل ) ، بضم الياء أي : ما اكتفى بضلال نفسه حتى جعل غيره يضل . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمر ، وعيسى : بفتحها ، ثم أتى بصيغة الأمر فقال : ( تمتع بكفرك قليلا ) أي : تلذذ واصنع ما شئت قليلا ، أي : عمرا قليلا ، والخطاب للكافر جاعل الأنداد لله .
( إنك من أصحاب النار ) أي : من سكانها المخلدين فيها . وقال : وقوله ( الزمخشري تمتع بكفرك ) ، أي : من باب الخذلان والتخلية ، كأنه قيل له : إذ قد أبيت قبل ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك . ويؤمر بتركه مبالغة خذلانه وتخليته وشأنه ؛ لأنه لا مبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمروا به ، ونظيره في المعنى : ( متاع قليل ثم مأواهم جهنم ) . انتهى .
ولما شرح تعالى شيئا من أحوال الظالمين الضالين المشركين ، أردفه بشرح أحوال المهتدين الموحدين فقال : ( أم من هو قانت ) . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، ، والأعمش وعيسى ، وشيبة ، والحسن في رواية : ( أمن ) ، بتخفيف الميم . والظاهر أن الهمزة لاستفهام التقرير ، ومقابله محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب بقوله : ( قل تمتع بكفرك ) ؟ ويدل عليه قوله : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) . ومن حذف المقابل قول الشاعر :
دعاني إليها القلب إني لأمرها سميع فما أدري أرشد طلابها
تقديره : أم غي .
وقال الفراء : الهمزة للنداء ، كأنه قيل : يا من هو قانت ، ويكون قوله : ( قل ) خطابا له ، وهذا القول أجنبي مما قبله وما بعده . وضعف هذا القول أبو علي الفارسي ، ولا التفات لتضعيف الأخفش وأبي حاتم هذه القراءة . وقرأ باقي السبعة ، والحسن ، وقتادة ، ، والأعرج وأبو جعفر : ( أمن ) ، بتشديد الميم ، وهي أم أدغمت ميمها في ميم من ، فاحتملت أم أن تكون متصلة ، ومعادلها محذوف قبلها ، تقديره : أهذا الكافر خير أم من هو قانت ؟ قال معناه الأخفش ، ويحتاج مثل هذا التقدير [ ص: 419 ] إلى سماع من العرب ، وهو أن يحذف المعادل الأول .
واحتملت أم أن تكون منقطعة تتقدر ببل والهمزة ، والتقدير : بل أم من هو قانت صفته كذا ، كمن ليس كذلك . وقال النحاس : ( أم ) بمعنى بل ، و ( من ) بمعنى الذي ، والتقدير : بل الذي هو قانت أفضل ممن ذكر قبله . انتهى .
ولا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل ، بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة ، يدل عليه مقابله : ( إنك من أصحاب النار ) . والقانت : المطيع ، قاله ، وتقدم الكلام في القنوت في البقرة . ابن عباس
وقرأ الجمهور : ( ساجدا وقائما ) ، بالنصب على الحال ; والضحاك : برفعهما إما على النعت لـ ( قانت ) وإما على أنه خبر بعد خبر ، والواو للجمع بين الصفتين .
( يحذر الآخرة ) أي : عذاب الآخرة ، ( ويرجو رحمة ربه ) أي : حصولها ، وقيل : نعيم الجنة ، وهذا المتصف بالقنوت إلى سائر الأوصاف ، قال مقاتل : عمار ، وصهيب ، ، وابن مسعود وأبو ذر . وقال : ابن عمر عثمان . وقال في رواية ابن عباس الضحاك : أبو بكر ، وعمر . وقال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . والظاهر أنه من اتصف بهذه الأوصاف من غير تعيين . يحيى بن سلام
وفي الآية دليل على ، وأنه أرجح من قيام النهار . فضل قيام الليل
ولما ذكر العمل ذكر العلم فقال : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) ، فدل أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين ، فكما لا يستوي هذان ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . والمراد بالعلم هنا : ما أدى إلى معرفة الله ونجاة العبد من سخطه . وقرأ : ( يذكر ) بإدغام تاء يتذكر في الذال .
( قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم ) ، وروي أنها نزلت في وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة ، وعدهم تعالى فقال : ( جعفر بن أبي طالب للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ) . والظاهر تعلق ( في هذه ) بـ ( أحسنوا ) ، وأن المحسنين في الدنيا لهم في الآخرة حسنة ، أي : حسنة عظيمة ، وهي الجنة ، قاله مقاتل ، والصفة محذوفة يدل عليها المعنى ؛ لأن من أحسن في الدنيا لا يوعد أن يكون له في الآخرة مطلق حسنة . وقال : ( في هذه ) من تمام ( حسنة ) ، أي : ولو تأخر لكان صفة ، أي : الذين يحسنون لهم حسنة كائنة في الدنيا . فلما تقدم انتصب على الحال ، والحسنة التي لهم في الدنيا هي العافية والظهور وولاية الله تعالى . السدي
ثم حض على الهجرة فقال : ( وأرض الله واسعة ) ، كقوله : ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) ، أي : لا عذر للمفرطين ألبتة ، حتى لو اعتلوا بأوطانهم ، وأنهم لا يتمكنون فيها من أعمال الطاعات ، قيل لهم : إن بلاد الله كثيرة واسعة ، فتحولوا إلى الأماكن التي تمكنكم فيها الطاعات .
وقال عطاء : ( وأرض الله ) المدينة للهجرة ، قيل : فعلى هذا يكون أحسنوا : هاجروا ، وحسنة : راحة من الأعداء .
وقال قوم : ( أرض الله ) هنا : الجنة . قال ابن عطية : وهذا القول تحكم ، لا دليل عليه . انتهى .
وقال أبو مسلم : لا يمتنع ذلك ؛ لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى ; ثم بين أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة ، وهي الخلود في الجنة ; ثم بين أن أرض الله واسعة لقوله : ( وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ) ، وقوله : ( وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ) .
ولما كانت رتبة الإحسان منتهى الرتب ، كما جاء : ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه . وكان الصبر على ذلك من أشق الأشياء ، وخصوصا من فارق وطنه وعشيرته وصبر على بلاء الغربة . ذكر أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب ، أي : لا يحاسبون في الآخرة ، كما يحاسب غيرهم ; أو يوفون ما لا يحصره حساب من الكثرة .
( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ) : أمره تعالى أن يصدع الكفار بما أمر به من عبادة الله ، يخلصها من الشوائب ، ( وأمرت ) أي : أمرت بما أمرت ، لأكون أول من أسلم ، أي : انقاد لله تعالى ، ويعني من أهل عصره أو من قومه ؛ لأنه أول من خالف عباد الأصنام ، أو أول من دعوتهم إلى الإسلام إسلاما ، أو أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ، لأكون مقتدى بي قولا وفعلا ، [ ص: 420 ] لا كالملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون ، أو أن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب . وقال : فإن قلت : كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد ؟ ( قلت ) : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما ، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء ، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء . وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين ، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت ؛ لأن أفعل لا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح ، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه ، كما عوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع . والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله : ( وأمرت أن أكون أول من أسلم ) . انتهى . الزمخشري
ويحتمل في ( أن أكون ) في ثلاثة المواضع أصله " لأن أكون ) ، فيكون قد حذفت اللام ، والمأمور به محذوف ، وهو المصرح به هنا ( إني أمرت أن أعبد الله ) .
( قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) : تقدم الكلام على هذه الجملة ، مقول القول في سورة يونس .
ولما أمره أولا أن يخبر بأنه أمر بعبادة الله ، أمر ثانيا أن يخبر بأنه يعبد الله وحده . وتقديم الجلالة دال على الاهتمام بمن يعبد ، وعند يدل على الاختصاص ، قال : ولدلالته على ذلك ، قدم المعبود على فعل العبادة ، وأخره في الأول . فالكلام أولا واقع في الفعل في نفسه وإيجاده ، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله ، ولذلك رتب عليه قوله : ( الزمخشري فاعبدوا ما شئتم من دونه ) . والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان والتخلية . انتهى .
وقال غيره : ( فاعبدوا ما شئتم ) : صيغة أمر على جهة التهديد لقوله : ( قل تمتع بكفرك ) .
( قل إن الخاسرين ) أي : حقيقة الخسران ، ( الذين خسروا ) أي : هم الذين خسروا أنفسهم ، حيث صاروا من أهل النار ، وأهليهم الذين كانوا معهم في الدنيا ، حيث كانوا معهم في النار ، فلم ينتفعوا منهم بشيء ، وإن كان أهلوهم قد آمنوا ، فخسرانهم إياهم كونهم لا يجتمعون بهم ولا يرجعون إليهم .
وقال قتادة : كأن الله قد أعد لهم أهلا في الجنة فخسروهم ، وقال معناه . وقال ميمون بن مهران الحسن : هي الحور العين .
ثم ذكر ذلك الخسران وبالغ فيه في التنبيه عليه أولا ، والإشارة إليه ، وتأكيده بالفعل ، وتعريفه بأل ، ووصفه بأنه المبين أي : الواضح لمن تأمله أدنى تأمل .
ولما ذكر خسرانهم أنفسهم وأهليهم ، ذكر حالهم في جهنم ، وأنه من فوقهم ظلل ومن تحتهم ظلل ، فيظهر أن النار تغشاهم من فوقهم ومن تحتهم ، وسمى ما تحتهم ظللا لمقابلة ما فوقهم ، كما قال : ( يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) ، وقال لهم : ( من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) وقيل : هي ظلل للذين هم تحتهم ، إذ النار طباق . وقيل : إنما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة ، فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيرا .
( ذلك ) أي : ذلك العذاب ، يخوف الله به عباده ؛ ليعلموا ما يخلصكم منه ، ثم ناداهم وأمرهم فقال : ( ياعباد فاتقون ) أي : اتقوا عذابي .