[ ص: 63 ] ( ويوم يعرض ) : أي يعذب بالنار ، كما يقال : عرض على السيف ، إذا قتل به . والعرض : المباشرة ، كما تقول : عرضت العود على النار : أي باشرت به النار . وقال : ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون عرض الحوض عليها ، فقلبوا . ويدل عليه تفسير الزمخشري : يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها . انتهى . ولا ينبغي حمل القرآن على القلب ، إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر . وإذا كان المعنى صحيحا واضحا مع عدم القلب ، فأي ضرورة تدعو إليه ؟ وليس في قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، ولا في تفسير ابن عباس ما يدل على القلب ، لأن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة ، كل منهما صحيح ، إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض . وقرأ الجمهور : أذهبتم على الخبر ، أي فيقال لهم : أذهبتم ، ولذلك حسنت الفاء في قوله : ( ابن عباس فاليوم تجزون ) . وقرأ قتادة ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وأبو جعفر ، ، والأعرج وابن كثير : بهمزة بعدها مدة مطولة ، وابن عامر ، بهمزتين حققهما ابن ذكوان ، ولين الثانية هشام ، وابن كثير في رواية . وعن هشام : الفصل بين المحققة والملينة بألف ، وهذا الاستفهام هو على معنى التوبيخ والتقرير ، فهو خبر في المعنى ، فلذلك حسنت الفاء ، ولو كان استفهاما محضا لم تدخل الفاء . والطيبات هنا : المستلذات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطئ ، وغير ذلك مما يتنعم به أهل الرفاهية .
وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا ، وترك التنعم فيها والأخذ بالتقشف وما يجتزئ به رمق الحياة ، عن رسول الله في ذلك ما يقتضي التأسي به . وعن عمر في ذلك أخبار تدل على معرفته بأنواع الملاذ وعزة نفسه الفاضلة عنها : أتظنون أنا لا نعرف خفض العيش ؟ ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصلائق ، ولكن أستبقي حسناتي ، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم ) . والصلاء الشواء ، والصفار المتخذ من الخردل والزبيب ، والصلائق : الخبز الرقاق العريض . قال : وهذا من باب الزهد ، وإلا فالآية نزلت في كفار ابن عباس قريش ، والمعنى : أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم ، لكنكم لم تؤمنوا ، فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا . فهذه كناية عن عدم الإيمان ، ولذلك نزلت عليه : ( فاليوم تجزون عذاب الهون ) ، ولو أريد الظاهر ، ولم يكن كناية عن ما ذكرنا ، لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب . وقرئ : الهوان ، وهو والهون بمعنى واحد ثم بين تلك الكناية بقوله : ( بما كنتم تستكبرون ) : أي تترفعون عن الإيمان ، ( وبما كنتم تفسقون ) : أي بمعاصي الجوارح ، وقدم ذنب القلب وهو الاستكبار على ذنب الجوارح ، إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب .
ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا ، معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول ، ذكرهم بما جرى للعرب الأولى ، وهم قوم عاد ، وكانوا أكثر أموالا وأشد قوة وأعظم جاها فيهم ، فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم ، وضرب الأمثال ، وقصص من تقدم تعرف بقبح الشيء وتحسينه ، فقال لرسوله : واذكر لقومك أهل مكة ، هودا عليه السلام ، ( إذ أنذر قومه ) عادا عذبهم الله ( بالأحقاف ) . قال : واد بين ابن عباس عمان ومهرة . وقال : من ابن إسحاق عمان إلى [ ص: 64 ] حضرموت . وقال ابن زيد : رمال مشرقة بالشحر من اليمن . وقيل : بين مهرة وعدن . وقال قتادة : هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني . وقال : هي جبل ابن عباس بالشام . قال ابن عطية : والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ، ولهم كانت ( إرم ذات العماد ) ، وفي ذكر هذه القصة اعتبار لقريش وتسلية للرسول ، إذ كذبه قومه ، كما كذبت عاد هودا عليه السلام . والجملة من قوله : ( وقد خلت النذر ) : وهو جمع نذير ، ( من بين يديه ومن خلفه ) ، يحتمل أن تكون حالا من الفاعل في : ( النذر من بين يديه ) ، وهم الرسل الذين تقدموا زمانه ، ومن خلفه الرسل الذين كانوا في زمانه ، ويكون على هذا معنى ( ومن خلفه ) : أي من بعد إنذاره ، ويحتمل أن يكون اعتراضا بين إنذار قومه وأن لا تعبدوا . والمعنى : وقد أنذر من تقدمه من الرسل ، ومن تأخر عنه مثل ذلك ، فاذكرهم .
( قالوا أجئتنا ) : استفهام تقرير وتوبيخ وتعجيز له فيما أنذره إياهم من العذاب العظيم على ترك إفراد الله بالعبادة . ( لتأفكنا ) : لتصرفنا ، قاله الضحاك ، أو لتزيلنا عن آلهتنا بالإفك ، وهو الكذب ، أي عن عبادة آلهتنا ، ( فأتنا بما تعدنا ) : استعجال منهم بحلول ما وعدهم به من العذاب . ألا ترى إلى قوله : بل هو ما استعجلتم به ؟ ( قال إنما العلم عند الله ) : أي علم وقت حلوله ، وليس تعيين وقته إلي ، وإنما أنا مبلغ ما أرسلني به الله إليكم . ولما تحقق عنده وعد الله ، وأنه حال بهم وهم في غفلة من ذلك وتكذيب ، قال : ( ولكني أراكم قوما تجهلون ) : أي عاقبة أمركم لا شعور لكم بها ، وذلك واقع لا محالة . وكانت عاد قد حبس الله عنها المطر أياما ، فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد يقال له المغيث ، فاستبشروا . والضمير في ( رأوه ) الظاهر أنه عائد على ما في قوله : ( بما تعدنا ) ، وهو العذاب ، وانتصب عارضا على الحال من المفعول . وقال ابن عطية ، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطالع عليهم الذي فسره قوله : ( عارضا ) .
وقال : ( فلما رأوه ) ، في الضمير وجهان : أن يرجع إلى ما تعدنا ، وأن يكون مبهما ، قد وضح أمره بقوله : ( الزمخشري عارضا ) ، إما تمييز وإما حال ، وهذا الوجه أعرب وأفصح . انتهى . وهذا الذي ذكر أنه أعرب وأفصح ليس جاريا على ما ذكره النحاة ، لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب ، نحو : رب رجلا لقيته ، وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين ، نحو : نعم رجلا زيد ، وبئس غلاما عمرو . وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره ، فلا نعلم أحدا ذهب إليه ، وقد حصر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده ، فلم يذكروا فيه مفعول رأى إذا كان ضميرا ، ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه . والعارض : المعترض في الجو من السحاب الممطر ، ومنه قول الشاعر :
يا من رأى عارضا أرقت له بين ذراعي وجبهة الأسد
وقال الأعشى :يا من رأى عارضا قد بت أرمقه كأنها البرق في حافاتها الشعل
كأنه جمل هم وما بقيت إلا النحيزة والألواح والعصب
فما بقيت إلا الضلوع الجراشع
وقرأ عيسى الهمداني : لا يرى بضم الياء إلا مسكنهم بالتوحيد . وروي هذا عن ، الأعمش ونصر بن عاصم . وقرئ : لا ترى ، بتاء مفتوحة للخطاب ، إلا مسكنهم بالتوحيد مفردا منصوبا ، واجتزئ بالمفرد عن الجمع تصغيرا لشأنهم ، وأنهم لما هلكوا في وقت واحد ، فكأنهم كانوا في مسكن واحد . ولما أخبر بهلاك قوم عاد ، خاطب قريشا على سبيل الموعظة فقال : ( ولقد مكناهم ) ، وإن : نافية ، أي في الذي ما مكناهم فيه من القوة والغنى والبسط في الأجسام والأموال ، ولم يكن النفي بلفظ ما كراهة لتكرير اللفظ ، وإن اختلف المعنى . وقيل : إن شرطية محذوفة الجواب ، والتقدير : إن مكناكم فيه طغيتم . وقيل : إن زائدة بعد ما الموصولة تشبيها بما النافية وما التوقيتية ، فهي في الآية كهي في قوله :يرجى المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب