ولما ذكر تعالى كتابة القصاص في القتل بين من يقع بينهم القصاص فقال : ( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى    ) ، واختلفوا في دلالة هذه الجمل ، فقيل : يدل على مراعاة المماثلة في الحرية والعبودية والأنوثة ، فلا يكون مشروعا إلا بين الحرين ، وبين العبدين ، وبين الأنثيين ، فالألف واللام تدل على الحصر ، كأنه قيل : لا يؤخذ الحر إلا بالحر ، ولا يؤخذ العبد إلا بالعبد ، ولا تؤخذ الأنثى إلا بالأنثى . روي معنى هذا عن  ابن عباس  ، وأن ذلك نسخ بآية المائدة ، وروي عنه أيضا أن الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة . وممن ذهب إلى أنها منسوخة :  ابن المسيب  ، والنخعي  ،  والشعبي  ، وقتادة  ،  والثوري    . وقيل : لا تدل على الحصر ، بل تدل على مشروعية القصاص بين المذكورين ، ألا ترى أن عموم : ( والأنثى بالأنثى    ) تقتضي قصاص الحرة بالرقيقة ؟ فلو كان قوله : ( الحر بالحر والعبد بالعبد    ) مانعا من ذلك لتصادم العمومان . وقوله : ( كتب عليكم القصاص في القتلى    ) ، جملة مستقلة بنفسها ، وقوله : ( الحر بالحر    ) ذكر لبعض جزئياتها فلا يمنع ثبوت الحكم في سائر الجزئيات . 
وقال مالك    : أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد به الجنس ، الذكر والأنثى سواء فيه ، وأعيد ذكر الأنثى توكيدا وتهمما بإذهاب أمر الجاهلية . وروي عن علي   والحسن بن أبي الحسن  أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا ، وذكر أنثى ، أو أنثى ذكرا ، وقالا : إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا بها صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية ، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة . وإذا قتلت المرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها ، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد ، وإن شاء استحيى وأخذ قيمة العبد   . وقد أنكر هذا عن علي  والحسن  ، والإجماع على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل ، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء ، وفرقة ترى الإتباع بفضل الديات ، والإجماع على قتل المسلم الحر إذا قتل مسلما حرا بمحدد ، وظاهر عموم الحر بالحر أن الوالد يقتل إذا قتل ابنه ، وهو قول  عثمان البتي  ،   [ ص: 11 ] قال : إذا قتل ابنه عمدا قتل به . وقال مالك    : إذا قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه ، وغير ذلك من أنواع القتل التي لا شبهة له فيها في ادعاء الخطأ قتل به ، وإن قتله برمي بشيء أو بضرب ، ففي مذهب مالك  قولان : أحدهما : يقتل ، والآخر : لا يقتل . وقال عامة العلماء : لا يقتل الوالد بولده ، وعليه الدية فيما له ، قال بذلك : أبو حنيفة  ،  والأوزاعي  ،  والشافعي  ، وسووا بين الأب والجد ، وروي ذلك عن عطاء  ومجاهد    . وقال  الحسن بن صالح    : يقاد الجد بابن الابن ، وكان يجيز شهادة الجد لابن ابنه ، ولا يجيز شهادة الأب لابنه ، وظاهر قوله : ( الحر بالحر    ) قتل الابن بأبيه ، والظاهر أيضا قتل الجماعة بالواحد ، وصح ذلك عن عمر  وعلي  ، وهو قول أكثر أهل العلم . وقال أحمد    : لا تقتل الجماعة بالواحد ، والظاهر أيضا قتل من يجب عليه القتل لو انفرد ، إذا شارك من لا يجب عليه القتل كالمخطئ والصبي والمجنون والأب عند من يقول لا يقتل بابنه . وقال أبو حنيفة    : لا قصاص على واحد منهما ، وعلى الأب القاتل نصف الدية في ماله ، والصبي والمخطئ والمجنون على عاقلته ، وهو قول  الحسن بن صالح    . وقال  الأوزاعي    : على عاقلة المشتركين ممن ذكر الدية . وقال  الشافعي    : على الصبي القاتل المشارك نصف الدية في ماله ، وكذلك دية الحر والعبد إذا قتلا عبدا ، والمسلم والنصراني إذا قتلا نصرانيا ، وإن شاركه قاتل خطأ فعلى العامد نصف الدية ، وجناية المخطئ على عاقلته . 
وقال  ابن المسيب  ، وقتادة  ، والنخعي  ،  والشعبي  ،  والثوري  ، وأبو حنيفة  ، وأبو يوسف  ، ومحمد    : يقتل الحر بالعبد . وقال مالك  ، والليث  ،  والشافعي    : لا يقتل به ، واتفقوا على أن المسلم لا يقتل بالكافر الحربي . وقال أبو حنيفة    : يقتل المسلم بالذمي ، وقال ابن شبرمة  ،  والثوري  ،  والأوزاعي  ،  والشافعي    : لا يقتل به . قال مالك  والليث    : إن قتله غيلة قتل به وإلا لم يقتل به ، وكلهم اتفقوا على قتل العبد بالحر . 
والظاهر من الآية الكريمة مشروعية القصاص  في القتلى بأي شيء وقع القتل ، من مثقل حجر ، أو خشبة ، أو عصا ، أو شبه ذلك مما يقتل غالبا ، وهو مذهبمالك  ،  والشافعي  ، والجمهور . وقال أبو حنيفة    : لا يقتل إذا قتل بمثقل . والظاهر من الأئمة عدم تعيين الآلة التي يقتل بها من يستحق القتل ، وقال : أبو حنيفة  ، ومحمد  ، وأبو يوسف  ، وزفر    : لا يقتل إلا بالسيف . وقال ابن الغنيم  ، عن مالك    : إن قتل بحجر ، أو عصا ، أو نار أو تغريق قتل به ، فإن لم يمت بمثله فلا يزال يكرر عليه من جنس ما قتل به حتى يموت ، وإن زاد على فعل القاتل . 
وروى ابن منصور  ، عن أحمد    : أنه يقتل بمثل الذي قتل به . 
ونقل عن  الشافعي    : أنه إذا قتل بخشب ، أو بخنق قتل بالسيف ، وروي عنه أيضا : أنه إن ضربه بحجر حتى مات فعل به مثل ذلك ، وإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى مات فإن لم يمت في مثل تلك المدة . وقال ابن شبرمة    : يضرب مثل ضربه ولا يضرب أكثر من ذلك ، وقد كانوا يكرهون المثلة  ويقولون : يجزئ عن ذلك كله السيف . قال : فإن غمسه في الماء حتى مات ، فلا يزال يغمس في الماء حتى يموت . والظاهر من الآية مشروعية القصاص في الأنفس فقط لقوله : ( في القتلى    ) ، وبه قال أبو حنيفة  ، وأبو يوسف  ، ومحمد  ، وزفر    . وهو : أنه لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في الأنفس . وقال  ابن المسيب  ، والنخعي  ، وقتادة  ، والحكم   وابن أبي ليلى    : القصاص واجب بينهم في جميع الجراحات ، وروي ذلك عن  ابن مسعود  ، وقال الليث    : يقتص للحر من العبد ، ولا يقتص من الحر للعبد في الجنايات . وقال  الشافعي    : من جرى عليه القصاص في النفس جرى عليه في الجراح ، ولا يقتص للحر من العبد فيما دون النفس . 
( والأنثى بالأنثى    ) . واتفقوا على ترك ظاهرها ، وأجمعوا كما تقدم ذكره ، على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل - إلا خلافا شاذا عن  الحسن البصري  ، وعطاء  ، وعكرمة  ،  وعمر بن عبد العزيز  ، أنه لا يقتل الرجل بالمرأة . وروي أن عمر  قتل نفرا من صنعاء  بامرأة   - والمرأة بالرجل وبالعبد ، والعبد بالحر ، وقد وهم  الزمخشري  في نسبته أن مذهب مالك   والشافعي   [ ص: 12 ] أن الذكر لا يقتل بالأنثى ، ولا خلاف عنهما في أنه يقتل بها . وقال  عثمان البتي    : إذا قتلت امرأة رجلا قتلت به ، وأخذ من مالها نصف الدية ، وإن قتلها هو فعليه القود ولا يرد عليه شيء . واختلفوا في القصاص في الجراحات بين الرجال والنساء ، فذهب أبو حنيفة  ، وأبو يوسف  ، ومحمد  ، وزفر  ،  وابن شبرمة  ، إلى أنه لا قصاص بين الرجال والنساء إلا في الأنفس ، وذهب مالك  ،  والأوزاعي  ،  والثوري  ،  وابن أبي ليلى  ، والليث  ،  والشافعي  ،  وابن شبرمة  في رواية إلى : أن القصاص واقع فيما بين الرجال والنساء في النفس وما دونها ، إلا أن الليث  قال : إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولا يقتص منه . وأعرب هذه الجمل مبتدأ وخبرا ، وهي ذوات ابتدئ بها ، والجار والمجرور أخبار عنها ، ويمتنع أن يكون الباء ظرفية ، فليس ذلك على حد قولهم : زيد بالبصرة  ، وإنما هي للسبب ، ويتعلق بكون خاص لا بكون مطلق ، وقام الجار مقام الكون الخاص لدلالة المعنى عليه ، إذ الكون الخاص لا يجوز حذفه إلا في مثل هذا ، إذ الدليل على حذفه قوي إذ تقدم القصاص في القتلى ، فالتقدير : الحر مقتول بالحر ، أي : بقتله الحر ، فالباء للسبب على هذا التقدير ، ولا يصح تقدير العامل كونا مطلقا ، ولو قلت : الحر كائن بالحر ، لم يكن كلاما إلا إن كان المبتدأ مضافا قد حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فيجوز ، والتقدير : قتل الحر كائن بالحر ، أي : بقتله الحر ، ويجوز أن يكون " الحر " مرفوعا على إضمار فعل يفسره ما قبله ، والتقدير : يقتل الحر بقتله الحر ، إذ في قوله : ( القصاص في القتلى    ) دلالة على هذا الفعل . 
				
						
						
