[ ص: 20 ] مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين : أحدهما : أنه لما تقدم طعن قريش على الرسول ، واختيارهم أن ينزل القرآن على رجل من القريتين عظيم ، أي في الجاه والمال ، وذكر أن مثل ذلك سبقهم إليه فرعون في قوله : ( أليس لي ملك مصر ) ؟ إلى آخر الآية ، أتبعه بالملك والمال ، ففرعون قدوتهم في ذلك ، ومع ذلك ، فصار فرعون مقهورا مع موسى منتقما منه ، فكذلك قريش . والوجه الثاني : أنه لما قال : ( واسأل من أرسلنا ) الآية ، ذكر وقته موسى وعيسى ، وهما أكبر أتباعا ممن سبقهم من الأنبياء ، وكل جاء بالدعاء إلى الله وإفراده بالعبادة ، فلم يكن فيما جاء أبدا إباحة اتخاذ آلهة من دون الله ، كما اتخذت قريش ، فناسب ذكر قصتهما للآية التي قبلها . وآيات موسى هي المعجزات التي أتى بها . وخص الملائكة بالذكر ، وهم الأشراف لأن غيرهم من الناس تبع لهم .
( فلما جاءهم بآياتنا ) ، قبله كلام محذوف تقديره : فطالبوه بما يدل على صحة دعواه الرسالة من الله . ( فلما جاءهم بآياتنا ) ، وهي انقلاب العصا ثعبانا وعودها عصا ، وإخراج اليد البيضاء نيرة ، وعودها إلى لونها الأول ، ( إذا هم منها يضحكون ) ، أي فاجأهم الضحك بحيث لم يفكروا ولم يتأملوا ، بل بنفس ما رأوا ذلك ضحكوا سخرية واستهزاء ، كما كانت قريش تضحك . قال : فإن قلت : كيف جاز أن يجاب لما بإذا المفاجأة ؟ قلت : لأن فعل المفاجأة معها مقدر ، وهو عامل النصب في محلها ، كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقت ضحكهم . انتهى . ولا نعلم نحويا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل ، من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ ، بل المذاهب فيها ثلاثة : مذهب أنها حرف ، فلا تحتاج إلى عامل ، ومذهب أنها ظرف مكان ، فإن صرح بعد الاسم بعدها بخبر له كان ذلك الخبر عاملا فيها نحو : خرجت فإذا زيد قائم ، فقائم ناصب لإذا ، كأن التقدير : خرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم ، ومذهب أنها ظرف زمان ، والعامل فيه الخبر أيضا ، كأنه قال : ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم ، وإن لم يذكر بعد الاسم خبر ، أو ذكر اسم منصوب على الحال ، كانت إذا خبرا للمبتدأ . فإن كان المبتدأ جثة ، وقلنا إذا ظرف مكان ، كان الأمر واضحا ، وإن قلنا ظرف زمان ، كان الكلام على حذف ، أي ففي الزمان حضور زيد . وما ادعاه الزمخشري من إضمار فعل المفاجأة ، لم ينطق به ولا في موضع واحد . ثم المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق ، بل المعنى يدل على أن المفاجأة تكون من الكلام الذي فيه إذا . تقول : خرجت فإذا الأسد ، والمعنى : ففاجأني الأسد ، وليس [ ص: 21 ] المعنى : ففاجأت الأسد . الزمخشري
( وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ) ، قال : فإن قلت : إذا جاءتهم آية واحدة من جملة التسع ، فما أختها التي فضلت عليها في الكبر من بقية الآيات ؟ قلت : أختها التي هي آية مثلها ، وهذه صفة كل واحدة منهما ، فكان المعنى على أنها أكبر من بقية الآيات . قلت : أختها التي هي آية مثلها على سبيل التفضيل والاستقراء ، واحدة بعد واحدة ، كما تقول : هو أفضل رجل رأيته ، تريد تفضيله على أمة الرجال الذين رأيتهم إذا قدرتهم رجلا . فإن قلت : فهو كلام متناقض ، لأن معناه : ما من آية من التسع إلا وهي أكبر من كل واحدة منها ، فتكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة ، قلت : الغرض بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر ، لا يكدن يتفاوتن فيه ، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتقارب منازلهم فيه التقارب اليسير ، إن تختلف آراء الناس في تفضيلها فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك ، فعلى هذا بنى الناس كلامهم فقالوا : رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض ، وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها ، فتارة يفضل هذا ، وتارة يفضل ذاك ، ومنه بيت الحماسة : الزمخشري
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري وقد فاضلت الأنمارية بين الكملة من بنيها ثم قالت : لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت ، ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل ، هم كالحلقة المفرغة ، لا يدرى أين طرفاها . انتهى ، وهو كلام طويل ، ملخصه : أن الوصف بالأكبرية مجاز ، وأن ذلك بالنسبة إلى الناظرين فيها . وقال ابن عطية : عبارة عن شدة موقعها في نفوسهم بحدة أمرها وحدوثه ، وذلك أن آية عرضها موسى ، هي العصا واليد ، وكانت أكبر آياته ، ثم كل آية بعد ذلك كانت تقع فيعظم عندها مجيئها وتكبر ، لأنهم كانوا نسوا التي قبلها ، فهذا كما قال الشاعر :
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما توكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
وذهب إلى أن الآيات هنا الحجج والبينات . انتهى . وقيل : كانت من كبار الآيات ، وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها ، فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة ، أي من أختها السابقة عليها ، ولا يبقى في الكلام تعارض ، ولا يكون ذلك الحكم في الآية الأولى ، لأنه لم يسبقها شيء فتكون أكبر منه . وقيل : الأولى تقتضي علما ، والثانية تقتضي علما منضما إلى علم الأولى ، فيزداد الرجوح . وكنى بأختها مناسبتها ، تقول : هذه الذرة أخت هذه ، أي مناسبتها . ( الطبري وأخذناهم بالعذاب ) : ( بالسنين ونقص من الثمرات ) و ( الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ) ، وذلك عقاب لهم ، وآيات لموسى ( لعلهم يرجعون ) عن كفرهم . قال : لعلهم يرجعون ، أراد أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان . فإن قلت : لو أراد رجوعهم لكان . قلت : إرادته فعل غيره ، ليس إلا أن يأمره به ويطلب منه إيجاده ، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد ، وإلا دار بين أن يوجد وبين أن لا يوجد على اختيار المكلف ، وإنما لم يكن الرجوع ، لأن الإرادة لم تكن قسرا ولم يختاروه . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال . وقال الزمخشري ابن عطية : لعلهم : ترج بحسب معتقد البشر وظنهم .( وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك ) : أي في كشف العذاب . قال الجمهور : هو خطاب تعظيم ، لأن السحر كان علم زمانهم ، أو لأنهم استصحبوا له ما كانوا يدعون به أولا ، ويكون قولهم : ( بما عهد عندك إننا لمهتدون ) : إخبارا مطابقا مقصودا ، وقيل : بل خطاب استهزاء وانتقاص ، ويكون قولهم : ( بما عهد عندك ) ، أي على زعمك ، وقوله : و ( إننا لمهتدون ) : إخبارا مطابقا على شرط دعائه وكشف العذاب وعهد معزوم على نكثه . ألا ترى : ( فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ) ؟ وعلى القول الأول يكون [ ص: 22 ] قوله : ( فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ) جاريا على أكثر عادة الناس ، إذا مسه الضر تضرع ودعا ، وإذا كشف عنه رجع إلى عادته الأولى ، كقوله : ( فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه . وقوله : ( بما عهد عندك ) ، محتمل أن يكون من أن دعوتك مستجابة ، وفي الكلام حذف ، أي فدعا موسى ، فكشف ( فلما كشفنا ) . وقرأ أبو حيوة : ينكثون ، بكسر الكاف .
( ونادى فرعون في قومه ) : جعل القوم محلا للنداء ، والظاهر أنه نادى عظماء القبط في محله الذي هو وهم يجتمعون فيه ، فرفع صوته فيما بينهم لتنتشر مقالته في جميع القبط . ويجوز أن يكون أمر بالنداء ، فأسند إليه . وسبب ندائه ذلك ، أنه لما رأى إجابة الله دعوة موسى ورفع العذاب ، خاف ميل القوم إليه ، فنادى : ( قال يا قوم أليس لي ملك مصر ) ، أراد أن يبين فضله على موسى بملك مصر ، وهي من إسكندرية إلى أسوان . ( وهذه الأنهار ) : أي الخلجان التي تجري من النيل ، وأعظمها : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس . والواو في ( وهذه الأنهار ) واو الحال ، وتجري خبر . وهذه والأنهار صفة ، أو عطف بيان . وجوز أن تكون الواو عاطفة على ملك مصر ، وتجري حال . من تحتي : أي من تحت قهري وملكي . وقال قتادة : كانت جنانها وأنهارها تجري من تحت قصره . وقيل : كان له سرير عظيم ، وقطع من نيل مصر قطعة قسمها أنهارا تجري من تحت ذلك السرير . وأبعد الضحاك في تفسيره الأنهار بالقواد والرؤساء الجبابرة ، يسيرون تحت لوائه . ومن فسرها بالأموال ، يعرفها من تحت يده . ومن فسرها بالخيل فقيل : كما سمي الفرس بحرا يسمى نهرا . وهذه الأقوال الثلاثة تقرب من تفاسير الباطنية .
( أفلا تبصرون ) عظمتي وقدرتي وعجز موسى ؟ وقرأ مهدي بن الصفير : يبصرون ، بياء الغيبة ، ذكره في الكامل للهذلي ، والسباعي ، عن يعقوب ، ذكره ابن خالويه . قال : وليت شعري كيف ارتقت إلى دعوى الربوبية همة من تعاظم بملك الزمخشري مصر ؟ وعجب الناس من مدى عظمته ، وأمر فنودي بها في أسواق مصر وأزقتها ، لئلا تخفى تلك الأبهة والجلالة على صغير ولا كبير حتى يتربع في صدور الدهماء مقدار عزته وملكوته . وكسر نون : ( أفلا تبصرون ) عيسى . وعن الرشيد أنه لما قرأها قال : لأولينها أحسن عبيدي ، فولاها الخصيب ، وكان على وضوئه . وعن أنه وليها فخرج إليها ، فلما شارفها ووقع عليها قال : أهي القرية التي افتخر بها عبد الله بن طاهر فرعون حتى قال : ( أليس لي ملك مصر ) ؟ والله لهي أقل عندي من أن أدخلها ، فثنى عنانه . ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ) : الظاهر أنها أم المنقطعة المقدرة ببل والهمزة ، أي بل أنا خير . وهو إذا استفهم أهو خير ممن هو ضعيف ؟ لا يكاد يفصح عن مقصوده إذا تكلم ، وهو الملك المتحكم فيهم ، قالوا له : بلا شك أنت خير . وقال السدي وأبو عبيدة : أم بمعنى بل ، فيكون انتقل من ذلك الكلام إلى إخباره بأنه خير ممن ذكر ، كقول الشاعر :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أم أنت في العين أملح
[ ص: 23 ] أمخدج اليدين أم أتمت . فأتمت معادل للاسم ، فالتقدير : أم متما ؟ وقيل : حذف المعادل بعد أم لدلالة المعنى عليه ، إذ التقدير : تبصرون ، فحذف تبصرون ، وهذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا ، نحو : أيقوم زيد أم لا ؟ تقديره : أم لا يقوم ؟ وأزيد عندك أم لا ، أي أم لا هو عندك . فأما حذفه دون لا ، فليس من كلامهم . وقد جاء حذف أم والمعادل ، وهو قليل . قال الشاعر :
دعاني إليها القلب إني لأمرها سميع فما أدري أرشد طلابها
( فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب ) ، قال مجاهد : كانوا إذا سودوا رجلا ، سوروه سوارين وطوقوه بطوق من ذهب علامة لسؤدده . قال فرعون : هلا ألقى رب موسى عليه أسورة من ذهب إن كان صادقا ؟ وكان ذلك دليلا على إلقاء مقاليد الملك إليه ، لما وصف نفسه بالعزة والملك ، ووازن بينه وبين موسى عليه السلام ، فوصفه بالضعف وقلة الأعضاد . فاعترض فقال : إن كان صادقا ، فهلا ملكه ربه وسوره وجعل الملائكة أنصاره ؟ وقرأ الضحاك : ( فلولا ألقى ) مبنيا للفاعل ، أي الله ، أساورة نصبا ، والجمهور : أساورة رفعا ، وأبي وعبد الله : أساوير ، والمفرد إسوار بمعنى سوار ، والهاء عوض من الياء ، كهي في زنادقة ، هي عوض من ياء زناديق المقابلة لياء زنديق ، وهذه مقابلة لألف أسوار . وقرأ الحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، ، والأعرج ومجاهد ، وأبو حيوة ، وحفص : أسورة ، جمع سوار ، نحو خمار وأخمرة . وقرأ : أساور . ورويت عن الأعمش أبي ، وعن أبي عمرو ، ( أو جاء معه الملائكة مقترنين ) : أي يحمونه ويقيمون حجته . قال : يعينونه على من خالفه . وقال ابن عباس : يقارن بعضهم بعضا . وقال السدي مجاهد : يمشون معه . وقال قتادة : متتابعين .
( فاستخف قومه ) : أي استجهلهم لخفة أحلامهم ، قاله . وقال غيره : حملهم على أن يخفوا لما يريد منهم ، فأجابوه لفسقهم . ( ابن الأعرابي فلما آسفونا ) : منقول بالهمزة من أسف ، إذا غضب ، والمعنى : فلما عملوا الأعمال الخبيثة الموجبة لأن لا يحلم عنهم . وعن : أحزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل . وعنه أيضا : أغضبونا . وعن ابن عباس علي : أسخطونا . وقيل : خالفوا . وقال القشيري وغيره : الغضب من الله ، أما إرادة العقوبة ، فهو من صفات الذات ، أو العقوبة ، فيكون من صفات الفعل . وقرأ الجمهور : سلفا . قال ، وزيد بن أسلم ، ابن عباس وقتادة : أي متقدمين إلى النار ، وهو مصدر سلف يسلف سلفا ، وسلف الرجل آباؤه المتقدمون ، والجمع أسلاف وسلاف . وقيل هو جمع سالف ، كحارس وحرس ، وحقيقته أنه اسم جمع ، لأن فعلا ليس من أبنية الجموع المكسرة . وقال طفيل يرثي قومه :
مضوا سلفا قصد السبيل عليهم صروف المنايا والرجال تقلب