[ ص: 182 ] تقدمت قصة لوط عليه السلام وقومه . والحاصب من الحصباء ، وهو المعني بقوله تعالى : ( وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ) . ( إلا آل لوط ) ، قيل : إلا ابنتاه ، و ( بسحر ) : هو بكرة ، فلذلك صرف ، وانتصب ( نعمة ) على أنه مفعول من أجله ، أي نجيناهم لإنعامنا عليهم أو على المصدر ، لأن المعنى : أنعمنا بالتنجية إنعاما . ( كذلك نجزي ) : أي مثل ذلك الإنعام والتنجية نجزي ( من شكر ) إنعامنا وأطاع وآمن . ( ولقد أنذرهم بطشتنا ) : أي أخذتنا لهم بالعذاب ، ( فتماروا ) : أي تشككوا وتعاطوا ذلك ، ( بالنذر ) : أي بالإنذار ، أو يكون جمع نذير . ( فطمسنا ) ، قال قتادة : الطمس حقيقة جر جبريل عليه السلام على أعينهم جناحه ، فاستوت مع وجوههم . وقال أبو عبيدة : مطموسة بجلد كالوجه . قيل : لما صفقهم جبريل عليه السلام بجناحه ، تركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب ، حتى أخرجهم لوط عليه السلام . وقال ابن عباس والضحاك : هذه استعارة ، وإنما حجب إدراكهم ، فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا ، فجعل ذلك كالطمس . وقرأ الجمهور : فطمسنا بتخفيف الميم ; وابن مقسم : بتشديدها . ( فذوقوا ) : أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا .
( ولقد صبحهم بكرة ) : أي أول النهار وباكره ، لقوله : ( مشرقين ) و ( مصبحين ) . وقرأ الجمهور : بكرة بالتنوين ، أراد بكرة من البكر ، فصرف . وقرأ : بغير تنوين . ( زيد بن علي عذاب مستقر ) : أي لم يكشفه عنهم كاشف ، بل اتصل بموتهم ، ثم بما بعد ذلك من عذاب القبر ، ثم عذاب جهنم . ( فذوقوا عذابي ونذر ) : توكيد وتوبيخ ، ذلك عند الطمس ، وهذا عند تصبيح العذاب . قيل : وفائدة تكرار هذا وتكرار ( ولقد يسرنا ) ، التجرد عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ، للاتعاظ واستئناف التيقظ إذا سمعوا الحث على ذلك لئلا تستولي عليهم الغفلة ، وهكذا حكم التكرير لقوله : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) عند كل نعمة عدها في سورة الرحمن . وقوله : ( ويل يومئذ للمكذبين ) عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات ، وكذلك تكرير القصص في أنفسها ، لتكون العبرة حاضرة للقلوب ، مذكورة في كل أوان .
( ولقد جاء آل فرعون النذر ) : هم موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون ، أو يكون جمع نذير المصدر بمعنى الإنذار . ( كذبوا بآياتنا ) هي التسع ، والتوكيد هنا كهو في قوله : ( ولقد أريناه آياتنا كلها ) . والظاهر أن الضمير في : ( كذبوا ) ، وفي : ( فأخذناهم ) عائد على آل فرعون . وقيل : هو عائد على جميع من تقدم من الأمم ذكره ، وتم الكلام عند قوله : ( النذر ) . ( فأخذناهم أخذ عزيز ) : لا يغالب ، ( مقتدر ) : لا يعجزه شيء . ( أكفاركم ) : خطاب لأهل مكة ، ( خير من أولئكم ) : الإشارة إلى قوم نوح وهود وصالح ولوط ، وإلى فرعون ، والمعنى : أهم خير في القوة وآلات الحروب والمكانة في الدنيا ، أو أقل كفؤا وعنادا ؟ فلأجل كونهم خيرا لا يعاقبون على الكفر بالله ، وقفهم على توبيخهم ، أي ليس كفاركم خيرا من أولئكم ، بل هم مثلهم أو شر منهم ، وقد علمتم ما لحق أولئك من الهلاك المستأصل لما كذبوا الرسل . ( أم لكم براءة في الزبر ) : أي ألكم في الكتب الإلهية براءة من عذاب الله تعالى ؟ قاله الضحاك وعكرمة وابن زيد .
( أم يقولون نحن جميع ) أي واثقون بجماعتنا ، منتصرون بقوتنا ، تقولون ذلك على سبيل الإعجاب بأنفسكم . وقرأ الجمهور : أم يقولون ، بياء الغيبة التفاتا ، وكذا ما بعده للغائب . وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري [ ص: 183 ] وأبو البرهسم : بتاء الخطاب للكفار ، اتباعا لما تقدم من خطابهم . وقرءوا : ستهزم الجمع ، بفتح التاء وكسر الزاي وفتح العين ، خطابا للرسول ، صلى الله عليه وسلم ; وأبو حيوة أيضا ويعقوب : بالنون مفتوحة وكسر الزاي وفتح العين ; والجمهور : بالياء مبنيا للمفعول وضم العين . وعن أبي حيوة أيضا : بفتح الياء مبنيا للفاعل ونصب العين : أي سيهزم الله الجمع . والجمهور : ( وابن أبي عبلة ويولون ) بياء الغيبة ; وأبو حيوة وداود بن أبي سالم ، عن أبي عمرو : بتاء الخطاب . والدبر هنا : اسم جنس ، وجاء في موضع آخر ( ليولن الأدبار ) ، وهو الأصل ، وحسن اسم الجنس هنا كونه فاصلة . وقال : ( الزمخشري ويولون الدبر ) : أي الأدبار ، كما قال : كلوا في بعض بطنكم تعفوا . وقرئ : الأدبار . انتهى ، وليس مثل بطنكم ، لأن مجيء الدبر مفردا ليس بحسن ، ولا يحسن لإفراد بطنكم . وفي قوله تعالى : ( سيهزم الجمع ) عدة من الله تعالى لرسوله ، صلى الله عليه وسلم ، بهزيمة جمع قريش ; والجمهور : على أنها مكية ، وتلاها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، مستشهدا بها . وقيل : نزلت يوم بدر .
( بل الساعة موعدهم ) : انتقل من تلك الأقوال إلى أمر الساعة التي عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتال . ( والساعة أدهى ) : أي أفظع وأشد ، والداهية الأمر : المنكر الذي لا يهتدى لدفعه ، وهي الرزية العظمى تحل بالشخص . ( وأمر ) من المرارة : استعارة لصعوبة الشيء على النفس . ( إن المجرمين في ضلال ) : أي في حيرة وتخبط في الدنيا . ( وسعر ) : أي احتراق في الآخرة ، جعلوا فيه من حيث مصيرهم إليه . وقال : وخسران وجنون ، والسعر : الجنون ، وتقدم مثله في قصة ابن عباس صالح عليه السلام . ( يوم يسحبون ) : يجرون ( في النار ) ، وفي قراءة عبد الله : إلى النار . ( على وجوههم ذوقوا ) : أي مقولا لهم : ( ذوقوا مس سقر ) . وقرأ محبوب عن أبي عمرو : مسقر ، بإدغام السين في السين . قال ابن مجاهد : إدغامه خطأ لأنه مشدد . انتهى . والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ، ثم أدغم .
( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) ، قراءة الجمهور : كل شيء بالنصب . وقرأ أبو السمال ، قال ابن عطية وقوم من أهل السنة : بالرفع . قال أبو الفتح : هو الوجه في العربية ، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة . وقال قوم : إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف ، وأن ما بعده يصلح للخبر ، وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر ، اختير النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف ، ومنه هذا الموضع ، لأن في قراءة الرفع يتخيل أن الفعل وصف ، وأن الخبر يقدر . فقد تنازع أهل السنة والقدرية الاستدلال بهذه الآية . فأهل السنة يقولون : كل شيء فهو مخلوق لله تعالى بقدرة دليله قراءة النصب ، لأنه لا يفسر في مثل هذا التركيب إلا ما يصح أن يكون خبرا لو وقع الأول على الابتداء . وقالت القدرية : القراءة برفع كل ، وخلقناه في موضع الصفة لكل ، أي إن أمرنا أو شأننا كل شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار ، على حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك . وقال : " كل شيء " منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر . وقرئ : كل شيء بالرفع ، والقدر هو التقدير . وقرئ بهما ، أي خلقنا كل شيء مقدرا محكما مرتبا على حسب ما اقتضته الحكمة ، أو مقدرا مكتوبا في اللوح ، معلوما قبل كونه ، قد علمنا حاله وزمانه . انتهى . قيل : والقدر فيه وجوه : أحدها : أن يكون بمعنى المقدار في ذاته وصفاته . والثاني : التقدير ، قال تعالى : ( الزمخشري فقدرنا فنعم القادرون ) . وقال الشاعر :
وما قدر الرحمن ما هو قادر
أي ما هو مقدور . والثالث : القدر الذي يقال مع القضاء ، يقال : كان ذلك بقضاء الله وقدره ، والمعنى : أن القضاء ما في العلم ، والقدر ما في الإرادة ، فالمعنى في الآية : ( خلقناه بقدر ) : أي بقدرة مع إرادة . انتهى . ( وما أمرنا إلا واحدة ) : أي إلا كلمة واحدة وهي : كن كلمح بالبصر ، تشبيه بأعجل ما يحس ، وفي أشياء ، أمر الله تعالى أوحى من ذلك ، والمعنى : أنه إذا أراد [ ص: 184 ] تكوين شيء لم يتأخر عن إرادته . ( ولقد أهلكنا أشياعكم ) : أي الفرق المتشايعة في مذهب ودين . ( وكل شيء فعلوه ) : أي فعلته الأمم المكذبة ، محفوظ عليهم إلى يوم القيامة ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد . ومعنى ( في الزبر ) : في دواوين الحفظة . ( وكل صغير وكبير ) من الأعمال ، ومن كل ما هو كائن ، ( مستطر ) : أي مسطور في اللوح . يقال : سطرت واستطرت بمعنى . وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وعصمة عن أبي بكر : بشد راء " مستطر " . قال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون من طر النبات والشارب إذا ظهر وثبت بمعنى : كل شيء ظاهر في اللوح مثبت فيه . ويجوز أن يكون من الاستطار ، لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول : جعفر ونفعل بالتشديد وقفا . انتهى ، ووزنه على التوجيه الأول استفعل ، وعلى الثاني افتعل . وقرأ الجمهور : ونهر على الإفراد ، والهاء مفتوحة ; والأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان : بسكونها ، والمراد به الجنس ، إن أريد به الأنهار ، أو يكون معنى ونهر وسعة في الأرزاق والمنازل ، ومنه قول قيس بن الخطيم :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها