قال مجاهد وغيره : ودخل كلام بعضهم في بعض . ( المخلفون من الأعراب ) : هم جهينة ، ومزينة ، وغفار ، وأشجع ، والديل ، وأسلم . استنفرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا ، ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت ، وأحرم هو - صلى الله عليه وسلم - ، وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد حربا ، ورأى أولئك الأعراب أنه يستقبل عدوا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل والمجاورين بمكة ، وهم الأحابيش ، ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم ، فقعدوا عن [ ص: 93 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتخلفوا وقالوا : لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة ، ففضحهم الله عز وجل في هذه الآية ، وأعلم رسوله بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم ، فكان كذلك .
( شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا ) : وهذا اعتلال منهم عن تخلفهم ، أي لم يكن لهم من يقوم بحفظ أموالهم وأهليهم غيرهم ، وبدءوا بذكر الأموال ، لأن بها قوام العيش ، وعطفوا الأهل ، لأنهم كانوا يحافظون على حفظ الأهل أكثر من حفظ المال . وقرئ : شغلتنا ، بتشديد الغين ، حكاه ، وهي قراءة الكسائي إبراهيم بن نوح بن باذان ، عن قتيبة . ولما علموا أن ذلك التخلف عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان معصية ، سألوا أن يستغفر لهم . ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) : الظاهر أنه راجع إلى الجملتين المقولتين من الشغل وطلب الاستغفار ، لأن قولهم : شغلتنا ، كذب ، وطلب الاستغفار : خبث منهم وإظهار أنهم مؤمنون عاصون . وقال : هو راجع إلى قولهم : فاستغفر لنا ، يريد أنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم . الطبري
( قل فمن يملك ) : أي من يمنعكم من قضاء الله ؟ ( إن أراد بكم ضرا ) : من قتل أو هزيمة ، ( أو أراد بكم نفعا ) ، من ظفر وغنيمة ؟ أي هو تعالى المتصرف فيكم ، وليس حفظكم أموالكم وأهليكم بمانع من ضياعها إذا أراده الله تعالى . وقرأ الجمهور : ضرا ، بفتح الضاد ، والأخوان : بضمها ، وهما لغتان . ثم بين تعالى لهم العلة في تخلفهم ، وهي ظنهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يرجعون إلى أهليهم . وتقدم الكلام على " أهل " ، وكيف جمع بالواو والنون في قوله : ( ما تطعمون أهليكم ) . وقرأ عبد الله : إلى أهلهم ، بغير ياء ، ( وزين ) قراءة الجمهور مبنيا للمفعول ، والفاعل هو الله تعالى . وقيل غيره ممن نسب إليه التزيين مجازا . وقرئ : وزين مبنيا للفاعل . ( وظننتم ظن السوء ) : احتمل أن يكون هو الظن السابق ، وهو ظنهم أن لا ينقلبوا ويكون قد ساءهم ذلك الظن وأحزنهم حيث أخلف ظنهم . ويحتمل أن يكون غيره لأجل العطف ، أي ظننتم أنه تعالى يخلف وعده في نصر دينه وإعزاز رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
( بورا ) : هلكى ، والظاهر أنه مصدر كالهلك ، ولذلك وصف به المفرد المذكر ، كقول ابن الزبعرى :
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
والمؤنث ، حكى أبو عبيدة : امرأة بور ، والمثنى والمجموع . وقيل : يجوز أن يكون جمع بائر ، كحائل وحول هذا في المعتل ، وبازل وبزل في الصحيح ، وفسر بورا : بفاسدين هلكى . وقال ابن بحر : أشرار . واحتمل وكنتم ، أي يكون المعنى : وصرتم بذلك الظن ، وأن يكون وكنتم على بابها ، أي وكنتم في الأصل قوما فاسدين ، أي الهلاك سابق لكم على ذلك الظن . ولما أخبر تعالى أنهم قوم بور ، ذكر ما يدل على أنهم ليسوا بمؤمنين فقال : ( ومن لم يؤمن بالله ورسوله ) ، فهو كافر جزاؤه السعير . ولما كانوا ليسوا مجاهدين بالكفر ، ولذلك اعتذروا وطلبوا الاستغفار ، مزج وعيدهم وتوبيخهم ببعض الإمهال والترجئة . وقال : ( الزمخشري ولله ملك السماوات والأرض ) ، يدبره تدبير قادر حكيم ، فيغفر ويعذب بمشيئته ، ومشيئته تابعة لحكمته ، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيب المصر . ( وكان الله غفورا رحيما ) ، رحمته سابقة لرحمته ، حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر بالتوبة . انتهى . وهو على مذهب الاعتزال .( سيقول المخلفون ) : روي أن الله تعالى أمر نبيه بغزو خيبر ، ووعده بفتحها ، وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسيره إلى خيبر ، وهم عدو مستضعف ، طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا من الغنيمة ، وكان كذلك . ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) : معناه أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر ، وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم من مغانم مكة خيبر ، إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منها شيئا ، قاله مجاهد وقتادة ، وعليه عامة أهل التأويل . وقال ابن زيد : ( كلام الله ) : قوله تعالى : ( فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ) ،
[ ص: 94 ] وهذا لا يصح ، لأن هذه الآية نزلت في مرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك في آخر عمره . وهذه السورة نزلت عام الحديبية ، وأيضا فقد غزت مزينة وجهينة بعد هذه المدة معه عليه الصلاة والسلام ، وفضلهم بعد على تميم وغطفان وغيرهم من العرب . وقرأ الجمهور : كلام الله ، بألف ، والأخوان : كلم الله ، جمع كلمة ، وأمره تعالى أن يقول لهم : ( لن تتبعونا ) ، وأتى بصيغة لن ، وهي للمبالغة في النفي ، أي لا يتم لكم ذلك ، إذ قد وعد تعالى أن ذلك لا يحضرها إلا أهل الحديبية فقط . ( كذلكم قال الله من قبل ) : يريد وعده قبل اختصاصهم بها . ( بل تحسدوننا ) : أي يعز عليكم أن نصيب مغنما معكم ، وذلك على سبيل الحسد أن نقاسمكم فيما تغنمون . وقرأ أبو حيوة : بكسر السين ، ثم رد عليهم تعالى كلامهم هذا فقال : ( بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ) من أمور الدنيا ، وظاهره ليس لهم فكر إلا فيها ، كقوله : ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ) . والإضراب الأول : رد أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد . والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى ما هو أطم منه ، وهو الجهل وقلة الفقه .
( قل للمخلفين من الأعراب ) : أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك ، ودل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام ، ولو لم يكن الأمر كذلك ، لم يكونوا أهلا لذلك الأمر . وأبهم تعالى في قوله : ( إلى قوم أولي بأس شديد ) . فقال عكرمة ، ، وابن جبير وقتادة : هم هوازن ومن حارب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حنين . وقال كعب : الروم الذين خرج إليهم عام تبوك ، والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة . وقال ، الزهري والكلبي : أهل الردة ، وبنو حنيفة باليمامة . وعن : إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ، ولا نعلم من هم حتى دعا رافع بن خديج أبو بكر ، رضي الله تعالى عنه ، إلى قتال بني حنيفة ، فعلمنا أنهم أريدوا بها . وقال ، ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ومجاهد ، ، وعطاء الخراساني : هم وابن أبي ليلى الفرس . وقال الحسن : فارس والروم . وقال : قوم لم يأتوا بعد . وظاهر الآية يرد هذا القول . والذي أقوله : إن هذه الأقوال تمثيلات من قائليها ، لا أن المعنى بذلك ما ذكروا ، بل أخبر بذلك مبهما دلالة على قوة الإسلام وانتشار دعوته ، وكذا وقع حسن إسلام تلك الطوائف ، وقاتلوا أهل الردة زمان أبو هريرة أبي بكر ، وكانوا في فتوح البلاد أيام عمر وأيام غيره من الخلفاء .
والظاهر أن هؤلاء المقاتلين ليسوا ممن تؤخذ منهم الجزية إذ لم يذكر هنا إلا القتال أو الإسلام . ومذهب أبي حنيفة ، رحمه الله تعالى ورضي عنه : أن الجزية لا تقبل من مشركي العرب ، ولا من المرتدين ، وليس إلا الإسلام أو القتل ، وتقبل ممن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس . ومذهب ، رحمه الله تعالى : لا تقبل إلا من الشافعي أهل الكتاب والمجوس ، دون مشركي العجم والعرب . وقال : وهذا دليل على إمامة الزمخشري ، رضي الله تعالى عنه ، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن بعد وفاته . انتهى . وهذا ليس بصحيح ، فقد حضر كثير منهم مع جعفر في أبي بكر الصديق موتة ، وحضروا حرب هوازن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحضروا معه في سفرة تبوك . ولا يتم قول : إلا على قول من عين أنهم أهل الردة . وقرأ الجمهور : الزمخشري أو يسلمون ، مرفوعا ، وأبي ، : بحذف النون منصوبا بإضمار أن في قول الجمهور من البصريين غير وزيد بن علي الجرمي ، وبها في قول الجرمي ، وبالخلاف في قول والكسائي الفراء وبعض الكوفيين . فعلى قول النصب بإضمار أن هو عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم ، أي يكون قتال أو إسلام ، أي أحد هذين ، ومثله في النصب قول امرئ القيس :
فقلت له لا تبك عينا إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا