[ ص: 101 ] رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل خروجه إلى الحديبية . وقال مجاهد : كانت الرؤيا بالحديبية أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا وقصروا . فقص الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق . فلما تأخر ذلك ، قال عبد الله بن أبي ، ، وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحارث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام . فنزلت . وروي أن رؤياه كانت : أن ملكا جاءه فقال له : ( لتدخلن ) الآية . ومعنى ( صدق الله ) : لم يكذبه ، والله تعالى منزه عن الكذب وعن كل قبيح . وصدق يتعدى إلى اثنين ، الثاني بنفسه وبحرف الجر . تقول : صدقت زيدا الحديث ، وصدقته في الحديث ، وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر وأمر . وقال : فحذف الجار وأوصل الفعل لقوله تعالى : ( الزمخشري صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) . انتهى . فدل كلامه على أن أصله حرف الجر . وبالحق متعلق بمحذوف ، أي صدقا ملتبسا بالحق . ( لتدخلن ) : اللام جواب قسم محذوف ، ويبعد قول من جعله جواب بالحق ، وبالحق قسم لا تعلق له بصدق ، وتعليقه على المشيئة ، قيل : لأنه حكاية قول الملك للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، قاله ابن كيسان . وقيل : هذا التعليق تأدب بآداب الله تعالى ، وإن كان الموعود به متحقق الوقوع ، حيث قال تعالى : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) . وقال ثعلب : استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون . وقال الحسن بن الفضل : كان الله علم أن بعض الذين كانوا بالحديبية يموت ، فوقع الاستثناء لهذا المعنى . وقال أبو عبيدة وقوم : إن بمعنى إذ ، كما قيل في قوله : وإنا إن شاء الله بكم لاحقون . وقيل : هو تعليق في قوله : ( آمنين ) ، لا لأجل إعلامه بالدخول ، فالتعليق مقدم على موضعه . وهذا القول لا يخرج التعليق عن كونه معلقا على واجب ، لأن الدخول والأمن أخبر بهما تعالى ، ووقعت الثقة بالأمرين وهما الدخول والأمن الذي هو قيد في الدخول . و ( آمنين ) : حال مقارنة للدخول . ومحلقين ومقصرين : حال مقدرة ، ولا تخافون : بيان لكمال الأمن بعد تمام الحج .
ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أنهم يدخلونها فيما يستأنف ، واطمأنت قلوبهم ودخلوها معه عليه الصلاة والسلام في ذي القعدة سنة سبع وذلك ثلاثة أيام هو وأصحابه ، وصدقت رؤياه - صلى الله عليه وسلم - .
( فعلم ما لم تعلموا ) : أي ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ، ودخول الناس فيه ، وما كان أيضا بمكة من المؤمنين الذين دفع الله بهم ، قاله ابن عطية . وقال : فعلم ما لم تعلموا من الحكمة والصواب في تأخير فتح الزمخشري مكة إلى العام القابل . انتهى . ولم يكن فتح مكة في العام القابل ، إنما كان بعد ذلك بأكثر من عام ، لأن الفتح إنما كان ثمان من الهجرة . ( فجعل من دون ذلك ) : أي من قبل ذلك ، أي من زمان دون ذلك الزمان الذي وعدوا فيه بالدخول . فتحا قريبا ، قال كثير من الصحابة : هذا الفتح القريب هو بيعة الرضوان . وقال مجاهد وابن إسحاق : هو فتح الحديبية . وقال ابن زيد : خيبر ، وضعف قول من قال إنه فتح مكة ، لأن فتح مكة لم يكن دون دخول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك .
( هو الذي أرسل رسوله ) : فيه تأكيد لصدق رؤياه - صلى الله عليه وسلم - ، وتبشير بفتح مكة لقوله تعالى : ( ليظهره على الدين كله ) ، وتقدم الكلام على معظم هذه الآية . ( وكفى بالله شهيدا ) على أن ما وعده كائن . وعن الحسن : شهيدا على نفسه أنه سيظهر دينك . والظاهر أن قوله : ( محمد رسول الله ) مبتدأ وخبر . وقيل : رسول الله صفة . وقال : عطف بيان ، ( والذين ) معطوف ، والخبر عنه وعنهم أشداء . وأجاز الزمخشري أن يكون الزمخشري محمد خبر مبتدأ محذوف ، أي هو محمد ، لتقدم قوله : ( هو الذي أرسل رسوله ) . وقرأ ابن عامر في رواية : رسول الله بالنصب على المدح ، والذين [ ص: 102 ] معه هم من شهد الحديبية ، قاله . وقال الجمهور : جميع أصحابه أشداء ، جمع شديد ، كقوله : ( ابن عباس أعزة على الكافرين ) . ( رحماء بينهم ) ، كقوله : ( أذلة على المؤمنين ) ، وكقوله : ( واغلظ عليهم ) ، وقوله : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) . وقرأ الحسن : أشداء ، رحماء . بنصبهما . قيل : على المدح ، وقيل : على الحال ، والعامل فيهما العامل في معه ، ويكون الخبر عن المبتدأ المتقدم : تراهم . وقرأ : أشدا ، بالقصر ، وهي شاذة ، لأن قصر الممدود إنما يكون في الشعر ، نحو قوله : يحيى بن يعمر
لا بد من صنعا وإن طال السفر
وفي قوله : ( تراهم ركعا سجدا ) دليل على كثرة ذلك منهم . وقرأ : ورضوانا ، بضم الراء . وقرئ : سيمياهم ، بزيادة ياء والمد ، وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر ، قال الشاعر : عمرو بن عبيدغلام رماه الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر
أخرج الشطء على وجه الثرى ومن الأشجار أفنان الثمر
أحب المؤقدين إلي مؤسى
( يعجب الزراع ) : جملة في موضع الحال ، وإذا أعجب الزراع ، فهو أحرى أن يعجب غيرهم ؛ لأنه لا عيب فيه ، إذ قد أعجب العارفين بعيوب الزرع ، ولو كان معيبا لم يعجبهم ، وهنا تم المثل . و ( ليغيظ ) : متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام قبله تقديره : جعلهم الله بهذه الصفة ( ليغيظ بهم الكفار ) . وقال : فإن قلت : ليغيظ بهم الكفار تعليل لماذا ؟ قلت : لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة ، ويجوز أن يعلل به . ( الزمخشري وعد الله الذين آمنوا ) : لأن الكفار إذا سمعوا بما أعد لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك . ومعنى : ( منهم ) : للبيان ، كقوله تعالى : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) . وقال ابن عطية : وقوله منهم ، لبيان الجنس وليست للتبعيض ، لأنه وعد مدح الجميع . وقال : منهم يعني : من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة ، فأعاد الضمير على معنى الشطء لا على لفظه . والأجر العظيم : الجنة . وذكر عند ابن جرير رجل ينتقص الصحابة ، فقرأ مالك بن أنس مالك هذه الآية وقال : من أصبح بين الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أصابته هذه الآية ، والله الموفق .