( علم الله أنكم ستذكرونهن ) هذا عذر في التعريض ؛ لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه ؛ فأسقط الله الحرج في ذلك ، وفيه طرف من التوبيخ ، كقوله : ( علم الله أنكم كنتم تختانون ) ، وجاء الفعل بالسين التي تدل على تقارب الزمان المستقبل لا تراخيه ؛ لأنهن يذكرن عندما انفصلت حبالهن من أزواجهن بالموت ، وتتوق إليهن الأنفس ، ويتمنى نكاحهن . وقال الحسن : معنى " ستذكرونهن " : ستخطبونهن ، كأنه قال : إن لم تنهوا . انتهى . وقوله : " ستذكرونهن " شامل لذكر اللسان وذكر القلب ، فنفى الحرج عن التعريض ، وهو كسر اللسان ، وعن الإخفاء في النفس وهو ذكر القلب . ( ولكن لا تواعدوهن سرا ) ، هذا الاستدراك من الجملة التي قبله ، وهو قوله : " ستذكرونهن " ، والذكر يقع على أنحاء وأوجه ، فاستدرك منه وجها نهى فيه عن ذكر مخصوص ، ولو لم يستدرك لكان مأذونا فيه لاندراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر الله بوقوعه ، وهو نظير قولك : زيد سيلقى خالدا ، ولكن لا يواجهه بشر ، فاستدرك هذه الحالة مما يحتمله اللقاء ، وإن من أحواله المواجهة بالشر ، ولا يحتاج " لكن " إلى جملة محذوفة قبلها ، لكن يحتاج ما بعد " لكن " إلى وقوع ما قبله من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ؛ لأن نفي المواجهة بالشر يستدعي وقوع اللقاء . قال : فإن قلت : أين المستدرك بقوله : ( الزمخشري ولكن لا تواعدوهن ) ؛ قلت : هو محذوف لدلالة : ( ستذكرونهن ) عليه ، ( علم الله أنكم ستذكرونهن ) فاذكروهن ، ( ولكن لا تواعدوهن سرا ) . انتهى كلامه . وقد ذكرنا أنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف قبل " لكن " ، بل الاستدراك جاء من قبل قوله : " ستذكرونهن " ، ولم يأمر الله تعالى بذكر النساء ، لا على طريق الوجوب ، ولا الندب ؛ فيحتاج إلى تقدير : " فاذكروهن " على ما قررناه قبل قولك : سألقاك ولكن لا تخف مني ، لما كان اللقاء من بعض أحواله أن يخاف من الملقى استدرك فقال : ولكن لا تخف مني . والسر : ضد الجهر ، ويكنى به عن الجماع حلاله وحرامه ، لكنه في سر ، وقد يعبر به عن العقد ؛ لأنه سبب فيه ، وقد فسر " السر " هنا بالزنا : الحسن ، ، وجابر بن زيد وأبو مجلز ، والضحاك ، والنخعي . ومما جاء " السر " في الوطء الحرام قول الحطيئة :
ويحرم سر جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع
وقال الأعشى :
[ ص: 227 ]
ولا تقربن جارة إن سرها عليك حرام فانكحن أو تأبدا
وقال ابن جبير : السر هنا : النكاح . وقال ابن زيد : معنى ذلك : لا تنكحوهن وتكتمون ذلك ، فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن ، فسمى العقد عليهم مواعدة ، وهذا ينبو عنه لفظ المواعدة . قال بعضهم : جماعا ، وهو أن يقول لها : إن نكحتك كان كيت وكيت ، يريد ما يجري بينهما تحت اللحاف . وقال ، ابن عباس أيضا ، وابن جبير ، والشعبي ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، ومالك وأصحابه ، والجمهور : المعنى : لا توافقوهن المواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية . فعلى هذا القول ، والقول الذي قبله ، ينتصب " سرا " على الحال ، أي : مستسرين . وعلى القولين الأولين ينتصب على المفعول ، وإذا انتصب على الحال كان مفعول " تواعدوهن " محذوفا ، تقديره : النكاح ، وقيل : انتصب على أنه نعت مصدر محذوف ، تقديره : مواعدة سرا . وقيل التقدير : في سر ، فحذف في وانتصب انتصاب الظرف ، على أن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستهجن ؛ لأن مسارتهن في الغالب بما يستحى من المجاهرة به ، والذي تدل عليه الآية أنهم نهوا أن يواعد الرجل المرأة في العدة أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج ، وأما تفسير السر هنا بالزنا فبعيد ؛ لأنه حرام على المسلم مع معتدة وغيرها ، وأما إطلاق المواعدة سرا على العقد فبعيد أيضا . وأما قول الجمهور فبعيد أيضا ؛ لأنهم نهوا عن المواعدة بالنكاح سرا وجهرا ، فلا فائدة في تقييد المواعدة بالسر .
( إلا أن تقولوا قولا معروفا ) ، هذا الاستثناء منقطع ؛ لأنه لا يندرج تحت " سرا " من قوله : ( ولكن لا تواعدوهن سرا ) على أي تفسير فسرته ، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض ، وقال الضحاك : من القول المعروف أن تقول للمعتدة : احبسي علي نفسك ، فإن لي بك رغبة ، فتقول هي : وأنا مثل ذلك . قال ابن عطية : وهذا عندي مواعدة . وإنما لتعريض قول الرجل : إنكن لإماء كرام ، وما قدر كان ، وإنك لمعجبة ، ونحو هذا . وقال : ( الزمخشري إلا أن تقولوا قولا معروفا ) ، وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا . فإن قلت : بم يتعلق حرف الاستثناء ؟ قلت : بـ ( لا تواعدوهن ) ، أي : لا تواعدوهن مواعدة قط ، إلا مواعدة معروفة غير منكرة ، أو : لا تواعدوهن إلا بأن تقولوا ، أي : لا تواعدوهن إلا [ ص: 228 ] بالتعريض ، ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعا من " سرا " ؛ لأدائه إلى قولك : لا تواعدوهن إلا التعريض . انتهى كلام . ويحتاج إلى توضيح ؛ وذلك أنه جعله استثناء متصلا باعتبار أنه استثناء مفرغ ، وجعل ذلك على وجهين : أحدهما : أن يكون استثناء من المصدر المحذوف ، وهو الوجه الأول الذي ذكره ، وقدره : لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة ، فكأن المعنى : لا تقولوا لهن قولا تعدونهن به إلا قولا معروفا ؛ فصار هذا نظير : لا تضرب زيدا ضربا شديدا . والثاني : أن يكون استثناء مفرغا من مجرور محذوف ، وهو الوجه الثاني الذي ذكره ، وقدره : إلا بأن تقولوا ، ثم أوضحه بقوله : إلا بالتعريض ، فكان المعنى : لا تواعدوهن سرا ، أي نكاحا بقول من الأقوال ، إلا بقول معروف ، وهو التعريض ؛ فحذف من " أن " حرف الجر ؛ فيبقى منصوبا أو مجرورا على الخلاف الذي تقدم في نظائره . والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الذي قبله انتصب نصب المصدر ، وهذا انتصب على إسقاط حرف الجر ، وهو الباء التي للسبب . قوله : ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعا من " سرا " لأدائه إلى قوله : لا تواعدوهن إلا التعريض ، والتعريض ليس مواعدا ؛ فلا يصح عنده أن ينصب عليه العامل ، وهذا عنده على أن يكون منقطعا نظير : ما رأيت أحدا إلا حمارا ، لكن هذا يصح فيه : ما رأيت إلا [ ص: 229 ] حمارا ، وذلك لا يصح فيه : لا تواعدوهن إلا التعريض ؛ لأن التعريض لا يكون مواعدا بل مواعدا به النكاح ، فانتصاب " سرا " على أنه مفعول ، فكذلك ينبغي أن يكون " أن تقولوا " مفعولا ، ولا يصح ذلك فيه ؛ فلا يصح أن يكون استثناء منقطعا ، هذا توجيه منع الزمخشري أن يكون استثناء منقطعا . وما ذهب إليه ليس بصحيح ؛ لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما ذكر ، وهو أن يمكن تلك العامل السابق عليه ، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين : أحدهما : ما ذكره الزمخشري ، وهو : أن يتسلط العامل على ما بعد " إلا " كما مثلنا به في قولك : ما رأيت أحدا إلا حمارا ، وما في الدار أحد إلا حمارا ، وهذا النوع فيه خلاف عن العرب ، فمذهب الحجازيين نصب هذا النوع من المستثنى ، ومذهب الزمخشري بني تميم إتباعه لما قبله في الإعراب ، ويصلح في هذا النوع أن تحذف الأول وتسلط ما قبله على ما بعد " إلا " ، فتقول : ما رأيت إلا حمارا ، وما في الدار إلا حمار ؛ ويصح في الكلام : ما لهم به إلا اتباع الظن . والقسم الثاني : من قسمي الاستثناء المنقطع هو أن لا يمكن تسلط العامل على ما بعد " إلا " ، وهذا حكمه النصب عند العرب قاطبة ، ومن ذلك : ما زاد إلا ما نقص ، وما نفع إلا ما ضر ؛ فما بعد " إلا " لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نقص ، بل يقدر المعنى : ما زاد ، لكن النقص حصل له ، وما نفع لكن الضرر حصل ؛ فاشترك هذا القسم مع الأول في تقدير " إلا " بـ " لكن " ، لكن الأول يمكن تسليط ما قبله عليه ، وهذا لا يمكن . وإذا تقرر هذا فيكون قوله : ( إلا أن تقولوا ) استثناء منقطعا من هذا القسم الثاني ، وهو ما لا يمكن أن يتوجه عليه العامل ، والتقدير : لكن التعريض سائغ لكم ، وكأن ما علم أن الاستثناء المنقطع يأتي على هذا النوع من عدم توجيه العامل على ما بعد " إلا " ؛ فلذلك منعه ، والله أعلم . وظاهر النهي في قوله : ( الزمخشري لا تواعدوهن سرا ) التحريم ، حتى قال مالك في رواية ابن وهب عنه : فيمن واعد في العدة ثم تزوجها بعد العدة ، قال : فراقها أحب إلي - دخل بها أو لم يدخل - وتكون تطليقة واحدة ، فإذا حلت خطبها مع الخطاب . وروى أشهب عن مالك وجوب التفرقة بينهما . وقال ابن القاسم : وحكى مثل هذا ابن حارث عن ، وزاد ما يقتضي تأبيد التحريم . وقال ابن الماجشون : لو الشافعي - صح النكاح ، والتصريح بهما مكروه . وقال صرح بالخطبة وصرحت بالإجابة ولم يعقد عليها إلا بعد انقضاء العدة ابن عطية : أجمعت الأمة على كراهة . المواعدة في العدة للمرأة
( ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ) ، نهوا عن العزم على عقدة النكاح ، وإذا كان العزم منهيا عنه فأحرى أن ينهى عن العقدة . وانتصاب " عقدة " على المفعول به ؛ لتضمين " تعزموا " معنى ما يتعدى بنفسه ، فضمن معنى : تنووا ، أو معنى : تصمموا ، أو معنى : توجبوا ، أو معنى : تباشروا ، أو معنى : تقطعوا ، أي : تبتوا . وقيل : انتصب ( عقدة ) على المصدر ، ومعنى تعزموا : تعقدوا . وقيل : انتصب على إسقاط حرف الجر ، وهو على هذا التقدير : ولا تعزموا على عقدة النكاح . وحكى أن العرب تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ، أي : على الظهر والبطن ، وقال الشاعر : سيبويه
ولقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكل
الأصل : وأظل عليه ، فحذف ( على ) ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه ؛ إذ أصل هذا الفعل أن يتعدى بعلى ، قال الشاعر :
[ ص: 230 ]
عزمت على إقامة ذي صباح لأمر ما يسود من يسود
وقد تقدم الكلام على نظير هذا في قوله : ( وإن عزموا الطلاق ) ، وعقدة النكاح : ما تتوقف عليه صحة النكاح على اختلاف العلماء في ذلك ؛ ولذلك قال ابن عطية : عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي ، وبلوغ الكتاب أجله هو انقضاء العدة ، قاله ، ابن عباس ومجاهد ، ، والشعبي وقتادة ، والسدي ، ولم ينقل عن أحد خلافه ، بل هو من المحكم المجمع على تأويله بانقضاء العدة . والكتاب هنا هو المكتوب ، أي : حتى يبلغ ما كتب ، وأوجب من العدة أجله ، أي : وقت انقضائه . وقال : الكتاب هو القرآن ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ، وهو ما فرض بالكتاب من العدة ، فإذا انقضت العدة جاز الإقدام على التزوج ، وهذا النهي معناه التحريم ، فلو عقد عليها في العدة فسخ الحاكم النكاح ، فإن كان ذلك قبل الدخول بها ، فقال الزجاج عمر والجمهور : لا يتأبد التحريم . وقال مالك ، وابن القاسم ، في المدونة : ويكون خاطبا من الخطاب . وحكى ابن الجلاب عن مالك : أنه يتأبد . وإن عقد عليها في العدة ودخل بعد انقضائها فقولان عن العلماء ، قال قوم : يتأبد ، وقال قوم : لا يتأبد ، والقولان عن مالك ، ولو عقد عليها في العدة ، ودخل بها في العدة ، فقال عمر ، ومالك ، وأصحابه ، ، والأوزاعي والليث ، وأحمد ، وغيرهم : يتأبد التحريم . وقال مالك ، والليث : ولا تحل له بملك اليمين . وقال علي ، ، وابن مسعود وإبراهيم ، وأبو حنيفة ، ، والشافعي ، وجماعة : لا يتأبد ، بل يفسخ بينهما ، ثم تعتد منه ويكون خاطبا من الخطاب . قال وعبد العزيز بن أبي سلمة الحسن ، وأبو حنيفة ، والليث ، ، والشافعي وأحمد ، وإسحاق ، والمدنيون غير مالك : تعتد من الأول ، فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها الآخر . وقال مالك ، وأصحاب الرأي ، والأوزاعي : عدة واحدة تكفيهما جميعا ، سواء كانت بالحمل ، أم بالإقراء ، أم بالأشهر . والثوري
( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) ، قيل : المعنى ما في أنفسكم من هواهن ، وقيل : من الوفاء والإخلاف ، قاله . فاحذروه ، الهاء تعود على الله تعالى ، أي : فاحذروا عقابه . وقال ابن عباس : يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز فاحذروه ولا تعزموا عليه . انتهى . فيحتمل أن تعود في كلام الزمخشري على ما لا يجوز من العزم ، أي : فاحذروا ما لا يجوز ولا تعزموا عليه ؛ فتكون الهاء في : فاحذروه ، ولا تعزموا عليه ، عائدة على شيء واحد ، ويحتمل في كلامه أن تعود على الله ، والهاء في " عليه " على ما لا يجوز ، فيختلف ما تعود عليه الهاءان ، ولما هددهم بأنه مطلع على ما في أنفسهم ، وحذرهم منه ، أردف ذلك بالصفتين الجليلتين ليزيل عنهم بعض روع التهديد والوعيد ، والتحذير من عقابه ؛ ليعتدل قلب المؤمن في الرجاء والخوف ، وختم بهاتين الصفتين المقتضيتين المبالغة في الغفران والحلم ؛ ليقوي رجاء المؤمن في إحسان الله تعالى ، وطمعه في غفرانه وحلمه إن زل وهفا ، وأبرز كل معنى من التحذير والإطماع في جملة مستقلة ، وكرر اسم الله تعالى للتفخيم ، والتعظيم بمن يسند إليه الحكم ، وجاء خبر أن الأولى بالمضارع ؛ لأن ما يهجس في النفوس يتكرر فيتعلق العلم به ، فكأن العلم يتكرر بتكرر متعلقه ، وجاء خبر أن الثانية بالاسم ليدل على ثبوت الوصف ، وأنه قد صار كأنه من صفات الذات ، وإن كان من صفات الفعل . قيل : وتضمنت هذه الآيات ضروبا من البديع . منها : معدول الخطاب ، وهو أن الخطاب بقوله : ( الزمخشري والذين يتوفون ) الآية ، عام ، والمعنى على الخصوص . ومنها : النسخ ؛ إذ هي ناسخة للحول على قول الأكثرين . ومنها : الاختصاص ، وهو أن يخص عددا فلا يكون ذلك إلا لمعنى ، وذلك في قوله : ( أربعة أشهر وعشرا ) ، ومنها : الكناية ، في قوله : ( ولكن لا تواعدوهن سرا ) ، كنى بالسر عن النكاح ، وهي من أبلغ الكنايات . ومنها : التعريض ، في قوله : ( يعلم ما في أنفسكم ) ومنها : التهديد ، بقوله : ( فاحذروه ) . ومنها : الزيادة في الوصف [ ص: 231 ] بقوله : ( غفور حليم ) .