العامل في " يوم " ما عمل في لهم ; التقدير : ومستقر له أجر كريم يوم ترى ، أو اذكر يوم ترى إعظاما لذلك اليوم . والرؤية هنا رؤية عين ، والنور حقيقة ، وهو قول الجمهور ، وروي في ذلك عن وغيره آثار ، وأن كل مظهر من الإيمان له نور فيطفئ نور المنافق ، ويبقى نور المؤمن ، وهم متفاوتون في النور . منهم من يضيء كما بين ابن عباس مكة وصنعاء ، ومن نوره كالنخلة السحوق ، ومن يضيء له ما قرب قدميه . ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويبين مرة ، وذلك على قدر الأعمال . وقال الضحاك : النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه . والظاهر أن النور يتقدم لهم بين أيديهم ، ويكون أيضا بأيمانهم ، فيظهر أنهما نوران : نور ساع بين أيديهم ، ونور بأيمانهم ; فذلك يضيء الجهة التي يؤمونها ، وهذا يضيء ما حواليهم من الجهات . وقال الجمهور : النور أصله بأيمانهم ، والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط [ ص: 221 ] من ذلك النور . وقيل : الباء بمعنى عن ، أي عن أيمانهم ، والمعنى : في جميع جهاتهم . وعبر عن ذلك بالأيمان تشريفا لها . وقال : وإنما قال ( الزمخشري بين أيديهم وبأيمانهم ) ، لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم . وقرأ الجمهور : ( وبأيمانهم ) ، جمع يمين ; وسهل بن شعيب السهمي ، وأبو حيوة : بكسر الهمزة . وعطف هذا المصدر على الظرف لأن الظرف متعلق بمحذوف ، أي كائنا بين أيديهم ، وكائنا بسبب أيمانهم .
( بشراكم اليوم جنات ) : جملة معمولة لقول محذوف ، أي تقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم : جنات ، أي دخول جنات . قال ابن عطية : ( خالدين فيها ) ، إلى آخر الآية ، مخاطبة لمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، انتهى . ولا مخاطبة هنا ، بل هذا من باب الالتفات من ضمير الخطاب في ( بشراكم ) إلى ضمير الغيبة في ( خالدين ) . ولو جرى على الخطاب ، لكان التركيب خالدا أنتم فيها ، والالتفات من فنون البيان ( يوم يقول ) بدل من ( يوم ترى ) . وقيل : معمول لـ اذكر . قال ابن عطية : ويظهر لي أن العامل فيه ( ذلك هو الفوز العظيم ) ، ومجيء معنى الفوز أفخم ، كأنه يقول : إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا ، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم . انتهى . فظاهر كلامه وتقديره أن يوم منصوب بالفوز ، وهو لا يجوز ، لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته ، فلا يجوز إعماله . فلو أعمل وصفه ، وهو العظيم ، لجاز ، أي الفوز الذي عظم ، أي قدره ( يوم يقول ) .
( انظرونا ) : أي انتظرونا ، لأنهم لما سبقوكم إلى المرور على الصراط ، وقد طفئت أنوارهم ، قالوا ذلك . قال : ( انظرونا ) : انتظرونا ، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تذف بهم وهؤلاء مشاة ، أو انظروا إلينا ، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به . انتهى . فجعل انظرونا بمعنى انظروا إلينا ، ولا يتعدى النظر هذا في لسان العرب إلا بـ إلى لا بنفسه ، وإنما وجد متعديا بنفسه في الشعر . وقرأ الزمخشري زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة : أنظرونا من أنظر رباعيا ، أي أخرونا ، أي اجعلونا في آخركم ، ولا تسبقونا بحيث تفوتوننا ، ولا نلحق بكم . ( نقتبس من نوركم ) : أي نصب منه حتى نستضيء به . ويقال : اقتبس الرجل واستقبس : أخذ من نار غيره قبسا . ( قيل ارجعوا وراءكم ) : القائل المؤمنون أو الملائكة . والظاهر أن ( وراءكم ) معمول لـ ارجعوا . وقيل : لا محل له من الإعراب لأنه بمعنى ارجعوا ، كقولهم : وراءك أوسع لك ، أي ارجع تجد مكانا أوسع لك . وارجعوا أمر توبيخ وطرد ، أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا الفوز فالتمسوه هناك ، أو ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نورا ، أي بتحصيل سببه وهو الإيمان ، أو تنحوا عنا ، ( فالتمسوا نورا ) غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه . وقد علموا أن لا نور وراءهم ، وإنما هو إقناط لهم .
( فضرب بينهم ) : أي بين المؤمنين والمنافقين ، ( بسور ) : بحاجز . قال ابن زيد : هو الأعراف . وقيل : حاجز غيره . وقرأ الجمهور : فضرب مبنيا للمفعول ; وزيد بن علي : مبنيا للفاعل ، أي الله ، ويبعد قول من قال : إن هذا السور هو الجدار الشرقي من مسجد وعبيد بن عمير بيت المقدس ، وهو مروي عن عبادة بن الصامت وابن عباس وعبد الله بن عمر ، ولعله لا يصح عنهم . والسور هو الحاجز الدائر على المدينة للحفظ من عدو . والظاهر في باطنه أن يعود الضمير منه على الباب لقربه . وقيل : على السور ، وباطنه الشق الذي لأهل الجنة ، وظاهره ما يدانيه ، من قبله من جهته العذاب . وكعب الأحبار
( ينادونهم ) : استئناف إخبار ، أي ينادون المنافقون المؤمنين ، ( ألم نكن معكم ) : أي في الظاهر ، ( قالوا بلى ) : أي كنتم معنا في الظاهر ، ( ولكنكم فتنتم أنفسكم ) : أي عرضتم أنفسكم للفتنة بنفاقكم ، ( وتربصتم ) أي بإيمانكم حتى وافيتم على الكفر ، أو تربصتم بالمؤمنين الدوائر ، قاله قتادة ، ( وارتبتم ) : شككتم في أمر الدين ، ( وغرتكم الأماني ) : وهي الأطماع ، مثل [ ص: 222 ] قولهم : سيهلك محمد هذا العام ، تهزمه قبيلة قريش مستأجرة الأحزاب إلى غير ذلك ، أو طول الآمال في امتداد الأعمار ، ( حتى جاء أمر الله ) ، وهو الموت على النفاق ، والغرور : الشيطان بإجماع . وقرأ : الغرور ، وتقدم ذلك . سماك بن حرب
( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ) أيها المنافقون ، والناصب لليوم الفعل المنفي بلا ، وفيه حجة على من منع ذلك ، ( ولا من الذين كفروا ) ، في الحديث : " آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك " . وقرأ الجمهور : لا يؤخذ ; إن الله تعالى يعزر الكافر فيقول له : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا ، أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار ؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول الله تبارك وتعالى : قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأنت في ظهر أبيك وأبو جعفر والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو : بالتاء لتأنيث الفدية . ( هي مولاكم ) ، قيل : أولى بكم ، وهذا تفسير معنى . وكانت مولاهم من حيث أنها تضمهم وتباشرهم ، وهي تكون لكم مكان المولى ، ونحوه قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
وقال : ويجوز أن يراد هي ناصركم ، أي لا ناصر لكم غيرها . والمراد نفي الناصر على البتات ، ونحوه قولهم : أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع ، ومنه قوله تعالى : ( الزمخشري يغاثوا بماء كالمهل ) . وقيل : تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار .