ولما كان أول الرسل نوح - عليه السلام - ، وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ) ، ثم أتبع ذلك ما وصى به إبراهيم ، إذ كان أبا العرب ، ففي ذلك هزلهم وبعث على اتباع طريقته ، وموسى وعيسى - صلوات الله عليهم - ؛ لأنهما هما اللذان كان أتباعهما موجودين زمان بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والشرائع متفقة فيما ذكرنا من العقائد ، وفي كثير من الأحكام ، كتحريم الزنا والقتل بغير حق . والشرائع مشتملة على عقائد وأحكام ; ويقال : إن نوحا أول من أتى بتحريم البنات والأمهات وذوات المحارم .
وقال : اختار ، ويحتمل أن تكون ( أن ) مفسرة ؛ لأن قبلها ما هو بمعنى القول ، فلا موضع لها من الإعراب . ابن عباس
وأن تكون أن المصدرية ، فتكون في موضع نصب على البدل من ما ; وما عطف عليها ، أو في موضع رفع ، أي : ذلك ، أو هو إقامة الدين ، وهو توحيد الله وما يتبعه مما لا بد من اعتقاده .
ثم نهى عن التفرقة فيه ؛ لأن التفرق سبب للهلاك ، والاجتماع والألفة سبب للنجاة .
( كبر على المشركين ) أي : عظم وشق ، ( ما تدعوهم ) من توحيد الله وترك عبادة الأصنام وإقامة الدين . ( إليه الله يجتبي ) : يجتلب ويجمع ، ( إليه من يشاء ) هدايته ، وهذا تسلية للرسول . وقيل : يجتبي ، فيجعله رسولا إلى عباده ، ( ويهدي إليه من ينيب ) : يرجع إلى طاعته عن كفره .
وقال : ( من يشاء ) : من ينفع فيهم توفيقه ويجري عليهم لطفه . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال . الزمخشري
وقال الحافظ : لم يكن مع أبو بكر بن العربي آدم - عليه السلام - إلا بنوه ، ولم تفرض له الفرائض ، ولا شرعت له المحارم ، وإنما كان منبها على بعض الأمور ، مقتصرا على ضرورات المعاش .
واستمر الهدى إلى نوح ، فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات ، ووظف عليه الواجبات ، وأوضح له الأدب في الديانات . ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحدا بعد واحد وشريعة إثر شريعة ، حتى ختمه الله بخير الملل على لسان أكرم الرسل ، فكان المعنى : أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع ، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والحج والتقريب بصالح الأعمال ، والصدق والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة وصلة الرحم ، وتحريم الكبر والزنا والإذاية للخلق كيفما تصرفت ، والاعتداء على الحيوان ، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات ; فهذا كله مشروع ، دينا واحدا ، أو ملة متحدة ، لم يختلف على ألسنة الأنبياء ، وإن اختلفت أعدادهم ، وذلك قوله : ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) أي : اجعلوه قائما ، يريد دائما مستمرا محفوظا مستقرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب . انتهى .
وقال مجاهد : لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار بالله وطاعته ، فهو إقامة الدين . وقال أبو العالية : إقامة الدين : الإخلاص لله وعبادته ، ( ولا تتفرقوا فيه ) ، قال أبو العالية : لا تتعادوا فيه . وقال مقاتل : معناه لا تختلفوا ، فإن كل نبي مصدق .
وقيل : لا تتفرقوا فيه ، فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض .
( وما تفرقوا ) ، قال : يعني قريشا ، و ( العلم ) ابن عباس محمد - عليه الصلاة والسلام - وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي ، كما قال : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ) ، يريدون نبيا . وقيل : الضمير يعود على أمم الأنبياء ، جاءهم العلم ، فطال عليهم الأمد ، فآمن قوم وكفر قوم . وقال أيضا : عائد على أهل الكتاب والمشركين ، دليله : ( ابن عباس وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) ، قال المشركون : لم خص بالنبوة ؟ واليهود والنصارى حسدوه .
( ولولا كلمة ) أي : عدة التأخر إلى يوم القيامة ، فحينئذ يقع الجزاء ، ( لقضي بينهم ) : لجوزوا بأعمالهم في الدنيا ; لكنه قضى أن ذلك لا يكون إلا في الآخرة .
وقال : الكلمة قوله : ( الزجاج بل الساعة موعدهم ) .
[ ص: 513 ] ( وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم ) هم بقية أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ( من بعدهم ) أي : من بعد أسلافهم ، أو هم المشركون ، أورثوا الكتاب من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل . وقرأ : ( ورثوا ) مبنيا للمفعول مشدد الراء ، ( زيد بن علي لفي شك منه ) أي : من كتابهم ، أو من القرآن ، أو مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - أو من الدين الذي وصى به نوحا . ولما تقدم شيئان : الأمر بإقامة الدين ، وتفرق الذين جاءهم العلم واختلافهم وكونهم في شك ، احتمل قوله .
( فلذلك ) ، أن يكون إشارة إلى إقامة الدين ، أي : فادع لدين الله وإقامته ، لا تحتاج إلى تقدير اللام بمعنى لأجل ؛ لأن دعا يتعدى باللام ، قال الشاعر :
دعوت لما نابني مسورا فلبى فلبى يدي مسورا
واحتمل أن تكون اللام للعلة ، أي : فلأجل ذلك التفرق ،ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبا ، ( فادع ) إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية ، ( واستقم ) أي : دم على الاستقامة ، وتقدم الكلام على ( فاستقم كما أمرت ) ، وكيفية هذا التشبيه في أواخر هود .
( ولا تتبع أهواءهم ) المختلفة الباطلة ، وأمره بأن يصرح أنه آمن بكل كتاب أنزله الله ؛ لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض .
( وأمرت لأعدل بينكم ) ، قيل : إن المعنى : وأمرت بما أمرت به لأعدل بينكم في إيصال ما أمرت به إليكم ، لا أخص شخصا بشيء دون شخص ، فالشريعة واحدة ، والأحكام مشترك فيها .
وقيل : ( لأعدل بينكم ) في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم .
( لا حجة بيننا وبينكم ) أي : قد وضحت الحجج وقامت البراهين وأنتم محجوجون ، فلا حاجة إلى إظهار حجة بعد ذلك .
( الله يجمع بيننا ) وبينكم ، أي : يوم القيامة ، فيفصل بيننا .
وما يظهر في هذه الآية من الموادعة منسوخ بآية السيف .
( والذين يحاجون في الله ) أي : يخاصمون في دينه ، قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم ومحاجتهم ، بل قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ; فديننا أفضل ، فنزلت الآية في ذلك . وقيل : نزلت في قريش ، كانوا يجادلون في هذا المعنى ، ويطمعون في رد المؤمنين إلى الجاهلية . و ( استجيب ) مبني للمفعول ، فقيل : المعنى من بعد ما استجاب الناس لله ، أي : لدينه ودخلوا فيه . وقيل : من بعد ما استجاب الله له ، أي : لرسوله ودينه ، بأن نصره يوم بدر وظهر دينه .
( حجتهم داحضة ) أي : باطلة لا ثبوت لها . ولما ذكر من يحاج في دين الإسلام ، صرح بأنه تعالى هو الذي أنزل الكتاب ، والكتاب جنس يراد به الكتب الإلهية .
( والميزان ) ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم : هو المعدل ; وعن ابن مجاهد : هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس ، وهذا مندرج في العدل .
( وما يدريك ) أيها المخاطب ، ( لعل الساعة قريب ) ، ذكر على معنى البعث أو على حذف مضاف أي : لعل مجيء الساعة ; و ( لعل الساعة ) في موضع معمول ( وما يدريك ) ، وتقدم الكلام على مثل هذا في قوله في آخر الأنبياء : ( وإن أدري لعله فتنة لكم ) .
وتوافقت هذه الجملة مع قوله : ( الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ) .
الساعة : يوم الحساب ووضع الموازين القسط ، فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم .
( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ) ( بها ) بطلب وقوعها عاجلة ؛ لأنهم ليسوا موقنين بوقوعها ، ليبين عجز من يؤمن بها عندهم ، أي : هي مما لا يقع عندهم .
( ألا إن الذين يمارون ) ويلحون في أمر الساعة ، ( لفي ضلال بعيد ) عن الحق ؛ لأن البعث غير مستبعد من قدرة الله ، ودل عليه الكتاب المعجز ، فوجب الإيمان به .
( الله لطيف بعباده ) أي : بر بعباده المؤمنين ، ومن سبق له الخلود في الدنيا ، وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف ، إنما هو إملاء ، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة والوفاة على [ ص: 514 ] الإسلام .
وقال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعا .
وقال : يوصل بره إلى جميعهم ، ( الزمخشري يرزق من يشاء ) أي : من يشاء يرزقه شيئا خاصا ، ويحرم من يشاء من ذلك الشيء الخاص ، وكل منهم مرزوق ، وإن اختلف الرزق ، ( وهو القوي ) أي : البالغ القوة ، وهي القدرة ( العزيز ) : الغالب الذي لا يغلب .
ولما ذكر تعالى الرزق ، ذكر حديث الكسب . ولما كان الحرث في الأرض أصلا من أصول المكاسب ، استعير لكل مكسب أريد به النماء والفائدة ، أي : من كان يريد عمل الآخرة ، وسعى لها سعيها ، ( نزد له في حرثه ) أي : في جزاء حرثه من تضعيف الحسنات ، ( ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها ) أي : العمل لها لا لآخرته ، ( نؤته منها ) أي : نعطه شيئا منها ، وما له في الآخرة من نصيب ؛ لأنه لم يعمل شيئا للآخرة .
والجملة الأولى وعد منجز ، والثانية مقيدة بمشيئته تعالى ، فلا يناله إلا رزقه الذي فرغ منه ، وكل ما يريده هو .
واقتصر في عامل الآخرة على ذكر حظه في الآخرة ، كأنه غير معتبر ، فلا يناسب ذكر مع ما أعد الله له في الآخرة لمن يشاء ما يشاء .
وجعل فعل الشرط ماضيا ، والجواب مجزوم لقوله تعالى : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) ، ولا نعلم خلافا في جواز الجزم ، فإنه فصيح مختار ، إلا ما ذكره صاحب كتاب الإعراب ، وهو أبو الحكم بن عذرة ، عن بعض النحويين ، أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع كأن ؛ لأنها أصل الأفعال ، ولا يجيء مع غيرها من الأفعال .
ونص كلام والجماعة أنه لا يختص ذلك بـ ( كان ) بل سائر الأفعال في ذلك مثلها ، وأنشد سيبويه للفرزدق : سيبويه
دست رسولا بأن القوم إن قدروا عليك يشفوا صدورا ذات توغير
وقال آخر :
تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وقرأ الجمهور ( نزد ) و ( نؤته ) بالنون فيهما : وابن مقسم ، والزعفراني ، ومحبوب ، والمنقري ، كلاهما عن أبي عمرو : بالياء فيهما . وقرأ سلام ( نؤته ) منها برفع الهاء ، وهي لغة الحجاز .