[ ص: 477 ] أمر تعالى نبيه بالصبر تأنيسا له ، وإلا فهو - عليه السلام - في غاية الصبر ، وأخبر بأن ما وعده من النصر والظفر وإعلاء كلمته وإظهار دينه حق .
قيل : وجواب ( فإما نرينك ) محذوف لدلالة المعنى عليه ، أي : فيقر عينك ، ولا يصح أن يكون ( فإلينا يرجعون ) جوابا للمعطوف عليه والمعطوف ؛ لأن تركيب ( فإما نرينك ) بعض الموعود في حياتك ، ( فإلينا يرجعون ) ليس بظاهر ، وهو يصح أن يكون جواب ، ( أو نتوفينك ) أي : ( فإلينا يرجعون ) ، فننتقم منهم ونعذبهم لكونهم لم يتبعوك .
ونظير هذه الآية قوله : ( فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون ) ، إلا أنه هنا صرح بجواب الشرطين .
وقال : ( الزمخشري فإلينا يرجعون ) متعلق بقوله : ( نتوفينك ) ، وجزاء ( نرينك ) محذوف تقديره : فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب ، وهو القتل يوم بدر فذاك ، أو أن نتوفينك قبل يوم بدر ، فإلينا يرجعون يوم القيامة ، فننتقم منهم أشد الانتقام .
وقد تقدم نحو هذا البحث في سورة للزمخشري يونس في قوله : ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ) ، ورددنا عليه ، فيطالع هناك .
وقال أيضا : ( الزمخشري فإما نرينك ) أصله فإن نرك ، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، ولذلك ألحقت النون بالفعل .
ألا تراك لا تقول : إن تكرمني أكرمك ، ولكن أما تكرمني أكرمك ؟ انتهى .
وما ذهب إليه من تلازم ما المزيدة ونون التوكيد بعد إن الشرطية هو مذهب المبرد . والزجاج
وذهب إلى أنك إن شئت أتيت بما دون النون ، وإن شئت أتيت بالنون دون ما . سيبويه
قال في هذه المسألة : وإن شئت لم تقحم النون ; كما أنك إذا جئت لم تجئ بما يعني لم تقحم النون مع مجيئك بما ، ولم تجئ بما مع مجيئك بالنون . سيبويه
وقرأ الجمهور : ( يرجعون ) بياء الغيبة مبنيا للمفعول ; وأبو عبد الرحمن ، ويعقوب بفتح الياء ; وطلحة بن مطرف ، ويعقوب في رواية الوليد بن حسان : بفتح تاء الخطاب .
ثم رد تعالى على العرب في إنكارهم بعثة الرسل ، وفي عدد الرسل اختلاف .
روي أنه ثمانية آلاف من بني إسرائيل ، وأربعة آلاف من غيرهم .
وروي : بعث الله أربعة آلاف نبي ، ( منهم من قصصنا عليك ) أي : من أخبرناك به ، أما في القرآن فثمانية عشر .
( ومنهم من لم نقصص عليك ) ، وعن علي ، : أن [ ص: 478 ] الله بعث نبيا أسود في الحبش ، فهو ممن لم يقصص عليه . وابن عباس
( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ) أي : ليس ذلك راجعا إليهم ، لما اقترحوا على الرسل ، قال : ليس ذلك إلي لا تأتي آية إلا إن شاء الله ، ( فإذا جاء أمر الله ) : رد ووعيد بإثر اقتراحهم الآيات ، و ( أمر الله ) القيامة .
و ( المبطلون ) المعاندون مقترحو الآيات ، وقد أتتهم الآيات ، فأنكروها وسموها سحرا ، أو ( فإذا جاء أمر الله ) أي : أراد إرسال رسول وبعثة نبي ، قضى ذلك وأنفذه ( بالحق ) ، وخسر كل مبطل ، وحصل على فساد آخرته ، أو ( فإذا جاء أمر الله ) : وهو القتل ببدر .
ثم ذكر تعالى آيات اعتبار وتعداد نعم فقال : ( الله الذي جعل لكم الأنعام ) ، وهي ثمانية الأزواج ، ويضعف قول من أدرج فيها الخيل والبغال والحمير وغير ذلك مما ينتفع به من البهائم ، وقول من خصها بالإبل وهو . الزجاج
( لتركبوا منها ) : وهي الإبل ، إذ لم يعهد ركوب غيرها .
( ومنها تأكلون ) : عام في ثمانية الأزواج ، و ( من ) الأولى للتبعيض . وقال ابن عطية : و ( من ) الثانية لبيان الجنس ؛ لأن الجمل منها يؤكل ، انتهى . ولا يظهر كونها لبيان الجنس ، ويجوز أن تكون فيه للتبعيض ولابتداء الغاية . ولما كان الركوب منها هو أعظم منفعة ، إذ فيه منفعة الأكل والركوب .
وذكر أيضا أن في الجميع منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك ، أكد منفعة الركوب بقوله : ( ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم ) من بلوغ الأسفار الطويلة ، وحمل الأثقال إلى البلاد الشاسعة ، وقضاء فريضة الحج ، والغزو ، وما أشبه ذلك من المنافع الدينية والدنيوية .
ولما كان الركوب وبلوغ الحاجة المترتبة عليه قد يتوصل به إلى الانتقال لأمر واجب ، أو مندوب كالحج وطلب العلم ، دخل حرف التعليل على الركوب وعلى المترتب عليه من بلوغ الحاجات ، فجعل ذلك علة لجعل الأنعام لنا .
ولما كان الأكل وإصابة المنافع من جنس المباحات ، لم يجعل ذلك علة في الجعل ، بل ذكر أن منها نأكل ، ولنا فيها منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك ، كما أدخل لام التعليل في ( لتركبوها ) ولم يدخلها على الزينة في قوله : ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ) .
ولما ذكر تعالى ما امتن به من منة الركوب للإبل في البر ، ذكر ما امتن به من نعمة الركوب في البحر فقال : ( وعليها وعلى الفلك تحملون ) .
ولما كان الفلك يصح أن يقال فيه : حمل في الفلك ، كقوله : ( احمل فيها ) ، ويصح أن يقال فيه حمل على الفلك ، اعتبر لفظ على لمناسبة قوله : ( وعليها ) ، وإن كان معنى في صحيحا ( ويريكم آياته ) أي : حججه وأدلته على وحدانيته .
( فأي آيات الله تنكرون ) أي : إنها كثيرة ، فأيها ينكر ؟ أي : لا يمكن إنكار شيء منها في العقول ، ( فأي آيات الله ) منصوب بـ ( تنكرون ) .
قال : ( الزمخشري فأي آيات ) جاءت على اللغة المستفيضة ، وقولك : فأية آيات الله قليل ؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو : حمار وحمارة غريب ، وهي في ( أي ) أغرب لإبهامه . انتهى ، ومن قلة تأنيث أي قوله :
بأي كتاب أم بأية سنة ترى حبهم عارا علي وتحسب
وقوله : وهي في أي أغرب ، إن عنى أيا على الإطلاق فليس بصحيح ؛ لأن المستفيض في النداء أن يؤنث نداء المؤنث لقوله تعالى : ( يا أيتها النفس المطمئنة ) ، ولا يعلم من يذكرها فيه فيقول : يا أيها المرأة ، إلا صاحب كتاب ( البديع في النحو ) . وإن عنى غير المناداة ، فكلامه صحيح ، فقل تأنيثها في الاستفهام ، وموصولة ، وما في قوله : ( فما أغنى ) نافية شرطية واستفهامية في معنى النفي ، وما ( فيما كانوا ) مصدرية ، أو بمعنى الذي ، وهي في موضع رفع ، والضمير في ( جاءتهم ) عائد على ( الذين من قبلهم ) . وجاء قوله : ( من العلم ) على جهة التهكم بهم ، أي : في الحقيقة لا علم لهم ، وإنما لهم خيالات واستبعادات لما جاءت به الرسل ، وكانوا يدفعون ما جاءت به الرسل بنحو قولهم : ( ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) ، أو اعتقدوا أن عندهم [ ص: 479 ] علما يستغنون به عن علم الأنبياء ، كما تزعم الفلاسفة . والدهريون كانوا إذا سمعوا بوحي الله ، دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم .
ولما سمع سقراط - لعنه الله - بموسى ، صلوات الله على نبينا وعليه ، قيل له : لو هاجرت إليه ، فقال : نحن قوم مهذبون ، فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا .
وعلى هذين القولين تكون الضمائر متناسقة عائدة على مدلول واحد وقيل : الضمير في ( فرحوا ) ، وفي ( بما عندهم ) عائد على الرسل ، أي : فرحت الرسل بما أوتوا من العلم ، وشكروا الله عليه ، لما رأوا جهل من أرسلوا إليهم واستهزاءهم بالحق ، وعلموا سوء عاقبتهم . وقيل : الضمير في ( فرحوا ) عائد على الأمم ، وفي ( بما عندهم ) عائد على الرسل أي : فرح الكفار بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء .
وقال : ومنها ، أي من الوجوه التي في الآية في قوله : ( الزمخشري فرحوا بما عندهم من العلم ) ، مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والسرور في تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلم . انتهى .
ويعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام ، نحو قولهم : شر أهر ذا ناب ، على خلاف فيه ، ولما آل أمره إلى الإيتاء المحصور جاز .
وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل ؛ لأن في ذلك تخليطا لمعاني الجمل المتباينة ، فلا يوثق بشيء منها .
وقال : ويجوز أن يراد ( الزمخشري فرحوا بما عندهم من العلم ) : علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال تعالى : ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) ذلك مبلغهم من العلم ، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات ، وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات ، لم يلتفتوا إليها ، وصغروها واستهزؤوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ، ففرحوا به . انتهى .
وهو توجيه حسن ، لكن فيه إكثار وشقشقة .
( بأسنا ) أي : عذابنا الشديد ، حكى حال من آمن بعد تلبيس العذاب به ، وأن ذلك لم يك نافعا ، وفي ذلك حض على المبادرة إلى الإيمان ، وتخويف من التأني . فأما قوم يونس ، فإنهم رأوا العذاب لم يلتبس بهم ، وتقدمت قصتهم . و ( إيمانهم ) مرفوع بـ ( يك ) اسما لها ، أو فاعل ( ينفعهم ) .
وفي ( يك ) ضمير الشأن على الخلاف الذي في : كان يقوم زيد ، ودخل حرف النفي على الكون لا على النفي ؛ لأنه يؤدي إلى نفي الصحة ، أي لم يصح ولم يستقم لقوله : ( ما كان لله أن يتخذ من ولد ) . وترادف هذه الفاءات ، أما في ( فما أغنى ) ، فلأنه كان نتيجة قوله : ( كانوا أكثر منهم ولما جاءتهم رسلهم ) ، جار مجرى البيان والتفسير لقوله : ( فما أغنى عنهم ) . و ( فلما رأوا بأسنا ) تابع لقوله : ( فلما جاءتهم ) ، كأنه قال : فكفروا به فلما رأوا بأسنا آمنوا ولم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله ، وانتصب ( سنة ) على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، أي : أن ما فعل بهم هي ( سنة ) الله التي قد مضت وسبقت في عباده من إرسال الرسل والإعزاز بهم ، وتعذيب من كذبهم ، واستهانتهم واستئصالهم بالهلاك ، وعدم الانتفاع بالإيمان حالة تلبس العذاب بهم .
وهنالك ظرف مكان استعير للزمان ، أي : وخسر في ذلك الوقت الكافرون .
وقيل : ( سنة ) منصوب على التحذير ، أي : احذروا سنة الله يا أهل مكة في إعداد الرسل .