لما ذكر تعالى حال أهل الجنة ، وما يقال لهم من لذائذ البشارة ، أعقب ذلك بذكر حال الكفرة ، وما يجاوبون به عند سؤالهم . وقرأ عبد الله : وهم فيها ، أي في جهنم ، والجمهور : وهم فيه أي في العذاب . وعن الضحاك : يجعل المجرم في تابوت من نار ، ثم يردم عليه ، فيبقى فيه خالدا لا يرى ولا يرى . ( لا يفتر عنهم ) : أي لا يخفف ولا ينقص ، من قولهم : فترت عنه الحمى ، إذا سكنت قليلا ونقص حرها . والمبلس : الساكت اليائس من الخير . ( وما ظلمناهم ) : أي ما وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه . ( ولكن كانوا هم الظالمين ) : أي الواضعين الكفر موضع الإيمان ، فظلموا بذلك أنفسهم . وقرأ الجمهور : والظالمين ، على أن هم فصل . وقرأ عبد الله ، وأبو زيد النحويان : الظالمون بالرفع ، على أنهم خبرهم ، وهم مبتدأ . وذكر : أن لغة أبو عمرو الجرمي تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ، ويرفعون ما بعده على الخبر . وقال أبو زيد : سمعتهم يقرءون : تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجرا . يعني : برفع " خير وأعظم " . وقال : قيس بن ذريج
نحن إلى ليلى وأنت تركتها وكنت عليها بالملا أنت أقدر
قال : إن سيبويه رؤبة كان يقول : أظن زيدا هو خير منك . يعني بالرفع . ( ونادوا يامالك ) : تقدم أنهم مبلسون ، أي ساكتون ، وهذه أحوال لهم في أزمان متطاولة ، فلا تعارض بين سكوتهم وندائهم . [ ص: 28 ] وقرأ الجمهور : مالك يا . وقرأ عبد الله ، وعلي ، وابن وثاب ، : يا مال ، بالترخيم ، على لغة من ينتظر الحرف . وقرأ والأعمش أبو السرار الغنوي : يا مال ، بالبناء على الضم ، جعل اسما على حياله . واللام في : ( ليقض ) لام الطلب والرغبة . والمعنى : يمتنا مرة حتى لا يتكرر عذابنا ، كقوله : ( فوكزه موسى فقضى عليه ) ، أي أماته . ( قال ) : أي مالك ، ( إنكم ماكثون ) : أي مقيمون في النار لا تبرحون . وقال : يجيبهم بعد مضي ألف سنة ، وقال ابن عباس نوف : بعد مائة ، وقيل : ثمانين ، وقال : أربعين . ( عبد الله بن عمرو لقد جئناكم بالحق ) : يظهر أنه من كلام الله تعالى . وقيل : من كلام بعض الملائكة ، كما يقول أحد خدم الرئيس : أعلمناكم وفعلنا بكم . قيل : ويحتمل أن يكون ( لقد جئناكم ) من قول الله لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك ، وفي هذا توعد وتخويف بمعنى : انظروا كيف يكون حالكم . ( أم أبرموا ) : والضمير لقريش ، أي بل أحكموا أمرا من كيدهم للرسول ومكرهم ، ( فإنا مبرمون ) كيدنا ، كما أبرموا كيدهم ، كقوله : ( أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون ) ، وكانوا يتناجون ويتسارعون في أمر الرسول ، فقال تعالى : ( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ) ، وهو ما يحدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال . ( ونجواهم ) : وهي ما تكلموا به فيما بينهم . ( بلى ) : أي نسمعها ، ( رسلنا ) ، وهم الحفظة .( قل إن كان للرحمن ولد ) ، كما تقولون ، ( فأنا أول ) من يعبده على ذلك ، ولكن ليس له شيء من ذلك . وأخذ هذا القول وحسنه بفصاحته فقال : إن كان للرحمن ولد ، وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح يوردونه وحجة واضحة يبذلونها ، فأنا أول من يعظم ذلك الولد ، وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ، كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه . وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه ، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد ، وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالا مثلها . فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيها على أبلغ الوجوه وأقواها . ثم قال الزمخشري : ونظيره أن يقول العدلي للمجبر . ثم ذكر كلاما يستحق عليه التأديب بل السيف ، نزهت كتابي عن ذكره . ثم قال : وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقلة بالتوحيد على أبلغ وجوهه ، فقيل : إن كان للرحمن ولد ، في زعمكم ، فأنا أول العابدين ، الموحدين لله ، المكذبين قولهم بإضافة الولد إليه . وقيل : إن كان للرحمن ولد ، فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد ، إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد . وقرأ بعضهم : عبدين ، وقيل : هي إن النافية ، أي ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد . الزمخشري
وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال : إن الملائكة بنات الله ، فنزلت ، فقال النضر : ألا ترون أنه قد صدقني ؟ فقال له الوليد بن المغيرة : ما صدقك ، ولكن قال : ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له . انتهى . أما القول : إن كان لله ولد في زعمكم ، فهو قول مجاهد ، وأما القول : فأنا أول الآنفين ، فهو قول جماعة ، حكاه عنهم أبو حاتم ولم يسم أحدا منهم ، ويدل عليه قراءة السلمي واليماني : العبدين ، وقراءة ذكرها في كتابه العين : العبدين ، بإسكان الباء ، تخفيف العبدين بكسرها . وذكر صاحب اللوامح أنه جاء عن الخليل بن أحمد في معنى العابدين : أنه الآنفين انتهى . وقال ابن عباس : يقال : عبد يعبد فهو عبد ، وقلما يقال : عابد . والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ ، ثم قال : كقول ابن عرفة مجاهد . وقال : الفرزدق
أولئك آبائي فجئني بمثلهم وأعبد أن أهجو كليبا بدارمي
[ ص: 29 ]
متى ما يشاء ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالما
ثم قال : ( سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون ) : أي من نسبة الولد إليه ، والمعنى : إزالة العلم يجب أن يكون واجب الوجود ، وما كان كذلك فهو فرد مطلق لا يقبل التجزيء . والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء من أجزائه ، فيتولد منه شخص مثله ، ولا يكون إلا فيما هو قابل ذاته للتجزيء ، وهذا محال في حقه تعالى ، فامتنع إثبات الولد . ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال : ( فذرهم يخوضوا ) ، أي في باطلهم ، ( ويلعبوا ) ، أي في دنياهم . وظاهر هذين الأمرين مهادنة وترك ، وذلك مما نسخ بآية السيف . وقرأ الجمهور : ( حتى يلاقوا ) ، وأبو جعفر ، وابن محيصن ، وعبيد بن عقيل ، عن أبي عمرو : يلقوا ، مضارع لقي . ( يومهم الذي يوعدون ) : يوم القيامة . وقال عكرمة وغيره : يوم بدر ، وأضاف اليوم إليهم ، لأنه الذي فيه هلاكهم وعذابهم . وقرأ الجمهور : إله فيهما . وقرأ عمر . وعبد الله ، وأبي ، وعلي ، والحكم بن أبي العالي ، وبلال بن أبي بردة ، وابن يعمر ، وجابر ، وابن زيد ، ، وعمر بن عبد العزيز وأبو الشيخ الهنائي ، وحميد ، وابن مقسم ، وابن السميفع : الله فيهما . ومعنى إله : معبود به ، يتعلق الجار والمجرور ، والمعنى : أنه هو معبود في السماء ومعبود في الأرض ، والعائد على الموصول محذوف تقديره : هو إله ، كما حذف في قولهم : ما أنا بالذي قائل لك شيئا ، وحسنه طوله بالعطف عليه ، كما حسن في : قائل لك شيئا . طوله بالمعول . ومن قرأ : الله ، ضمنه أيضا معنى المعبود ، كما ضمن العلم في نحو قولهم : هو حاتم في طيئ . أي جواد في طيئ . ويجوز أن تكون الصلة الجار والمجرور . والمعنى : أنه فيهما بالإلهية والربوبية ، إذ يستحيل حمله على الاستقرار . وفي قوله : ( وفي الأرض ) ، نفي لآلهتهم التي كانت تعبد في الأرض .
( وعنده علم الساعة ) : أي علم تعيين وقت قيامها ، وهو الذي استأثر به تعالى . وقرأ الجمهور : يرجعون ، بياء الغيبة ، ونافع ، وعاصم ، والعدنيان : بتاء الخطاب ، وهو في كلتا القراءتين مبني للمفعول . وقرئ : بفتح تاء الخطاب مبنيا للفاعل . وقرأ الجمهور : بياء الغيبة وشد الدال ، وعنه بتاء الخطاب وشد الدال ، والمعنى : ولا يملك آلهتهم التي يدعون الشفاعة عند الله . قال قتادة : استثنى ممن عبد من دون الله عيسى وعزيرا والملائكة ، فإنهم يملكون شفاعة بأن يملكها الله إياهم ، إذ هم ممن شهد بالحق ، وهم يعلمونه في أحوالهم ، فالاستثناء على هذا متصل . وقال مجاهد وغيره : من المشفوع فيهم ؟ كأنه قال : لا يشفع هؤلاء الملائكة وعزير وعيسى إلا فيمن شهد بالحق ، وهو يعلمه ، أي بالتوحيد ، قالوا : فالاستثناء على هذا منفصل ، كأنه قال : لكن من شهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء . وهذا التقدير الذي قدروه يجوز أن يكون فيه الاستثناء متصلا ، لأنه يكون المستثنى منه محذوفا ، كأنه قال : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة في أحد ، إلا فيمن شهد بالحق ، فهو استثناء من المفعول المحذوف ، كما قال الشاعر :
نجا سالم والنفس منه بشدقه ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا