تقدمت قصة عاد مطولة ومتوسطة ، وهنا ذكرها تعالى موجزة ، كما ذكر قصة نوح عليه السلام موجزة . ولما لم يكن لقوم نوح علم ، ذكر " قوم " مضافا إلى نوح . ولما كانت عاد علما لقوم هود ، ذكر العلم ، لأنه أبلغ في الذكر من التعريف بالإضافة . وتكرر التهويل بالاستفهام قبل ذكر ما حل بهم وبعده ، لغرابة ما عذبوا به من الريح ، وانفرادهم بهذا النوع من العذاب ، ولأن الاختصار داعية الاعتبار والتدبر والصرصر الباردة ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة . وقيل المصوتة . والجمهور على إضافة يوم إلى نحس ، وسكون الحاء . وقرأ الحسن : بتنوين يوم وكسر الحاء ، جعله صفة لليوم ، كقوله تعالى : ( في أيام نحسات ) . ( مستمر ) ، قال قتادة : استمر بهم حتى بلغهم جهنم . وعن الحسن والضحاك : كان مرا عليهم . وروي أنه كان يوم الأربعاء ، والذي يظهر أنه ليس يوما معينا ، بل أريد به الزمان والوقت ، كأنه قيل : في وقت نحس . ويدل على ذلك أنه قال في سورة فصلت : ( فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات ) . وقال في الحاقة : ( سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ) ، إلا أن يكون ابتداء الريح في يوم الأربعاء ، فعبر بوقت الابتداء ، وهو يوم الأربعاء ، فيمكن الجمع بينها .
( تنزع الناس ) : يجوز أن يكون صفة للريح ، وأن يكون حالا منها ، لأنها وصفت فقربت من المعرفة . ويحتمل أن يكون تنزع مستأنفا ، وجاء الظاهر مكان المضمر ليشمل ذكورهم وإناثهم ، إذ لو عاد بضمير المذكورين ، لتوهم أنه خاص بهم ، أي تقلعهم من أماكنهم . قال مجاهد : يلقى الرجل على رأسه ، فتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه . وقيل : كانوا يصطفون آخذي بعضهم بأيدي بعض ، ويدخلون في الشعاب ، ويحفرون الحفر فيندسون فيها ، فتنزعهم وتدق رقابهم . والجملة التشبيهية حال من الناس ، وهي حال مقدرة . وقال : في الكلام حذف تقديره : فتتركهم . ( الطبري كأنهم أعجاز نخل ) : فالكاف في موضع نصب بالمحذوف ، شبههم بأعجاز النخل المنقعر ، إذ تساقطوا على الأرض أمواتا وهم جثث عظام طوال . والأعجاز : الأصول بلا فروع قد انقلعت من مغارسها . وقيل : كانت الريح تقطع رءوسهم ، فتبقى أجسادا بلا رءوس ، فأشبهت أعجاز النخل التي انقلعت من مغرسها . وقرأ أبو نهيك : أعجز على وزن أفعل ، نحو ضبع وأضبع . والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث ، وإنما ذكر هنا لمناسبة الفواصل ، وأنث في قوله : ( أعجاز نخل خاوية ) في الحاقة لمناسبة الفواصل أيضا . وقرأ أبو السمال ، فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل ، : برفعهما . فـ ( وأبو عمرو الداني أبشر ) : مبتدأ ، وواحد صفته ، والخبر نتبعه . ونقل ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية رفع أبشر ونصب واحدا عن أبي السمال . قال صاحب اللوامح : فأما رفع " أبشر " فبإضمار الخبر بتقدير : أبشر منا يبعث إلينا ، أو يرسل ، أو نحوهما ؟ وأما انتصاب واحدا فعلى الحال ، إما مما قبله بتقدير : أبشر كائن منا في الحال توحده ، وإما مما بعده بمعنى : [ ص: 180 ] نتبعه في توحده ، أو في انفراده . وقال ابن عطية : ورفعه إما على إضمار فعل مبني للمفعول ، التقدير : أينبأ بشر ؟ وإما على الابتداء ، والخبر في قوله : ( نتبعه ) ، وواحدا على هذه القراءة حال إما من الضمير في نتبعه ، وإما من المقدر مع منا ، كأنه يقول : أبشر كائن منا واحدا ؟ وفي هذا نظر . وقولهم ذلك حسد منهم واستبعاد أن يكون نوع البشر يفضل بعضه بعضا هذا الفضل ، فقالوا : نكون جمعا ونتبع واحدا ، ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ويفيض نور الهدى على من رضيه . انتهى .
وقال : فإن قلت : كيف أنكروا أن يتبعوا بشرا منهم واحدا ؟ قلت : قالوا : أبشرا إنكارا ؟ لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكونوا من جنس أعلى من جنس البشر ، وهم الملائكة ، وقالوا منا ، لأنه إذا كان منهم ، كانت المماثلة أقوى ، وقالوا واحدا إنكارا لأن تتبع الأمة رجلا واحدا ، وأرادوا واحدا من أبنائهم ليس بأشرفهم ولا أفضلهم ، ويدل عليه . ( الزمخشري أألقي الذكر عليه من بيننا ) : أي أأنزل عليه الوحي من بيننا ؟ وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة . انتهى ، وهو حسن ، على أن فيه تحميل اللفظ ما لا يحتمله . ( إنا إذا ) : أي إن اتبعناه ، فنحن في ضلال : أي بعد عن الصواب وحيرة . وقال الضحاك : في تيه . وقال وهب : بعد عن الحق ، ( وسعر ) : أي عذاب ، قاله . وعنه وجنون يقال : ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة ، وقال الشاعر : ابن عباس
كأن بها سعرا إذا العيس هزها زميل وإزجاء من السير متعب
وقال قتادة : وسعر : عناء . وقال ابن بحر : وسعر جمع سعير ، وهو وقود النار ، أي في خطر كمن هو في النار . انتهى . وروي أنه كان يقول لهم : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر : أي نيران ، فعكسوا عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذا كما تقول . ثم زادوا في الإنكار والاستبعاد فقالوا : ( أألقي ) : أي أأنزل ؟ قيل : وكأنه يتضمن العجلة في الفعل ، والعرب تستعمل هذا الفعل ، ومنه : ( وألقيت عليك محبة مني ) ، ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) . والذكر هنا : الوحي والرسالة وما جاءهم من الحكمة والموعظة . ثم قالوا : ليس الأمر كما تزعم بل هو القرآن . ( أشر ) : أي بطر ، يريد العلو علينا ، وأن يقتادنا ويتملك طاعتنا . وقرأ قتادة وأبو قلابة : بل هو الكذاب الأشر ، بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشد الراء ، وكذا الأشر الحرف الثاني . وقرأ الحرف الثاني مجاهد ، فيما ذكر صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي الأشر بثلاث ضمات وتخفيف الراء . ويقال : أشر وأشر ، كحذر وحذر ، فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لضمة الشين . وحكى عن الكسائي مجاهد ضم الشين . وقرأ أبو حيوة هذا الحرف الآخر ( الأشر ) أفعل تفضيل ، وإتمام خير وشر في أفعل التفضيل قليل . وحكى أن العرب تقول : هو أخير وهو أشر . قال الراجز . ابن الأنباريبلال خير الناس وابن الأخير
وقال أبو حاتم : لا تكاد العرب تتكلم بالأخير والأشر إلا في ضرورة الشعر ، وأنشد قول رؤبة بلال البيت . وقرأ علي والجمهور : سيعلمون بياء الغيبة ، وهو من إعلام الله تعالى لصالح عليه السلام ; وابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب : بتاء الخطاب : أي قل لهم يا والأعمش صالح وعدا يراد به الزمان المستقبل ، لا اليوم الذي يلي يوم خطابهم ، فاحتمل أن يكون يوم العذاب الحال بهم في الدنيا ، وأن يكون يوم القيامة ، وقال الطرماح :
ألا عللاني قبل نوح النوائح وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي في غد إذا راح أصحابي ولست برائح
أراد وقت الموت ، ولم يرد غدا بعينه . وفي قوله : ( سيعلمون غدا ) تهديد ووعيد ببيان انكشاف الأمر ، والمعنى : أنهم هم الكذابون الأشرون . وأورد ذلك مورد الإبهام والاحتمال ، وإن كانوا هم المعنيين [ ص: 181 ] بقوله تعالى ، حكاية عن قول نوح عليه الصلاة والسلام : ( فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ) ، والمعني به قومه ، وكذا قول شعيب عليه السلام : ( سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ) ; وقول الشاعر :
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أني وأيك فارس الأحزاب
يروى أن جبريل عليه السلام صاح في طرف منازلهم ، فتفتتوا وهمدوا وصاروا ( كهشيم المحتظر ) وهو ما تفتت وتهضم من الشجر . والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة ، فإنه تتفتت منه حالة العمل وتتساقط أجزاء مما يعمل به ، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان ، تطأه البهائم فيتهشم . وقرأ الجمهور : بكسر الظاء ; وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وأبو عمرو بن عبيد : بفتحها ، وهو موضع الاحتظار . وقيل : هو مصدر ، أي كهشيم الاحتظار ، وهو ما تفتت حالة الاحتظار . والحظيرة تصنعها العرب وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب . والحظر : المنع ; وعن ابن عباس وقتادة ، أن المحتظر هو المحترق . قال قتادة : كهشيم محترق ; وعن ابن جبير : هو التراب الذي يسقط من الحائط البالي . وقيل : المحتظر بفتح الظاء هو الهشيم نفسه ، فيكون من إضافة الموصوف إلى صفته ، كمسجد الجامع على من تأوله كذلك ، وكان هنا قيل : بمعنى صار .