[ ص: 116 ] ( لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون ) .
قيل : غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة ، فنزلت . وعن ، سببها قول ابن عباس لرجل لم يفسح له عند النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا ابن فلانة ، فوبخه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له : " ثابت بن قيس إنك لا تفضل أحدا إلا في الدين والتقوى " . ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضا . ( من ذكر وأنثى ) : أي من آدم وحواء ، أو كل أحد منكم من أب وأم ، فكل واحد منكم مساو للآخر في ذلك الوجه ، فلا وجه للتفاخر . ( وجعلناكم شعوبا وقبائل ) : وتقدم الكلام على شيء من ذلك في المفردات . وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب ، والأسباط في بني إسرائيل . وقيل : الشعوب : عرب اليمن من قحطان ، والقبائل : ربيعة ومضر وسائر عدنان . وقال قتادة ، ومجاهد ، والضحاك : الشعب : النسب الأبعد ، والقبيلة : الأقرب ، قال الشاعر :
قبائل من شعوب ليس فيهم كريم قد يعد ولا نجيب
وقيل : الشعوب : الموالي ، والقبائل : العرب . وقال : الشعوب : الذين ينسبون إلى المدائن والقرى ، والقبائل : الذين ينسبون إلى آبائهم . انتهى . وواحد الشعوب شعب ، بفتح الشين . وشعب : بطن من أبو روق همدان ينسب إليه من سادات التابعين ، والنسب إلى الشعوب شعوبية ، بفتح الشين ، وهم الأمم التي ليست بعرب . وقيل : هم الذين يفضلون العجم على العرب ، وكان عامر الشعبي أبو عبيدة خارجيا شعوبيا ، وله كتاب في مناقب العرب ، ولابن غرسبة رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب ، وقد رد عليه ذلك علماء الأندلس برسائل عديدة . وقرأ الجمهور : ( لتعارفوا ) ، مضارع تعارف ، محذوف التاء ، : بتاءين ، والأعمش ومجاهد ، وابن كثير في رواية ، وابن محيصن : بإدغام التاء في التاء ، ، وابن عباس وأبان عن عاصم : لتعرفوا ، مضارع عرف ، والمعنى : أنكم جعلكم الله تعالى ما ذكر ، كي يعرف بعضكم بعضا في النسب ، فلا ينتمي إلى غير آبائه ، لا للتفاخر بالآباء والأجداد ، ودعوى التفاضل ، وهي التقوى . وفي خطبته عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة : " " ، ثم قرأ الآية . وعنه : " إنما الناس رجلان ، مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله " . وما زال التفاخر بالأنساب في الجاهلية والإسلام ، وبالبلاد ، وبالمذاهب وبالعلوم وبالصنائع ، وأكثره بالأنساب : من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله
وأعجب شيء إلى عاقل فروع عن المجد مستأخره
إذا سئلوا ما لهم من علا أشاروا إلى أعظم ناخره
ومن ذلك : افتخار أولاد مشايخ الزوايا الصوفية بآبائهم ، واحترام الناس لهم بذلك وتعظيمهم لهم ، وإن كان الأولاد بخلاف الآباء في الدين والصلاح . وقرأ الجمهور : إن ، بكسر الهمزة ، : بفتحها ، وكان قرأ : لتعرفوا ، مضارع عرف ، فاحتمل أن تكون أن معمولة لتعرفوا وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر ، وهو أجود من حيث المعنى . وأما إن كانت لام كي ، فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوبا وقبائل لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى . فإن جعلت مفعول لتعرفوا محذوفا ، أي لتعرفوا الحق ، لأن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ساغ في لام لتعارفوا أن تكون لام كي . ( وابن عباس قالت الأعراب آمنا ) ، قال مجاهد : [ ص: 117 ] نزلت في بني أسد بن خزيمة ، قبيلة تجاور المدينة ، أظهروا الإسلام وقلوبهم دخلة ، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا . وقيل : مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا آمنا فاستحققنا الكرامة ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : ( قل لم تؤمنوا ) ، أكذبهم الله في دعوى الإيمان ، ولم يصرح بإكذابهم بلفظه ، بل بما دل عليه من انتفاء إيمانهم ، وهذا في أعراب مخصوصين . فقد قال الله تعالى : ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ) الآية . ( ولكن قولوا أسلمنا ) ، فهو اللفظ الصادق من أقوالكم ، وهو الاستسلام والانقياد ظاهرا ، ولم يواطئ أقوالكم ما في قلوبكم ، فلذلك قال : ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) : وجاء النفي بلما الدالة على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار ، وتبين أن قوله : ( لم تؤمنوا ) لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي ، بل متصلا بزمان الإخبار أيضا ، لأنك إذا نفيت بلم ، جاز أن يكون النفي قد انقطع ، ولذلك يجوز أن تقول : لم يقم زيد وقد قام ، وجاز أن يكون النفي متصلا بزمن الإخبار . فإذا كان متصلا بزمن الإخبار ، لم يجز أن تقول : وقد قام ، لتكاذب الخبرين . وأما لما ، فإنها تدل على نفي الشيء متصلا بزمان الإخبار ، ولذلك امتنع لما يقم زيد وقد قام للتكاذب . والظاهر أن قوله : ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) ليس له تعلق بما قبله من جهة الإعراب . وقال : فإن قلت : هو بعد قوله : ( الزمخشري قل لم تؤمنوا ) يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة ، قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله : ( لم تؤمنوا ) هو تكذيب دعواهم ، وقوله : ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم : ( ولكن قولوا أسلمنا ) حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم ، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قوله : ( قولوا ) . انتهى . والذي يظهر أنهم أمروا أن يقولوا : ( قولوا أسلمنا ) غير مقيد بحال ، وأن ( ولما يدخل الإيمان ) إخبار غير قيد في قولهم . وقال : وما في لما من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد . انتهى ، ولا أدري من أي وجه يكون ما نفي بلما يقع بعد ولما ، إنما تنفي ما كان متصلا بزمان الإخبار ، ولا تدل على ما ذكر ، وهي جواب لقد فعل ، وهب أن قد تدل على توقع الفعل . فإذا نفي ما دل على التوقع ، فكيف يتوهم أنه يقع بعد : ( الزمخشري وإن تطيعوا الله ورسوله ) بالإيمان والأعمال ؟ وهذا فتح لباب التوبة . وقرأ الجمهور : ( لا يلتكم ) ، من لات يليت ، وهي لغة الحجاز . والحسن والأعرج وأبو عمرو : ولا يألتكم ، من ألت ، وهي لغة غطفان وأسد . ( ثم لم يرتابوا ) ، ثم تقتضي التراخي ، وانتفاء الريبة يجب أن يقارن الإيمان ، فقيل : من ترتيب الكلام لا من ترتيب الزمان ، أي ثم أقول لم يرتابوا . وقيل : قد يخلص الإيمان ، ثم يعترضه ما يثلم إخلاصه ، فنفى ذلك ، فحصل التراخي ، أو أريد انتفاء الريبة في الأزمان المتراخية المتطاولة ، فحاله في ذلك كحاله في الزمان الأول الذي آمن فيه . ( أولئك هم الصادقون ) : أي في قولهم آمنا ، حيث طابقت ألسنتهم عقائدهم ، وظهرت ثمرة ذلك عليهم بالجهاد بالنفس والمال . وفي سبيل الله يشمل جميع الطاعات البدنية والمالية ، وليسوا كأعراب بني أسد في قولهم آمنا ، وهم كاذبون في ذلك . ( قل أتعلمون الله بدينكم ) ، هي منقولة من : علمت به ، أي شعرت به ، ولذلك تعدت إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر لما ثقلت بالتضعيف ، وفي ذلك تجهيل لهم ، حيث ظنوا أن ذلك يخفى على الله تعالى . ثم ذكر إحاطة علمه بما في السماوات والأرض . ويقال : من عليهم بيد أسداها إليه ، أي أنعم عليه . المنة : النعمة التي لا يطلب لها ثواب ، ثم يقال : من عليه صنعه ، إذا اعتده عليه منة وإنعاما ، أي يعتدون عليك أن أسلموا ، فإن أسلموا في موضع المفعول ، ولذلك تعدى إليه في قوله : ( قل لا تمنوا علي إسلامكم ) . ويجوز أن يكون أسلموا مفعولا من أجله ، أي يتفضلون عليك بإسلامهم . ( أن هداكم للإيمان ) بزعمكم ، وتعليق المن بهدايتهم بشرط الصدق يدل على أنهم ليسوا مؤمنين ، إذ قد بين تعالى كذبهم في قولهم آمنا [ ص: 118 ] بقوله : ( قل لم تؤمنوا ) . وقرأ عبد الله ، إذ هداكم ، جعلا إذ مكان إن ، وكلاهما تعليل ، وجواب الشرط محذوف ، أي ( وزيد بن علي إن كنتم صادقين ) ، فهو المان عليكم . وقرأ ابن كثير وأبان عن عاصم : يعلمون ، بياء الغيبة ، والجمهور : بتاء الخطاب .