بين تعالى أن منافع الدنيا وطيباتها حقيرة خسيسة عند الله ، أي ولولا أن يرغب الناس في الكفر ، إذا رأوا الكافر في سعة ، ويصيروا أمة واحدة في الكفر . قال ، ابن عباس والحسن ، وقتادة ، والسدي : لأعطيناهم من زينة الدنيا كذا وكذا ، ولكن تعالى اقتضت حكمته أن يغني ويفقر الكافر والمؤمن . قال ابن عطية : واللام في : لمن يكفر ، لام الملك ، وفي : لبيوتهم ، لام تخصيص ، كما تقول : هذا الكساء لزيد [ ص: 15 ] لدابته ، أي هو لدابته حلس ولزيد ملك ، انتهى . ولا يصح ما قاله ، لأن لبيوتهم بدل اشتمال أعيد معه العامل ، فلا يمكن من حيث هو بدل أن تكون اللام الثانية إلا بمعنى اللام الأولى . أما أن يختلف المدلول فلا واللام في كليهما للتخصيص . وقال : لبيوتهم بدل اشتمال من قوله : ( الزمخشري لمن يكفر ) ، ويجوز أن تكونا بمنزلة اللامين في قولك : وهبت له ثوبا لقميصه . انتهى ، ولا أدري ما أراد بقوله : ويجوز إلى آخره . وقرأ الجمهور : سقفا ، بضمتين ، وأبو رجاء : بضم وسكون ، وهما جمع سقف ، لغة تميم ، كرهن ورهن ، وابن كثير وأبو عمرو : بفتح السين والسكون على الإفراد . وقال الفراء : جمع سقيفة ، وقرئ بفتحتين ، كأنه لغة في سقف ، وقرئ : سقوفا ، جمعا على فعول نحو كعب وكعوب . وقرأ الجمهور : ومعارج . جمع معرج ، وطلحة : ومعاريج . جمع معراج ، وهي المصاعد إلى العلالي عليها ، أي يعلون السطوح ، كما قال : ( فما اسطاعوا أن يظهروه ) . وقرأ الجمهور : وسررا ، بضم السين ، وقرئ بفتحها ، وهي لغة لبعض تميم وبعض كلب ، وذلك في جمع فعيل المضعف إذا كان اسما - باتفاق - وصفة نحو : ثوب جديد ، وثياب جدد ، باختلاف بين النحاة . وهذه الأسماء معاطيف على قوله : ( سقفا من فضة ) ، فلا يتعين أن توصف المعاطيف بكونها من فضة . وقال : سقوفا ومصاعد وأبوابا وسررا كلها من فضة . انتهى ، كأنه يرى اشتراك المعاطيف في وصف ما عطفت عليه وزخرفا . قال الزمخشري : وجعلنا لهم زخرفا ، ويجوز أن يكون الأصل : سقفا من فضة وزخرف ، يعني بعضها من فضة وبعضها من ذهب ، فنصب عطفا على محل من فضة . انتهى . والزخرف : الذهب هنا ، قاله الزمخشري ابن عباس والحسن وقتادة والسدي . وفي الحديث : " إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان " . قال ابن عطية : الحسن أحمر ، والشهوات تتبعه . انتهى . قال بعض شعرائنا :
وصبغت درعك من دماء كماتهم لما رأيت الحسن يلبس أحمرا
وقال ابن زيد : الزخرف : أثاث البيت ، وما يتخذ له من السرر والنمارق . وقال الحسن : النقوش ، وقيل : التزاويق كالنقش . وقرأ الجمهور : لما ، بفتح اللام وتخفيف الميم : هي مخففة من الثقيلة ، واللام الفارقة بين الإيجاب والنفي ، وما : زائدة ، ومتاع خبر " كل " . وقرأ الحسن ، وطلحة ، ، والأعمش وعيسى ، وعاصم ، وحمزة : لما ، بتشديد الميم ، وإن نافية ، ولما : بمعنى إلا . وقرأ أبو رجاء ، وأبو حيوة : لما بكسر اللام ، وخرجوه على أن ما موصولة والعائد محذوف تقديره : للذي هو متاع كقوله تماما على الذي أحسن . وإن في هذا التخريج هي المخففة من الثقيلة ، وكل : مبتدأ ، وخبره في المجرور ، أي : وإن كل ذلك لكائن أو لمستقر الذي هو متاع ، ومن حيث هي المخففة من الثقيلة كان الإتيان باللام هو الوجه ، فكان يكون التركيب لكما متاع ، لكنه قد تحذف هذه اللام إذا دل المعنى على أن إن هي المخففة من الثقيلة ، فلا يجر إلى ذكر اللام الفارقة ، ومن ذلك قول الشاعر :ونحن أباة الضيم من آل مالك وإن مالك كانت كرام المعادن يريد : لكانت ، ولكنه حذف لأنه لا يتوهم في إن أن تكون نافية ، لأن صدر البيت يدل على المدح ، وتعين إن لكونها المخففة من الثقيلة . ( والآخرة عند ربك للمتقين ) : أي ونعيم الآخرة ، وفيه تحريض على التقوى . وقرأ : ومن يعش ، بضم الشين ، أي يتعام ويتجاهل عن ذكره ، وهو يعرف الحق . وقيل : يقل نظره في شرع الله ، ويغمض جفونه عن النظر في : ( ذكر الرحمن ) . والذكر هنا ، يجوز أن يراد به القرآن ، واحتمل أن يكون مصدرا أضيف إلى المفعول ، أي يعش عن أن يذكر الرحمن . وقال ابن عطية : أي فيما ذكر عباده ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل . انتهى ، كأنه يريد بالذكر التذكير . وقرأ يحيى بن سلام [ ص: 16 ] البصري : ومن يعش ، بفتح الشين ، أي يعم عن ذكر الرحمن ، وهو القرآن ، كقوله : ( صم بكم عمي ) . وقرأ : يعشو بالواو . وقال زيد بن علي : على أن من موصولة غير مضمنة معنى الشرط ، وحق هذا القارئ أن يرفع نقيض . انتهى . ولا يتعين ما قاله ، إذ تتخرج هذه القراءة على وجهين : أحدهما : أن تكون من شرطية ، ويعشو مجزوم بحذف الحركة تقديرا . وقد ذكر الزمخشري الأخفش أن ذلك لغة بعض العرب ، ويحذفون حروف العلة للجازم . والمشهور عند النحاة أن ذلك يكون في الشعر ، لا في الكلام . والوجه الثاني : أن تكون من موصولة والجزم بسببها للموصول باسم الشرط ، وإذا كان ذلك مسموعا في الذي ، وهو لم يكن اسم شرط قط ، فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولا وشرطا . قال الشاعر :
ولا تحفرن بئرا تريد أخا بها فإنك فيها أنت من دونه تقع كذاك الذي يبغي على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع
أنشدهما ، وهو مذهب الكوفيين ، وله وجه من القياس ، وهو : أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره ، فكذلك يشبه به فينجزم الخبر ، إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسببا عن الصلة بشروطه المذكورة في علم النحو ، وهذا لا ينفيه البصريون . وقرأ الجمهور : نقيض ، بالنون ، ابن الأعرابي وعلي ، والسلمي ، ، والأعمش ويعقوب ، وأبو عمرو : بخلاف عنه ، وحماد عن عاصم ، وعصمة عن ، وعن الأعمش عاصم ، والعليمي عن أبي بكر : بالياء ، أي : يقيض الرحمن ، : " يقيض " مبنيا للمفعول . له شيطان : بالرفع ، أي : ييسر له شيطان ويعدله ، وهذا عقاب على الكفر بالختم وعدم الفلاح . كما يقال : إن الله يعاقب على المعصية بالتزايد من السيئات . وقال وابن عباس : يخذله ، ويحل بينه وبين الشياطين ، كقوله : ( الزمخشري وقيضنا لهم قرناء ) ( ألم تر أنا أرسلنا الشياطين ) . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . والظاهر أن ضمير النصب في ( وإنهم ليصدونهم ) عائد على من على المعنى أعاد أولا على اللفظ في إفراد الضمير ، ثم أعاد على المعنى . والضمير في يصدونهم عائد على " شيطان " وإن كان مفردا ، لأنه مبهم في جنسه ، ولكل عاش شيطان قرين ، فجاز أن يعود الضمير مجموعا . وقال ابن عطية : والضمير في قوله : وإنهم ، عائد على الشيطان ، وفي : ليصدونهم ، عائد على الكفار . انتهى . والأولى ما ذكرناه لتناسق الضمائر في وإنهم ، وفي ليصدونهم ، وفي ويحسبون ، لمدلول واحد ، كأن الكلام : وإن العشاة ليصدونهم الشياطين عن السبيل ، أي سبيل الهدى والفوز ، ويحسبون : أي الكفار .
وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وقتادة ، ، والزهري والجحدري ، وأبو بكر ، والحرميان : حتى إذا جاءانا ، على التثنية ، أي العاشي والقرين إعادة على لفظ " من " والشيطان القرين ، وإن كان من حيث المعنى صالحا للجمع . وقرأ ، الأعمش ، وعيسى ، والأعرج وابن محيصن ، والأخوان : جاءنا على الإفراد ، والضمير عائد على لفظ من أعاد أولا على اللفظ ، ثم جمع على المعنى ، ثم أفرد على اللفظ ، ونظير ذلك : ( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا ) : أفرد أولا ثم جمع في قوله : ( خالدين ) ، ثم أفرد في قوله : ( له رزقا ) . روي أنهما يجعلان يوم البعث في سلسلة ، فلا يفترقان حتى يصيرهما الله إلى النار قال ، أي الكافر للشيطان : ( ياليت بيني وبينك بعد المشرقين ) . تمنى لو كان ذلك في الدنيا حتى لا يصده عن سبيل الله ، أو تمنى ذلك في الآخرة ، وهو الظاهر ، لأنه جواب إذا التي للاستقبال ، أي مشرقي الشمس مشرقها في أقصر يوم من السنة ، ومشرقها في أطول يوم من السنة ، قاله ابن السائب ، أو بعد المشرق أو المغرب غلب المشرق فثناهما ، كما قالوا : العمران في أبي بكر وعمر ، والقمران في الشمس والقمر ، [ ص: 17 ] والموصلان في الجزيرة والموصل ، والزهدمان في زهدم وكردم ، والعجاجان في رؤبة والعجاج ، والأبوان في الأب والأم ، وهذا اختيار الفراء ، ولم يذكره والزجاج . قال : فإن قلت : فما بعد المشرقين ؟ قلت : تباعدهما ، والأصل بعد المشرق من المغرب ، والمغرب من المشرق ، فلما غلب جمع المفترقين بالتثنية ، أضاف البعد إليهما . انتهى . وقيل : بعد المشرقين من المغربين ، واكتفى بذكر المشرقين . وكأنه في هذا القول يريد مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما . ( الزمخشري فبئس القرين ) : مبالغة منه في ذم قرينه ، إذا كان سبب إيراده النار . والمخصوص بالذم محذوف ، أي فبئس القرين أنت . ( ولن ينفعكم اليوم ) : حكاية حال يقال لهم يوم القيامة ، وهي مقالة موحشة حرمتهم روح التأسي ، لأنه وقفهم بها على أنه لا ينفعهم التأسي لعظم المصيبة وطول العذاب واستمرار مدته ، إذ التأسي راحة كل مصاب في الدنيا في الأغلب . ألا ترى إلى قول الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي فهذا التأسي قد كفاها مؤنة قتل النفس ، فنفى الله عنهم الانتفاع بالتأسي ، وفي ذلك تعذيب لهم ويأس من كل خير ، وهذا لا يكون إلا على تقدير أن يكون الفاعل ينفعكم أنكم ومعمولاها ، أي ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب أن لن يخفف عنكم اشتراككم في العذاب . وإذا كان الفاعل غير أن ، وهو ضمير يعود على ما يفهم من الكلام قبله ، أي يتمنى مباعدة القرين والتبرؤ منه ، ويكون أنكم تعليلا ، أي لاشتراككم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه ، وهو الكفر . وقال مقاتل المعنى : ولن ينفعكم اليوم الاعتذار والندم ، لأنكم وقرناءكم مشتركون في العذاب ، كما اشتركتم في الكفران في الدنيا . وعلى كون الفاعل غير أن ، وهي قراءة الجمهور ، لا يتضمن الكلام نفي التأسي . وقرئ : إنكم بالكسر ، فدل على إضمار الفاعل ، ويقويه حمل أنكم بالفتح على التعليل . واليوم وإذ ظرفان ، فاليوم ظرف حال ، وإذ ظرف ماض . أما ظرف الحال فقد يعمل فيه المستقبل لقربه منه أو لتجوز في المستقبل ، كقوله : ( فمن يستمع الآن ) ، وقول الشاعر :
سأشقى الآن إذ بلغت مناها
وأما إذ فماض لا يعمل فيه المستقبل ، فقال : وإذ بدل من اليوم . انتهى . وحمل إذ ظلمتم على معنى إذ تبين ووضح ظلمكم ، ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين ، ونظيره : الزمخشري
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
أي تبين أني ولد كريمة . انتهى . ولا يجوز فيه البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفا لما مضى من الزمان . فإن جعلت لمطلق الوقت جاز ، وتخريجها على البدل ، أخذه من الزمخشري . قال في مساءلته ابن جني أبا علي : راجعته فيها مرارا ، وآخر ما حصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان ، وهما سواء في حكم الله وعلمه ، فيكون إذ بدلا من اليوم ، حتى كأنها مستقبلة ، أو كأن اليوم ماض . وقيل : التقدير بعد إذ ظلمتم ، فحذف المضاف للعلم به . وقيل : إذ للتعليل حرفا بمعنى إن . وقال الحوفي : اليوم ظرف متعلق بينفعكم ، ولا يجوز تعلق إذ به ، لأنهما ظرفا زمان ، يعني متغايرين في المعنى تغايرا لا يمكن أن يجتمعا ، قال : فلا يصح أن يكون بدلا من الأخير ، يعني لذلك التغاير من كون هذا ظرف حال وهذا ظرف مضي . قال : ولكن تكون إذ متعلقة بما دل عليه المعنى ، كأنه قال : ولن ينفعكم اجتماعكم ، ثم قال : وفاعل ينفعكم الاشتراك . وقيل : الفاعل محذوف تقديره ظلمكم ، أو جحدكم ، وهو العامل في إذ ، لا ضمير الفاعل . لما ذكر تعالى حال الكفار وما يقال لهم . وكانت قريش تسمع ذلك ، فلا تزداد إلا عتوا واعتراضا ، وكان هو - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في تحصيل [ ص: 18 ] الإيمان لهم خاطبه تعالى تسلية له باستفهام تعجيب ، أي : إن هؤلاء صم ، فلا يمكنك إسماعهم ، عمي حيارى ، فلا يمكنك أن تهديهم ، وإنما ذلك راجع إليه تعالى . ولما كانت حواسهم لن ينتفعوا بها الانتفاع الذي يجري خلاصهم من عذاب الله ، جعلوا صما عميا حيارى ، ويريد بهم قريشا ، فهم جامعو الأوصاف الثلاثة ، ولذلك عاد الضمير عليهم في قوله : ( فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون ) ، ولم يجر لهم ذكر إلا في قوله : ( أفأنت تسمع الصم ) الآية . والمعنى : إن قبضناك قبل نصرك عليهم ، فإنا منهم منتقمون في الآخرة كقوله : ( أو نتوفينك فإلينا يرجعون ) ، ( أو نرينك الذي وعدناهم ) من العذاب النازل بهم كيوم بدر ، ( فإنا عليهم مقتدرون ) : أي هم في قبضتنا ، لا يفوتوننا ، وهذا قول الجمهور . وقال الحسن وقتادة : المتوعد هم الأمة ، أكرم الله تعالى نبيه عن أن ينتقم منهم في حياته ، كما انتقم من أمم الأنبياء في حياتهم ، فوقعت النقمة منهم بعد موته عليه السلام في العين الحادثة في صدر الإسلام ، مع الخوارج وغيرهم . وقرئ : نرينك بالنون الخفيفة . ولما ردد تعالى بين حياته وموته - صلى الله عليه وسلم - ، أمره بأن يستمسك بما أوحاه إليه . وقرأ الجمهور : أوحي مبنيا للمفعول ، وبعض قراء الشام : بإسكان الياء ، والضحاك : مبنيا للفاعل ، وأنه أي وإن ما أوحينا إليك ، ( لذكر لك ولقومك ) : أي شرف ، حيث نزل عليهم وبلسانهم ، جعل تبعا لهم . والقوم على هذا قريش ثم العرب ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد . كان عليه السلام يعرض نفسه على القبائل ، فإذا قالوا له : لمن يكون الأمر بعدك ؟ سكت ، حتى نزلت هذه الآية . فكان إذا سئل عن ذلك قال : " لقريش " ، فكانت العرب لا تقبل حتى قبلته الأنصار . وقال الحسن : القوم هنا أمته ، والمعنى : وإنه لتذكرة وموعظة . قيل : وهذه الآية تدل على أن الإنسان يرغب في الثناء الحسن الجميل ، ولو لم يكن ذلك مرغوبا فيه ، ما امتن به تعالى على رسوله فقال : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) . وقال إبراهيم عليه السلام : ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) . والذكر الجميل قائم مقام الحياة ، بل هو أفضل من الحياة ، لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في الحي وأثر الذكر الجميل يحصل في كل مكان ، وفي كل زمان . انتهى . وقال : ابن دريدوإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى وقال الآخر :
إنما الدنيا محاسنها طيب ما يبقى من الخبر وذكر أن هلاون ملك التتر ، سأل أصحابه : من الملك ؟ فقالوا : أنت الذي دوخت البلاد وملكت الأرض وطاعت لك الملوك . فقال : لا الملك هذا ، وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن ، هذا الذي له أزيد من ستمائة سنة ، قد مات وهو يذكر على المآذن في كل يوم خمس مرات ؟ يريد محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ( وسوف تسألون ) ، قال الحسن : عن شكر هذه النعمة . وقال مقاتل : المراد من كذب به ، يسأل سؤال توبيخ . ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ) ، قيل : هو على ظاهره ، وإن جبريل عليه السلام قال له ليلة الإسراء ، حين أم بالأنبياء : ( واسأل من أرسلنا ) ، فلم يسألهم ، إذ كان أثبت يقينا ، ولم يكن في شك . وروي ذلك عن ابن عباس ، وابن جبير ، والزهري وابن زيد ، وفي الأثر أن ميكال قال لجبريل : هل سأل محمد عن ذلك ؟ فقال : هو أعظم يقينا وأوثق إيمانا من أن يسأله ذلك . وقال أيضا ، ابن عباس والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وعطاء : أراد واسأل أتباع من أرسلنا وحملة شرائعهم ، إذ يستحيل سؤال الرسل أنفسهم ، وليسوا مجتمعين في الدنيا . قال الفراء : هم إنما يخبرونه عن كتب الرسل ، فإذا سألهم ، فكأنه سأل الرسل ، والسؤال الواقع مجاز عن النظر ، حيث لا يصلح لحقيقته كثير منه مساءلة الشعراء الديار [ ص: 19 ] والأطلال ، ومنه : سيد الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك ، فإنها إن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا . فالسؤال هنا مجاز عن النظر في أديانهم : هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء ؟ والذي يظهر أنه خطاب للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات ، فقيل له : اسأل أيها الناظر أتباع الرسل ، أجاءت رسلهم بعبادة غير الله ؟ فإنهم يخبرونك أن ذلك لم يقع ، ولا يمكن أن يأتوا به . وأبعد من ذهب إلى أن المعنى : واسألني ، واسألنا عن من أرسلنا ، وعلق واسأل ، فارتفع من ، وهو اسم استفهام على الابتداء ، وأرسلنا خبره في موضع نصب باسأل بعد إسقاط الخافض ، كان سؤاله : من أرسلت يا رب قبلي من رسلك ؟ أجعلت في رسالته آلهة تعبد ؟ ثم ساق السؤال فحكى المعنى ، فرد الخطاب إلى محمد في قوله : ( من قبلك ) .