[ ص: 66 ] ( ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ) .
( ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى ) : خطاب لقريش على جهة التمثيل لهم ، والذي حولهم من القرى : مأرب ، وحجر ، ثمود ، وسدوم . ويريد من أهل القرى : ( وصرفنا الآيات ) ، أي الحجج والدلائل والعظاة لأهل تلك القرى ، ( لعلهم يرجعون ) عن ما هم فيه من الكفر إلى الإيمان ، فلم يرجعوا . ( فلولا نصرهم ) : أي فهلا نصرهم حين جاءهم الهلاك ؟ ( الذين اتخذوا ) : أي اتخذوهم ، ( من دون الله قربانا ) : أي في حال التقرب وجعلهم شفعاء . ( آلهة ) : وهو المفعول الثاني لاتخذوا ، والأول الضمير المحذوف العائد على الموصول . وأجاز الحوفي وابن عطية وأبو البقاء أن يكون قربانا مفعولا ثانيا لاتخذوا آلهة بدلا منه . وقال : وقربانا حال ، ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا وآلهة بدلا منه ، لفساد المعنى . انتهى . ولم يبين الزمخشري كيف يفسد المعنى ، ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب . وأجاز الزمخشري الحوفي أيضا أن يكون قربانا مفعولا من أجله .
( بل ضلوا عنهم ) : أي غابوا عن نصرتهم . وقرأ الجمهور : إفكهم ، بكسر الهمزة وإسكان الفاء وضم الكاف ، في رواية : بفتح الهمزة . والإفك مصدر آن . وقرأ وابن عباس أيضا ، ابن عباس وابن الزبير ، والصباح بن العلاء الأنصاري ، وأبو عياض ، وعكرمة ، وحنظلة بن النعمان بن مرة ، ومجاهد : أفكهم ، بثلاث فتحات : أي صرفهم ، وأبو عياض ، وعكرمة أيضا : كذلك ، إلا أنهما شددا الفاء للتكثير ، وابن الزبير أيضا ، ، فيما ذكر وابن عباس ابن خالويه : آفكهم بالمد ، فاحتمل أن يكون فاعل . فالهمزة أصلية ، وأن يكون أفعل ، فالهمزة للتعدية ، أي جعلهم يأفكون ، ويكون أفعل بمعنى المجرد . وعن الفراء أنه قرئ : أفكهم بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف ، وهي لغة في الإفك ، ، فيما روى وابن عباس قطرب ، وأبو الفضل الرازي : آفكهم اسم فاعل من أفك ، أي صارفهم ، والإشارة بذلك على من قرأ : [ ص: 67 ] إفكهم مصدرا إلى اتخاذ الأصنام آلهة ، أي ذلك كذبهم وافتراؤهم . وقال : وذلك إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم ، أي وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء . انتهى . وعلى قراءة من جعله فعلا معناه : وذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق ، وكذلك قراءة اسم الفاعل ، أي صارفهم عن الحق . ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي وافتراؤهم ، وأن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف ، أي يفترونه . الزمخشري
( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ) : ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما بين أن الإنسي مؤمن وكافر ، وذكر أن الجن فيهم مؤمن وكافر ، وكان ذلك بأثر قصة هود وقومه ، لما كان عليه قومه من الشدة والقوة . والجن توصف أيضا بذلك ، كما قال تعالى : ( قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ) . وإن ما أهلك به قوم هود هو الريح ، وهو من العالم الذي لا يشاهد ، وإنما يحس بهبوبه . والجن أيضا من العالم الذي لا يشاهد . وإنهودا عليه السلام كان من العرب ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العرب ، فهذه تجوز أن تكون مناسبة لهذه الآية بما قبلها . وفيها أيضا توبيخ لقريش وكفار العرب ، حيث أنزل عليهم هذا الكتاب المعجز ، فكفروا به ، وهم من أهل اللسان الذي أنزل به القرآن ، ومن جنس الرسول الذي أرسل إليهم . وهؤلاء جن ، فليسوا من جنسه ، وقد أثر فيهم سماع القرآن وآمنوا به وبمن أنزل عليه ، وعلموا أنه من عند الله ، بخلاف قريش وأمثالها ، فهم مصرون على الكفر به .
( وإذ صرفنا ) : وجهنا إليك . وقرأ : صرفنا ، بتشديد الراء ، لأنهم كانوا جماعة ، فالتكثير بحسب الحال . ( نفرا من الجن ) ، والنفر دون العشرة ، ويجمع على أنفار . قال : كانوا سبعة ، منهم زوبعة . والذي يجمع اختلاف الروايات أن قصة الجن كانت مرتين . ابن عباس
إحداهما : حين انصرف من الطائف ، وكان خرج إليهم يستنصرهم في قصة ذكرها أصحاب السير . فروي أن الجن كانت تسترق السمع ، فلما بعث الرسول ، حرست السماء ، ورمي الجن بالشهب ، قالوا : ما هذا إلا أمر حدث . وطافوا الأرض ، فوافوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي نخلة ، وهو قائم يصلي ، فاستمعوا لقراءته ، وهو لا يشعر ، فأنبأه الله باستماعهم .
والمرة الأخرى أن الله أمره أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فقال : " إني أمرت أن أقرأ على الجن فمن يتبعني " ، قالها ثلاثا ، فأطرقوا إلا ، قال : لم يحضره أحد ليلة الجن غيري . فانطلقنا حتى إذا كنا في شعب عبد الله بن مسعود الحجون ، خط لي خطا وقال : " لا تخرج منه حتى أعود إليك " ، ثم افتتح القرآن . وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم تقطعوا تقطع السحاب ، فقال لي : " هل رأيت شيئا " ؟ قلت : نعم ، رجالا سودا مستثفري ثياب بيض ، فقال : " أولئك جن نصيبين " . وكانوا اثني عشر ألفا ، والسورة التي قرأها عليهم : اقرأ باسم ربك . وفي آخر هذا الحديث قلت : يا رسول الله ، سمعت لهم لغطا ، فقال : " إنهم تدارءوا في قتيل لهم فحكمت بالحق " . وقد روي عن أنه ابن مسعود ، والله أعلم بصحة ذلك . لم يحضر أحد ليلة الجن
( فلما حضروه ) : أي القرآن ، أي كانوا بمسمع منه ، وقيل : حضروا الرسول ، وهو التفات من إليك إلى ضمير الغيب . ( قالوا أنصتوا ) : أي اسكتوا للاستماع ، وفيه تأديب مع العلم وكيف يتعلم . وقرأ الجمهور : ( فلما قضي ) : مبنيا للمفعول ، وأبو مجلز ، وحبيب بن عبد الله بن الزبير : قضى ، مبنيا للفاعل ، أي قضى محمد ما قرأ ، أي أتمه وفرغ منه . وقال ، ابن عمر : قرأ عليهم سورة الرحمن ، فكان إذا قال : ( وجابر بن عبد الله فبأي آلاء ربكما تكذبان ) ، قالوا : لا شيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد . ( ولوا إلى قومهم منذرين ) : تفرقوا على البلاد ينذرون الجن . قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم . انتهى . وعند ذلك وقعت قصة سواد بن [ ص: 68 ] قارب ، وخنافر وأمثالهما ، حين جاءهما رياهما من الجن ، وكان سبب إسلامهما . ( من بعد موسى ) : أي من بعد كتاب موسى . قال عطاء : كانوا على ملة اليهود ، وعن : لم تسمع الجن بأمر ابن عباس عيسى ، وهذا لا يصح عن . كيف لا تسمع بأمر ابن عباس عيسى وله أمة عظيمة لا تنحصر على ملته ؟ فيبعد عن الجن كونهم لم يسمعوا به . ويجوز أن يكونوا قالوا : ( من بعد موسى ) تنبيها لقومهم على اتباع الرسول ، إذ كان عليه الصلاة والسلام قد بشر به موسى ، فقالوا : ذلك من حيث إن هذا الأمر مذكور في التوراة ، ( مصدقا لما بين يديه ) من التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ، إذ كانت كلها مشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد ، والأمر بتطهير الأخلاق . ( يهدي إلى الحق ) : أي إلى ما هو حق في نفسه صدق ، يعلم ذلك بصريح العقل . ( وإلى صراط مستقيم ) : غاير بين اللفظين ، والمعنى متقارب ، وربما استعمل أحدهما في موضع لا يستعمل الآخر فيه ، فجمع هنا بينهما وحسن التكرار . ( أجيبوا داعي الله ) : هو الرسول ، والواسطة المبلغة عنه ، ( ياقومنا أجيبوا ) : يعود على الله . ( يغفر لكم من ذنوبكم ) : من للتبعيض ، لأنه لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم ، قال معناه . وقيل : من زائدة ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، فلا يبقى معه تبعة . ( الزمخشري ويجركم من عذاب أليم ) : وهذا كله وظواهر القرآن تدل على الثواب ، وكذا قال : لهم ثواب وعليهم عقاب ، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها . وقيل : لا ثواب لها إلا النجاة من النار ، وإليه كان يذهب ابن عباس أبو حنيفة . ( فليس بمعجز في الأرض ) : أي بفائت من عقابه ، إذ لا منجا منه ، ولا مهرب ، كقوله : ( وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا ) . وروي عن ابن عامر : وليس لهم بزيادة ميم . وقرأ الجمهور : ( ولم يعي ) ، مضارع عيي ، على وزن فعل ، بكسر العين ، والحسن : ولم يعي ، بكسر العين وسكون الياء ، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة ، كما قالوا في بقي : بقا ، وهي لغة لطييء . ولما بني الماضي على فعل بفتح العين ، بني مضارعه على يفعل بكسر العين ، فجاء يعيى . فلما دخل الجازم ، حذف الياء ، فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين ، فسكنت الياء وبقي يعي . وقرأ الجمهور : ( بقادر ) : اسم فاعل ، والباء زائدة في خبر أن ، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي . وقد أجاز : ما ظننت أن أحدا بقائم ، قياسا على هذا ، والصحيح قصر ذلك على السماع ، فكأنه في الآية قال : أليس الله بقادر ؟ ألا ترى كيف جاء ببلى مقررا لإحياء الموتى لا لرؤيتهم ؟ وقرأ الزجاج الجحدري ، ، وعمرو بن عبيد ، وزيد بن علي وعيسى ، : بخلاف عنه ، والأعرج ويعقوب : يقدر مضارعا . ( أليس هذا بالحق ) : أي يقال لهم ، والإشارة بهذا إلى العذاب . أي كنتم تكذبون بأنكم تعذبون ، والمعنى : توبيخهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم : ( وما نحن بمعذبين ) . ( قالوا بلى وربنا ) ، تصديق حيث لا ينفع . وقال الحسن : إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم ، يعترفون أنه العدل ، فيقول لهم المجاوب من الملائكة عند ذلك : ( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ) : الفاء عاطفة هذه الجملة على الجملة من أخبار الكفار في الآخرة ، والمعنى بينهما مرتبط : أي هذه حالهم مع الله . فلا تستعجل أنت واصبر ، ولا تخف إلا الله . وأولو العزم : أي أولو الجد من الرسل ، وهم من حفظ له شدة مع قومه ومجاهدة . فتكون من للتبعيض ، وقيل : يجوز أن تكون للبيان ، أي الذين هم الرسل ، ويكون الرسل كلهم أولي العزم ، وأولو العزم على التبعيض يقتضي أنهم رسل وغير رسل ، وعلى البيان يقتضي أنهم الرسل ، وكونها للتبعيض قول عطاء الخراساني والكلبي ، وللبيان قول ابن زيد . وقال الحسن بن الفضل : هم الثمانية عشر المذكورة في سورة الأنعام ، لأنه قال عقب ذكرهم : ( فبهداهم اقتده ) . وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه طويلا ، وإبراهيم صبر على النار ، وإسحاق صبر نفسه على الذبح ، ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمى [ ص: 69 ] بصره ، وقال فصبر جميل ، ويوسف صبر على السجن والبئر ، وأيوب على البلاء . وزاد غيره : وموسى قال قومه : ( إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين ) ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبر ، فاعبروها ولا تعمروها . ( ولا تستعجل لهم ) : أي لكفار قريش بالعذاب ، أي لا تدع لهم بتعجيله ، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وإنهم مستقصرون حينئذ مدة لبثهم في الدنيا ، كأنهم ( لم يلبثوا إلا ساعة ) . وقرأ أبي : من النهار ، وقرأ الجمهور : من نهار . وقرأ الجمهور : بلاغ ، بالرفع ، والظاهر رجوعه إلى المدة التي لبثوا فيها ، كأنه قيل : تلك الساعة بلاغهم ، كما قال تعالى : ( متاع قليل ) ، فبلاغ خبر مبتدأ محذوف . قيل : ويحتمل أن يكون بلاغ يعني به القرآن والشرع ، أي هذا بلاغ ، أي تبليغ وإنذار . وقال أبو مجلز : بلاغ مبتدأ وخبره لهم ، ويقف على فلا تستعجل ، وهذا ليس بجيد ، لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض ، إذ ظاهر قوله : لهم ، أنه متعلق بقوله : فلا تستعجل لهم ، والحيلولة الجملة التشبيهية بين الخبر والمبتدأ . وقرأ الحسن ، ، وزيد بن علي وعيسى : بلاغا . بالنصب ، فاحتمل أن يراد : بلاغا في القرآن ، أي بلغوا بلاغا ، أو بلغنا بلاغا . وقرأ الحسن أيضا : بلاغ . بالجر ، نعتا لنهار . وقرأ أبو مجلز ، وأبو سراح الهذلي : بلغ علي الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يؤيد حمل " بلاغ " رفعا ونصبا على أنه يعني به تبليغ القرآن والشرع . وعن أبي مجلز أيضا : بلغ فعلا ماضيا . وقرأ الجمهور : يهلك ، بضم الياء وفتح اللام ، وابن محيصن ، فيما حكى عنه ابن خالويه : بفتح الياء وكسر اللام ، وعنه أيضا : بفتح الياء واللام ، وماضيه هلك بكسر اللام ، وهي لغة . وقال أبو الفتح : هي مرغوب عنها . وقرأ : يهلك ، بضم الياء وكسر اللام . ( زيد بن ثابت إلا القوم الفاسقون ) : بالنصب ، وفي هذه الآية وعيد وإنذار .