( قال سلام ) بالرفع ، وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره : [ ص: 139 ] عليكم سلام . قصد أن يجيبهم بأحسن مما حيوه أخذا بأدب الله تعالى ، إذ سلاما دعاء . وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي أمري سلام ، وسلام جملة خبرية قد تحصل مضمونها ووقع . وقال ابن عطية : ويتجه أن يعمل في سلاما قالوا ، على أن يجعل سلاما في معنى قولا ، ويكون المعنى حينئذ : أنهم قالوا تحية ، وقولا معناه سلاما ، وهذا قول مجاهد . وقرأ ، ابن وثاب والنخعي ، ، وابن جبير وطلحة : قال سلم ، بكسر السين وإسكان اللام ، والمعنى : نحن سلم ، أو أنتم سلم ، وقرئا مرفوعين . وقرئ : سلاما قالوا سلما . بنصبهما وكسر سين الثاني وسكون لامه . ( قوم منكرون ) ، قال أبو العالية : أنكر سلامهم في تلك الأرض وذلك الزمان . وقيل : لا نميزهم ولا عهد لنا بهم . وقيل : كان هذا سؤالهم ، كأنه قال : أنتم قوم منكرون ، فعرفوني من أنتم . وقوم خبر مبتدأ محذوف قدره أنتم ، والذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لا يخاطبهم بذلك ، إذ فيه من عدم الإنس ما لا يخفى ، بل يظهر أنه يكون التقدير : هؤلاء قوم منكرون . وقال ذلك مع نفسه ، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه بحيث لا يسمع ذلك الأضياف .
( فراغ إلى أهله ) : أي مضى أثناء حديثه ، مخفيا مضيه مستعجلا ، ( فجاء بعجل سمين ) : ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يبادر بالقرا من غير أن يشعر به الضيف ، حذرا من أن يمنعه أن يجيء بالضيافة . وكونه عطف فجاء على فراغ يدل على سرعة مجيئه بالقرا ، وأنه كان معدى عنده لمن يرد عليه . وقال في سورة هود : ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) ، وهذا يدل أيضا على أنه كان العجل سابقا شيه قبل مجيئهم . وقال قتادة : كان غالب ماله البقر ، وفيه دليل على أنه يحضر للضيف أكثر مما يأكل . وكان عليه الصلاة والسلام مضيافا ، وحسبك وقف للضيافة أوقافا تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها .
( فقربه إليهم ) : فيه أدب المضيف من تقريب القرا لمن يأكل ، وفيه العرض على الأكل ، فإن في ذلك تأنيسا للأكل ، بخلاف من قدم طعاما ولم يحث على أكله ، فإن الحاضر قد يتوهم أنه قدمه على سبيل التجمل ، عسى أن يمتنع الحاضر من الأكل ، وهذا موجود في طباع بعض الناس . حتى أن بعضهم إذا لج الحاضر وتمادى في الأكل ، أخذ من أحسن ما أحضر وأجزله ، فيعطيه لغلامه برسم رفعه لوقت آخر يختص هو بأكله . وقيل : الهمزة في ألا للإنكار ، وكأنه ثم محذوف تقديره : فامتنعوا من الأكل ، فأنكر عليهم ترك الأكل فقال : ( ألا تأكلون ) . وفي الحديث : " إنهم قالوا إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه ، فقال لهم : وإني لا أبيحه لكم إلا بثمن ، قالوا : وما هو ؟ قال : أن تسموا الله عز وجل عند الابتداء وتحمدوه عند الفراغ من الأكل ، فقال بعضهم لبعض : بحق اتخذه الله خليلا " .
( فأوجس منهم خيفة ) : أي فلما استمروا على الامتناع من الأكل ، أوجس منهم خيفة ، وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه ، وللطعام حرمة وذمام ، والامتناع منه وحشة . فخشي إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن امتناعهم من أكل طعامه إنما هو لشر يريدونه ، فقالوا لا تخف ، وعرفوه أنهم ملائكة . وعن : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب . وعلمهم بما أضمر في نفسه من الخوف ، إنما يكون بإطلاع الله ملائكته على ما في نفسه ، أو بظهور أمارته في الوجه ، فاستدلوا بذلك على الباطن . وعن ابن عباس يحيى بن شداد : مسح جبريل عليه السلام بجناحه العجل ، فقام يدرج حتى لحق بأمه . ( بغلام عليم ) : أي سيكون عليما ، وفيه تبشير بحياته حتى يكون من العلماء . وعن الحسن : عليم نبي ، والجمهور : على أن المبشر به هو إسحاق ابن سارة . وقال مجاهد : هو إسماعيل . وقيل : علم أنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب ، ووقعت البشارة بعد التأنيس والجلوس ، وكانت البشارة بذكر ، لأنه أسر للنفس وأبهج ، ووصفه بعليم لأنها الصفة التي يختص بها الإنسان الكامل إلا بالصورة الجميلة والقوة .
( فأقبلت امرأته في صرة ) : أي إلى بيتها ، وكانت في زاوية تنظر [ ص: 140 ] إليهم وتسمع كلامهم . وقيل : ( فأقبلت ) ، أي شرعت في الصياح . قيل : وجدت حرارة الدم ، فلطمت وجهها من الحياء . والصرة ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وسفيان : الصيحة . قال الشاعر :
فألحقنا بالهاديات ودونه حواجرها في صرة لم تزيل
وقال قتادة وعكرمة : الرنة . قيل : قالت أوه بصياح وتعجب . وقال ابن بحر : الجماعة ، أي من النسوة تبادروا نظرا إلى الملائكة . وقال الجوهري : الصرة : الصيحة والجماعة والشدة . ( فصكت وجهها ) : أي لطمته ، قاله ، وكذلك كما يفعله من يرد عليه أمر يستهو له ويتعجب منه ، وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء . وقال ابن عباس السدي وسفيان : ضربت بكفها جبهتها ، وهذا مستعمل في الناس حتى الآن . ( وقالت عجوز عقيم ) : أي إنه قد اجتمع فيها أنها عجوز ، وذلك مانع من الولادة ، وأنها عقيم ، وهي التي لم تلد قط ، فكيف ألد ؟ تعجبت من ذلك . ( قالوا كذلك ) : أي مثل القول الذي أخبرناك به ، ( قال ربك ) : وهو القادر على إيجاد ما يستبعد . وروي أن جبريل عليه السلام قال لها : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت ، فإذا جذوعه مورقة مثمرة . ( إنه هو الحكيم ) : أي ذو الحكمة . ( العليم ) بالمصالح .ولما علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنهم ملائكة ، وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله تعالى رسلا ، قال ( فما خطبكم ) إلى : ( قوم مجرمين ) : أي ذوي جرائم ، وهي كبار المعاصي من كفر وغيره . ( لنرسل عليهم ) : أي لنهلكهم بها ، ( حجارة من طين ) : وهو السجيل ، طين يطبخ كما يطبخ الآجر حتى يصير في صلابة كالحجارة . ( ) : معلمة ، على كل واحد منها اسم صاحبه . وقيل : معلمة أنها من حجارة العذاب . وقيل : معلمة أنها ليست من حجارة الدنيا ، ( للمسرفين ) : وهم المجاوزون الحد في الكفر . ( مسومة فأخرجنا من كان فيها ) : في القرية التي حل العذاب بأهلها . ( غير بيت ) : هو بيت لوط عليه السلام ، وهو لوط وابنتاه فقط ، وقيل : ثلاثة عشر نفسا . وقال الرماني : الآية تدل على أن الإيمان هو الإسلام ، وكذا قال ، وهما معتزليان . الزمخشري
( وتركنا فيها ) : أي في القرية ، ( آية ) : علامة . قال : حجرا كبيرا جدا منضودا . وقيل : ماء أسود منتن . ويجوز أن يكون فيها عائدا على الإهلاكة التي أهلكوها ، فإنها من أعاجيب الإهلاك ، بجعل أعالي القرية أسافل وإمطار الحجارة . والظاهر أن قوله : ( ابن جريج وفي موسى ) معطوف على ( وتركنا فيها ) : أي في قصة موسى . وقال الزمخشري وابن عطية : ( وفي موسى ) يكون عطفا على ( وفي الأرض آيات للموقنين ) . ( وفي موسى ) ، وهذا بعيد جدا ، ينزه القرآن عن مثله . وقال أيضا : أو على قوله ، ( الزمخشري وتركنا فيها آية ) ، على معنى : وجعلنا في موسى آية ، كقوله :
علفتها تبنا وماء باردا
انتهى ، ولا حاجة إلى إضمار ( وتركنا ) ، لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور ( وتركنا ) . ( فتولى بركنه ) : أي ازور وأعرض ، كما قال : ( ونأى بجانبه ) . وقيل : بقوته وسلطانه . وقال ابن زيد : بركنه : بمجموعه . وقال قتادة : بقومه . ( وقال ساحر أو مجنون ) : ظن أحدهما ، أو تعمد الكذب ، وقد علم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقا . وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو ، ويدل على ذلك أنه قد قالهما ، قال : ( إن هذا لساحر عليم ) ، و ( قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ) ، واستشهد أبو عبيدة بقول جرير :أثعلبة الفوارس أو رباحا عدلت بهم طهية والحشايا
( ما تذر من شيء أتت عليه ) : وهو عام مخصوص ، كقوله : ( تدمر كل شيء بأمر ربها ) : أي مما أراد الله تدميره وإهلاكه من ناس أو ديار أو شجر أو نبات ، لأنها لم يرد الله بها إهلاك الجبال والآكام والصخور ، ولا العالم الذي لم يكن من قوم عاد . ( إلا جعلته كالرميم ) : جملة حالية ، والرميم تقدم تفسيره في يس ، وهنا قال : التراب ، السدي وقتادة : الهشيم ، ومجاهد : البالي ، وقطرب : الرماد ، وابن عيسى : المنسحق الذي لا يرم ، جعل الهمزة في أرم للسلب . روي أن الريح كانت تمر بالناس ، فيهم الرجل من قوم عاد ، فتنزعه من بينهم وتهلكه . ( تمتعوا حتى حين ) ، قال الحسن : هذا كان حين بعث إليهم صالح ، أمروا بالإيمان بما جاء به والتمتع إلى أن تأتي آجالهم ، ثم إنهم عتوا بعد ذلك ، ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عن ما أمروا به ، فهو مطابق لفظا ووجودا . وقال الفراء : هذا الأمر بالتمتع كان بعد عقر الناقة ، والحين ثلاثة أيام التي أوعدوا في تمامها بالعذاب . فالعتو كان قد تقدم قبل أن يقال لهم تمتعوا ، ولا ضرورة تدعو إلى قول الفراء ، إذ هو غير مرتب في الوجود . وقرأ الجمهور : الصاعقة ; وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما ، : الصعقة ، وهي الصيحة هنا . وقرأ والكسائي الحسن : الصاعقة ; كقراءة وزيد بن علي . ( الكسائي وهم ينظرون ) : أي فجأة ، وهم ينظرون بعيونهم ، قاله : وكانت نهارا . وقال الطبري مجاهد : ( وهم ينظرون ) ينتظرون ذلك في تلك الأيام الثلاثة التي أعلموه فيها ، ورأوا علاماته في قلوبهم ، وانتظار العذاب أشد من العذاب .
( فما استطاعوا من قيام ) ؛ لقوله : ( فأصبحوا في دارهم جاثمين ) ، ونفي الاستطاعة أبلغ من نفي القدرة . ( وما كانوا منتصرين ) ، أبلغ من نفي الانتصار : أي فما قدروا على الهرب ، ولا كانوا ممن ينتصر لنفسه فيدفع ما حل به . وقيل : ( من قيام ) ، هو من قولهم : ما يقوم به إذا عجز عن دفعه ، فليس المعنى انتصاب القامة ، قاله قتادة . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، : ( وقوم ) بالجر عطفا على ما تقدم ، أي وفي قوم والكسائي نوح ، وهي قراءة عبد الله . وقرأ باقي السبعة ، وأبو عمرو في رواية : بالنصب . قيل : عطفا على الضمير في ( فأخذتهم ) ; وقيل : عطفا على ( فنبذناهم ) ، لأن معنى كل منهما : فأهلكناهم . وقيل : منصوب بإضمار فعل تقديره : وأهلكنا قوم نوح ، لدلالة معنى الكلام عليه . وقيل : بـ ( اذكر ) مضمرة . وروى عبد الوارث ، ومحبوب عن والأصمعي أبي عمرو ، وأبو السمال ، وابن مقسم : وقوم نوح بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي أهلكناهم .