لما ذكر تعالى طرفا من قصة موسى عليه السلام ذكر طرفا من قصة عيسى عليه السلام . وعن وغيره : لما نزل ( ابن عباس إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ) ، ونزل كيف خلق من غير فحل ، قالت قريش : ما أراد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده ، كما عبدت النصارى عيسى ، فهذا كان صدودهم من ضربه مثلا . وقيل : ضرب المثل بعيسى هو ما جرى بين الزبعرى وبين الرسول عليه الصلاة والسلام في القصة المحكية في قوله : ( إنكم وما تعبدون ) . وقد ذكرت في سورة الأنبياء في آخرها أن ابن الزبعرى قال : فإذا كان هؤلاء أي عيسى وأمه وعزير في النار ، فقد وصفنا أن نكون نحن وآلهتنا معهم . وقيل : المثل هو أن الكفار لما سمعوا أن النصارى تعبد [ ص: 25 ] عيسى قالوا : آلهتنا خير من عيسى ، قال ذلك منهم من كان يعبد الملائكة . وضرب مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون الفاعل ابن الزبعرى ، إن صحت قصته ، وأن يكون الكفار . وقرأ أبو جعفر ، ، والأعرج والنخعي ، وأبو رجاء ، وابن وثاب ، وعامر ، ونافع ، : يصدون ، بضم الصاد ، أي يعرضون عن الحق من أجل ضرب المثل . وقرأ والكسائي ، ابن عباس ، وابن جبير والحسن ، وعكرمة ، وباقي السبعة : بكسرها ، أي يصيحون ويرتفع لهم حمية بضرب المثل . وروي ضم الصاد عن علي ، وأنكرها ، ولا يكون إنكاره إلا قبل بلوغه تواترها . وقرأ ابن عباس ، والفراء : هما لغتان بمعنى مثل يعرشون ويعرشون . الكسائي
( وقالوا أآلهتنا خير أم هو ) : خفف الكوفيون الهمزتين ، وسهل باقي السبعة الثانية بين بين . وقرأ في رواية ورش أبي الأزهر : بهمزة واحدة على مثال الخبر ، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام محذوفة لدلالة أم عليها ، واحتمل أن يكون خبرا محضا . حكوا أن آلهتهم خير ، ثم عن لهم أن يستفهموا ، على سبيل التنزل من الخبر إلى الاستفهام المقصود به الإفحام ، وهذا الاستفهام يتضمن أن آلهتهم خير من عيسى . ( ما ضربوه لك إلا جدلا ) : أي ما مثلوا هذا التمثيل إلا لأجل الجدل والغلبة والمغالطة ، لا لتمييز الحق واتباعه . وانتصب جدلا على أنه مفعول من أجله ، وقيل : مصدر في موضع الحال . وقرأ ابن مقسم : إلا جدالا . بكسر الجيم وألف ، خصمون : شديدو الخصومة واللجاج . وفعل من أبنية المبالغة نحو : هدى . والظاهر أن الضمير في أم هو لعيسى ، لتتناسق الضمائر في قوله : ( إن هو إلا عبد ) . وقال قتادة : يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - . ( أنعمنا عليه ) بالنبوة وشرفناه بالرسالة . ( وجعلناه مثلا ) أي خبرة عجيبة ، كالمثل ( لبني إسرائيل ) ، إذ خلق من غير أب ، وجعل له من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والأسقام كلها ، ما لم يجعل لغيره في زمانه . وقيل : المنعم عليه هو محمد - صلى الله عليه وسلم - . ( ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض ) ، قال بعض النحويين : من تكون للبدل ، أي لجعلنا بدلكم ملائكة ، وجعل من ذلكم قوله تعالى : ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) ، أي بدل الآخرة ، وقول الشاعر :
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ظلما ويكتب للأمير أفالا
أي بدل الفصيل ، وأصحابنا لا يثبتون لمن معنى البدلية ، ويتأولون ما ورد ما يوهم ذلك . قال ابن عطية : لجعلنا بدلا منكم . وقال : ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر ، لجعلنا منكم : لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض ، كما يخلفكم أولادكم ، كما ولدنا الزمخشري عيسى من أنثى من غير فحل ، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام وذات القديم متعالية عن ذلك . انتهى ، وهو تخريج حسن . ونحو من هذا التخريج قول من قال : لجعلنا من الإنس ملائكة ، وإن لم تجر العادة بذلك . والجواهر جنس واحد ، والاختلاف بالأوصاف . ( يخلفون ) ، قال : يكونون خلفاءكم . وقال السدي قتادة : يخلف بعضهم بعضا . وقال مجاهد : في عمارة الأرض . وقيل : في الرسالة بدلا من رسلكم . والظاهر أن الضمير في : ( وإنه لعلم للساعة ) يعود على عيسى ، إذ الظاهر في الضمائر السابقة أنها عائدة عليه . وقال : ابن عباس ومجاهد ، وقتادة ، والحسن ، والسدي ، والضحاك ، وابن زيد : أي وإن خروجه لعلم للساعة يدل على قرب قيامها ، إذ خروجه شرط من أشراطها ، وهو نزوله من السماء في آخر الزمان . وقال الحسن ، وقتادة أيضا ، : يعود على القرآن على معنى أن يدل إنزاله على قرب الساعة ، أو أنه به تعلم الساعة وأهوالها . وقالت فرقة : يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إذ هو آخر الأنبياء ، تميزت الساعة به نوعا وقدرا من التمييز ، ونفى التحديد التام الذي انفرد [ ص: 26 ] الله تعالى بعلمه . وقرأ الجمهور : لعلم ، مصدر علم . قال وابن جبير : أي شرط من أشراطها تعلم به ، فسمى العلم شرطا لحصول العلم به . وقرأ الزمخشري ، ابن عباس ، وأبو هريرة وأبو مالك الغفاري ، ، وزيد بن علي وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، ، ومالك بن دينار ، والأعمش والكلبي . قال ابن عطية ، : لعلم ، بفتح العين واللام ، أي لعلامة . وقرأ وأبو نضرة عكرمة به . قال ابن خالويه ، : للعلم ، معرفا بفتحتين . وأبو نضرة( فلا تمترن بها ) : أي لا تشكون فيها ، ( واتبعون هذا ) : أي هداي أو شرعي . وقيل : أي قل لهم يا محمد : واتبعوني هذا ، أي الذي أدعوكم له ، أو هذا القرآن ، كان الضمير في قال للقرآن ، ثم حذرهم من إغواء الشيطان ، ونبه على عداوته ( بالبينات ) : أي المعجزات ، أو بآيات الإنجيل الواضحات . ( بالحكمة ) : أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع . قال : بالحكمة : النبوة . وقال أيضا : قضايا يحكم بها العقل . وذكر السدي القشيري والماوردي : الإنجيل . وقال الضحاك : الموعظة . ( ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ) : وهو أمر الديانات ، لأن اختلافهم يكون فيها ، وفي غيرها من الأمور التي لا تتعلق بالديانات . فأمور الديانات بعض ما يختلفون فيه ، وبين لهم في غيره ما احتاجوا إليه . وقيل : بعض ما يختلفون فيه من أحكام التوراة . وقال أبو عبيدة : بعض بمعنى كل ، ورده الناس عليه . وقال مقاتل : هو كقوله : ( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) ، أي في الإنجيل : لحم الإبل والشحم من كل حيوان ، وصيد السمك يوم السبت . وقال مجاهد : بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة . وقيل : مما سألتم من أحكام التوراة . وقال قتادة : ولأبين لكم اختلاف القرون الذين تحزبوا في أمر عيسى في قوله : ( قد جئتكم بالحكمة ) ، وهم قومه المبعوث إليهم ، أي من تلقائهم ومن أنفسهم ، بان شرهم ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم . وتقدم الخلاف في اختلافهم في سورة مريم في قوله : ( فاختلف الأحزاب من بينهم ) .
( هل ينظرون ) : الضمير لقريش ، و ( أن تأتيهم ) : بدل من الساعة ، أي إتيانها إياهم . ( الأخلاء يومئذ ) : قيل نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط . والتنوين في " يومئذ " عوض عن الجملة المحذوفة ، أي يوم إذ تأتيهم الساعة ، ويومئذ منصوب بعد ، والمعنى : أنه ينقطع كل خلة وتنقلب الأخلة المتقين ، فإنها لا تزداد إلا قوة . وقيل : ( إلا المتقين ) : إلا المجتنبين أخلاء السوء ، وذلك أن أخلاء السوء كل منهم يرى أن الضرر دخل عليه من خليله ، كما أن المتقين يرى كل منهم النفع دخل عليهم من خليله . وقرئ : يا عبادي ، بالياء ، وهو الأصل ، ويا عباد بحذفها ، وهو الأكثر ، وكلاهما في السبعة . وعن : سمع أن الناس حين يبعثون ، ليس منهم أحد إلا يفزع فينادي مناد : يا عباد لا خوف عليكم ، فيرجوها الناس كلهم ، فيتبعها ( الذين آمنوا ) ، قال : فييأس منها الكفار . وقرأ الجمهور : لا خوف ، مرفوع منون ، المعتمر بن سليمان وابن محيصن : بالرفع من غير تنوين ، والحسن ، ، والزهري وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، وابن يعمر : بفتحها من غير تنوين ، و ( الذين آمنوا ) صفة لـ يا عباد .
( تحبرون ) : تسرون سرورا يظهر حباره ، أي أثره على وجوهكم ، لقوله تعالى : ( تعرف في وجوههم نضرة النعيم ) . وقال : يكرمون إكراما يبالغ فيه ، والحبرة : المبالغة فيما وصف بجميل وأمال الزجاج أبو الحارث عن . ( بصحاف ) : ذكره الكسائي ابن خالويه . والضمير في : ( فيها ) ، عائد على الجنة . ( ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) : هذا حصر لأنواع النعم ، لأنها إما مشتهاة في القلوب ، أو مستلذة في العيون . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، ، وابن عباس وحفص : ما تشتهيه بالضمير العائد على ما ، والجمهور وباقي السبعة : بحذف الهاء . وفي مصحف عبد الله : ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين ، بالهاء فيهما . و ( تلك الجنة ) : مبتدأ وخبر . و ( التي أورثتموها ) : صفة ، أو ( الجنة ) صفة ، و ( التي أورثتموها ) ، و ( بما كنتم تعملون ) الخبر ، وما قبله صفتان . فإذا كان بما الخبر تعلق بمحذوف ، وعلى القولين [ ص: 27 ] الأولين يتعلق بأورثتموها ، وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة . ولما ذكر ما يتضمن الأكل والشرب ، ذكر الفاكهة . ( منها تأكلون ) : من للتبعيض ، أي لا تأكلون إلا بعضها ، وما يخلف المأكول باق في الشجر ، كما جاء في الحديث .