ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
قال قطرب : الخلق هو الإيجاد على تقدير وترتيب ، والخلق والخليقة تنطلق على المخلوق ، ومعنى الخلق والإيجاد والإحداث والإبداع والاختراع والإنشاء متقارب . قيل : ظرف زمان ، ولا يعمل فيها عامل فيخرجها عن الظرفية إلا من ، وأصلها وصف ناب عن موصوفه لزوما ، فإذا قلت : قمت قبل زيد ، فالتقدير قمت زمانا قبل زمان قيام زيد ، فحذف هذا كله وناب عنه قبل زيد . لعل : حرف ترج في المحبوبات ، وتوقع في المحذورات ، ولا تستعمل إلا في الممكن ، لا يقال : لعل الشباب يعود ، ولا تكون بمعنى كي ، خلافا لقطرب وابن كيسان ، ولا استفهاما خلافا للكوفيين ، وفيها لغات لم يأت منها في القرآن إلا الفصحى ، ولم يحفظ بعدها نصب الاسمين . وحكى الأخفش أن من العرب من يجزم بلعل ، وزعم أبو زيد أن ذلك لغة بني عقيل . الفراش : الوطاء الذي يقعد عليه وينام ويتقلب عليه . البناء : مصدر ، وقد يراد به المنقول من بيت أو قبة أو خباء أو طراف وأبنية العرب أخبيتهم . الماء : معروف ، وقال بعضهم : هو جوهر سيال به قوام الحيوان ، ووزنه فعل ، وألفه منقلبة من واو وهمزته بدل من هاء يدل عليه : مويه ومياه وأمواه . الثمرة : ما تخرجه الشجرة من مطعوم أو مشموم . الند : المقاوم المضاهي مثلا كان أو ضدا أو خلافا . وقال أبو عبيدة والمفضل : الند : الضد ، قال ابن عطية : وهذا التخصيص تمثيل لا حصر . وقال غيره : الند : الضد المبغض المناوئ من الندود ، وقال المهدوي : الند : الكفؤ والمثل ، هذا مذهب أهل اللغة سوى أبي عبيدة ، فإنه قال : الضد . قال : الند : المثل ، ولا يقال إلا للمثل المخالف للمناوئ ، قال الزمخشري جرير :
أتيما تجعلون إلي ندا وما تيم لذي حسب نديد
وناددت الرجل : خالفته ونافرته ، من ند ندودا إذا نفر . ومعنى قولهم : ليس لله ند ولا ضد ، نفى ما يسد مسده ونفى ما ينافيه .
يا أيها الناس : خطاب لجميع من يعقل ، قاله ، أو ابن عباس اليهود خاصة ، قاله الحسن ومجاهد ، أو لهم وللمنافقين ، قاله مقاتل ، أو لكفار مشركي العرب وغيرهم ، قاله ، والظاهر قول السدي لأن دعوى الخصوص تحتاج إلى دليل . ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وصفاتهم وأحوالهم وما يئول إليه حال كل منهم ، انتقل من الإخبار عنهم إلى خطاب النداء ، وهو التفات شبيه بقوله : ( ابن عباس إياك نعبد ) ، بعد قوله : ( الحمد لله رب العالمين ) ، وهو من أنواع البلاغة كما تقدم ، إذ فيه هز للسامع وتحريك له ، إذ هو خروج من صنف إلى صنف ، وليس هذا انتقالا من الخطاب الخاص إلى الخطاب العام كما زعم بعض المفسرين ، إذ لم يتقدم خطاب خاص إلا إن كان ذلك تجوزا في الخطاب بأن يعني به الكلام ، فكأنه قال : انتقل من الكلام الخاص إلى الكلام العام ، قال هذا المفسرون ، وهذا من أساليب الفصاحة ، فإنهم يخصون ثم يعمون . [ ص: 94 ] ولهذا لما نزل : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخص وعم ، فقال : " عباس عم محمد لا أغني عنك من الله شيئا ، ويا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا ، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا " . وقال الشاعر : يا
يا بني اندبوا ويا أهل بيتي وقبيلي علي عاما فعاما
انتهى كلامه .
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعلقمة أنهم قالوا : كل شيء نزل فيه : ( يا أيها الناس ) فهو مكي ، و ( يا أيها الذين آمنوا ) فهو مدني . أما في ( يا أيها الذين آمنوا ) فصحيح ، وأما في ( يا أيها الناس ) فيحمل على الغالب ؛ لأن هذه السورة مدنية ، وقد جاء فيها يا أيها الناس . وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم ، وليست الضمة فيه حركة إعراب خلافا للكسائي والرياشي ، وهي وصلة لنداء ما فيه الألف واللام لما ما لم يمكن أن ينادى توصل بنداء أي إلى ندائه ، وهي في موضع نصب ، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع الناس على الصفة على اللفظ ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب ، فلذلك جاز مراعاة اللفظ ، ولا يجوز نصبه على الموضع ، خلافا لأبي عثمان . وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيا في النداء موصولة وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف ، فإذا قال : يا أيها الرجل ، فتقديره : يا من هو الرجل . والكلام على هذا القول وقول أبي عثمان مستقصى في النحو .
اعبدوا ربكم : ولما واجه تعالى الناس بالنداء أمرهم بالعبادة ، وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى : ( إياك نعبد ) ، والأمر بالعبادة شمل المؤمنين والكافرين . لا يقال : المؤمنون عابدون ، فكيف يصح الأمر بما هم ملتبسون به ؟ لأنه في حقهم أمر بالازدياد من العبادة ، فصح مواجهة الكل بالعبادة ، وانظر لحسن مجيء الرب هنا ، فإنه السيد والمصلح ، وجدير بمن كان مالكا أو مصلحا أحوال العبد أن يخص بالعبادة ولا يشرك مع غيره فيها . والخطاب ، إن كان عاما ، كان قوله : ( الذي خلقكم ) صفة مدح ، وإن كان لمشركي العرب كانت للتوضيح ، إذ لفظ الرب بالنسبة إليهم مشترك بين الله - تعالى - وبين آلهتهم ، ونبه بوصف الخلق على استحقاقه العبادة دون غيره ، ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) ، أو على امتنانه عليهم بالخلق على الصورة الكاملة ، والتمييز عن غيرهم بالعقل ، والإحسان إليهم بالنعم الظاهرة والباطنة ، أو على إقامة الحجة عليهم بهذا الوصف الذي لا يمكن أن يشرك معه فيه غيره ، ووصف الربوبية والخلق موجب للعبادة ، إذ هو جامع لمحبة الاصطناع والاختراع ، والمحب يكون على أقصى درجات الطاعة لمن يحب . وقالوا : المحبة ثلاث ، فزادوا محبة الطباع كمحبة الوالد لولده ، وأدغم أبو عمر وخلقكم ، وتقدم تفسير الخلق في اللغة ، وإذا كان بمعنى الاختراع والإنشاء فلا يتصف به إلا الله - تعالى - .
وقد أجمع المسلمون على أن لا خالق إلا الله - تعالى - وإذا كان بمعنى التقدير فمقتضى اللغة أنه قد يوصف به غير الله - تعالى - كبيت زهير . وقال تعالى : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) ، ( وإذ تخلق من الطين ) . وقال أبو عبد الله البصري ، أستاذ : إطلاق اسم الخالق على الله - تعالى - محال ؛ لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكر والظن والحسبان ، وذلك في حق الله - تعالى - محال . وكأن القاضي عبد الجبار أبا عبد الله لم يعلم أن الخلق في اللغة يطلق على الإنشاء ، وكلام البصري مصادم لقوله تعالى : ( هو الله الخالق البارئ ) ، إذ زعم أنه لا يطلق اسم الخالق على الله ، وفي اللغة والقرآن والإجماع ما يرد عليه . وعطف قوله : ( والذين من قبلكم ) على الضمير المنصوب في خلقكم ، والمعطوف متقدم في الزمان على المعطوف عليه وبدأ به ، وإن كان متأخرا في الزمان ؛ لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره ، إذ أقرب الأشياء إليه نفسه ، ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة ، فتنبيههم أولا على أحوال أنفسهم آكد وأهم ، وبدأ أولا بصفة الخلق ، إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها ، وهم المخاطبون ، [ ص: 95 ] والناس تبع لهم ، إذ نزل القرآن بلسانهم . وقرأ ابن السميفع : وخلق من قبلكم ، جعله من عطف الجمل . وقرأ : ( زيد بن علي والذين من قبلكم ) بفتح ميم من ، قال : وهي قراءة مشكلة ووجهها على إشكالها أن يقال : أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدا ، كما أقحم الزمخشري جرير في قوله :
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم
تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه ، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في لا أبا لك ، انتهى كلامه . وهذا التخريج الذي خرج قراءة الزمخشري زيد عليه هو مذهب لبعض النحويين زعم أنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكد له ، لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة ، نحو قوله :
من النفر اللائي الذين أذاهم يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
فإذا وجوابها صلة اللائي ، ولا صلة للذين ؛ لأنه إنما أتى به للتأكيد . قال أصحابنا : وهذا الذي ذهب إليه باطل ؛ لأن القياس إذا أكد الموصول أن تكرره مع صلته لأنها من كماله ، وإذا كانوا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه ، ولا يعيدونه وحده إلا في ضرورة ، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمنزلة جزء منه . وخرج أصحابنا البيت على أن الصلة للموصول الثاني وهو خبر مبتدأ محذوف ، ذلك المبتدأ والموصول في موضع الصلة للأول تقديره من النفر اللاتي هم الذين أذاهم ، وجاز حذف المبتدأ وإضماره لطول خبره ، فعلى هذا يتخرج قراءة زيد أن يكون قبلكم صلة من ، ومن خبر مبتدأ محذوف ، وذلك المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول وهو الذين ، التقدير : والذين هم من قبلكم . وعلى قراءة الجمهور تكون صلة الذين قوله : ( من قبلكم ) ، وفي ذلك إشكال ؛ لأن الذين أعيان ، ومن قبلكم جار ومجرور ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة ، فكذلك الوصل به إلا على تأويل ، وتأويله أنه يئول إلى أن ظرف الزمان إذا وصف صح وقوعه خبرا نحو : نحن في يوم طيب ، كذلك يقدر هذا والذين كانوا من زمان قبل زمانكم . وهذا نظير قوله تعالى : ( كالذين من قبلكم ) وإنما ذكر ( والذين من قبلكم ) ، وإن كان خلقهم لا يقتضي العبادة علينا لأنهم كالأصول لهم ، فخلق أصولهم يجري مجرى الإنعام على فروعهم ، فذكرهم عظيم إنعامه تعالى عليهم وعلى أصولهم بالإيجاد . وليست لعل هنا بمعنى كي لأنه قول مرغوب عنه ولكنها للترجي والإطماع ، وهو بالنسبة إلى المخاطبين ؛ لأن الترجي لا يقع من الله - تعالى - إذ ( هو عالم الغيب والشهادة ) ، وهي متعلقة بقوله : ( اعبدوا ربكم ) ، فكأنه قال : إذا عبدتم ربكم رجوتم التقوى ، وهي التي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة . قال ابن عطية : ويتجه تعلقها بخلقكم لأن كل مولود يوجد على الفطرة فهو بحيث يرجى أن يكون متقيا . ولم يذكر غير تعلقها بخلقكم ، قال : لعل واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة ؛ لأن الله - تعالى - خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف ، وركب فيهم العقول والشهوات ، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم ، وهداهم النجدين ، ووضع في أيديهم زمام الاختيار ، وأراد منهم الخير والتقوى ، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم ، وهم مختارون بين الطاعة والعصيان ، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل ، انتهى كلامه . وهو مبني على مذهبه الاعتزالي من أن العبد مختار ، وأنه لا يريد الله منه إلا فعل الخير ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين . والذي يظهر ترجيحه أن يكون : ( لعلكم تتقون ) متعلقا بقوله : ( الزمخشري اعبدوا ربكم ) . فالذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة ، فناسب أن يتعلق بها ذلك ، وأتى بالموصول وصلته على سبيل التوضيح أو المدح للذي تعلقت به العبادة ، فلم يجئ بالموصول ليحدث عنه بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة . وأما صلته فلم يجئ بها لإسناد مقصود لذاته ، إنما جيء بها لتتميم ما قبلها . وإذا كان كذلك فكونها لم يجئ بها [ ص: 96 ] لإسناد يقتضي أن لا يهتم بها فيتعلق بها ترج أو غيره ، بخلاف قوله : اعبدوا ، فإنها الجملة المفتتح بها أولا والمطلوبة من المخاطبين . وإذا تعلق بقوله : اعبدوا ، كان ذلك موافقا ، إذ قوله : اعبدوا خطاب ، ولعلكم تتقون خطاب . ولما اختار تعلقه بالخلق قال : فإن قلت كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون ، فكذلك خلق الذين من قبلهم ، لذلك قصره عليهم دون من قبلهم ، قلت : لم يقصره عليهم ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعا ، انتهى كلامه . وقد تقدم ترجيح تعلقه بقوله : اعبدوا ، فيسقط هذا السؤال . وقال الزمخشري المهدوي : لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم ؛ لأن من درأه الله - عز وجل - لجهنم لم يخلقه ليتقي . والمعنى عند : افعلوا ذلك على الرجاء والطمع أن تتقوا ، انتهى كلامه . ولما جعل سيبويه : لعلكم تتقون متعلقا بالخلق قال : فإن قلت : فهلا قيل : تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا المكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم ، قلت : ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النظم ، وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده ، فإذا قال : ( الزمخشري اعبدوا ربكم الذي خلقكم ) للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة وأشد إلزاما لها وأثبت لها في النفوس ، انتهى كلامه . وهو مبني على مذهبه في أن الخلق كان لأجل التقوى ، وقد تقدم ذلك . وأما قوله : ليتجاوب طرفا النظم فليس بشيء لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم لأنه يصير المعنى : اعبدوا ربكم لعلكم تتقون ، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، وهذا بعيد في المعنى ، إذ هو مثل : اضرب زيدا لعلك تضربه ، واقصد خالدا لعلك تقصده . ولا يخفى ما في هذا من غثاثة اللفظ وفساد المعنى ، والقرآن منزه عن ذلك . والذي جاء به القرآن هو في غاية الفصاحة ، إذ المعنى أنهم أمروا بالعبادة على رجائهم عند حصولها حصول التقوى لهم ؛ لأن التقوى مصدر اتقى ، واتقى معناه اتخاذ الوقاية من عذاب الله ، وهذا مرجو حصوله عند حصول العبادة . فعلى هذا ، العبادة ليست نفس التقوى ؛ لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار ، والعبادة فعل المأمور به ، وفعل المأمور به ليس نفس الاحتراز بل يوجب الاحتراز ، فكأنه قال : اعبدوه فتحترزوا عن عقابه ، فإن أطلق على نفس الفعل اتقاء فهو مجاز ، ومفعول يتقون محذوف . قال : الشرك ، وقال ابن عباس الضحاك : النار ، أو معناه تطيعون ، قاله مجاهد ، ومن قال : المعنى الذي خلقكم راجين للتقوى ، قال بعض المفسرين : فيه بعد من حيث إنه لو خلقهم راجين للتقوى كانوا مطيعين مجبولين عليها ، والواقع خلاف ذلك ، انتهى كلامه . ويعني أنهم لو خلقوا وهم راجون للتقوى لكان ذلك مركوزا في جبلتهم ، فكان لا يقع منهم غير التقوى وهم ليسوا كذلك ، بل المعاصي هي الواقعة كثيرا ، وهذا ليس كما ذكر ، وقد يخلق الإنسان راجيا لشيء فلا يقع ما يرجوه ؛ لأن الإنسان في الحقيقة ليس له الخيار فيما يفعله أو يتركه ، بل نجد الإنسان يعتقد رجحان الترك في شيء ثم هو يفعله ، ولقد صدق الشاعر في قوله :
علمي بقبح المعاصي حين أركبها يقضي بأني محمول على القدر
فلا يلزم من رجاء الإنسان لشيء وقوع ما يرتجى ، وإنما امتنع ذلك التقدير ، أعني تقدير الحال ، من حيث إن لعل للإنشاء ، فهي وما دخلت عليه ليست جملة خبرية فيصح وقوعها حالا . قال : هذه الآية ، يريد : ( الطبري ياأيها الناس اعبدوا ) من أدل دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق بمعونة الله غير جائز ، وذلك أن الله - عز وجل - أمر بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون . والموصول الثاني في قوله : ( الذي جعل ) يجوز رفعه ونصبه ، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، فهو رفع على القطع ، إذ هو صفة مدح ، قالوا : أو على أنه مبتدأ خبره قوله : [ ص: 97 ] ( فلا تجعلوا لله أندادا ) ، وهو ضعيف لوجهين : أحدهما : أن صلة الذي وما عطف عليها قد مضيا ، فلا يناسب دخول الفاء في الخبر . الثاني : أن ذلك لا يتمشى إلا على مذهب أبي الحسن ؛ لأن من الروابط عنده تكرار المبتدأ بمعناه ، فالذي مبتدأ ، و ( فلا تجعلوا لله أندادا ) جملة خبرية ، والرابط لفظ الله من لله ، كأنه قيل : فلا تجعلوا لله أندادا ، وهذا من تكرار المبتدأ بمعناه . ولا نعرف إجازة ذلك إلا عن أبي الحسن . أجاز أن تقول : زيد قام أبو عمرو ، وإذا كان أبو عمرو كنية لزيد ، ونص على منع ذلك . وأما نصبه فيجوز أن يكون على القطع ، إذ هو وصف مدح ، كما ذكرنا ، ويجوز أن يكون وصفا لما كان له وصفا الذي خلقكم ، وهو ربكم ، قالوا : ويجوز نصبه على أن يكون نعتا لقوله : ( الذي خلقكم ) ، فيكون نعتا للنعت ونعت النعت مما يحيل تكرار النعوت . والذي نختاره أن النعت لا ينعت ، بل النعوت كلها راجعة إلى منعوت واحد ، إلا إن كان ذلك النعت لا يمكن تبعيته للمنعوت ، فيكون إذ ذاك نعتا للنعت الأول ، نحو قولك : يا أيها الفارس ذو الجمة . وأجاز سيبويه أبو محمد مكي نصبه بإضمار أعني ، وما قبله ليس بملتبس ، فيحتاج إلى مفسر له بإضمار أعني ، وأجاز أيضا نصبه بتتقون ، وهو إعراب غث ينزه القرآن عن مثله . وإنما أتى بقوله الذي دون واو لتكون هذه الصفة وما قبلها راجعين إلى موصوف واحد ، إذ لو كانت بالواو لأوهم ذلك موصوفا آخر ؛ لأن العطف أصله المغايرة . وجعل : بمعنى صير ، لذلك نصبت الأرض . وفراشا ولكم متعلق بجعل ، وأجاز بعضهم أن ينتصب فراشا وبناء على الحال ، على أن يكون جعل بمعنى خلق ، فيتعدى إلى واحد ، وغاير اللفظ كما غاير في قوله : ( خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ) ؛ لأنه قصد إلى ذكر جملتين ، فغاير بين اللفظين لأن التكرار ليس في الفصاحة ، كاختلاف اللفظ والمدلول واحد . وأدغم أبو عمرو لام جعل في لام لكم ، والألف واللام في الأرض يجوز أن تكون للجنس الخاص ، فيكون المراد أرضا مخصوصة ، وهي كل ما تمهد واستوى من الأرض وصلح أن يكون فراشا . ويجوز أن تكون لاستغراق الجنس ، ويكون المراد بالفراش مكان الاستقرار واللبث لكل حيوان . فالوهد مستقر بني آدم وغيرهم من الحيوانات ، والجبال والحزون مستقر لبعض الآدميين بيوتا أو حصونا ومنازل ، أو لبعض الحيوانات وحشا وطيرا يفترشون منها أوكارا ، ويكون الامتنان على هذا مشتملا على كل من جعل الأرض له قرارا . وغلب خطاب من يعقل على من لا يعقل ، أو يكون خطاب الامتنان وقع على من يعقل ؛ لأن ما عداهم من الحيوانات معد لمنافعهم ومصالحهم ، فخلقها من جملة المنة على من يعقل . وقرأ يزيد الشامي : بساطا ، وطلحة : مهادا . والفراش والمهاد والبساط والقرار والوطاء نظائر . وقد استدل بعض المنجمين بقوله : ( جعل لكم الأرض فراشا ) على أن الأرض مبسوطة لا كروية ، وبأنها لو كانت كروية ما استقر ماء البحار فيها . أما استدلاله بالآية فلا حجة له في ذلك ؛ لأن الآية لا تدل على أن الأرض مسطحة ولا كروية ، إنما دلت على أن الناس يفترشونها كما يتقلبون بالمفارش ، سواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة ، وأمكن الافتراش فيها لتباعد أقطارها واتساع جرمها . قال : وإذا كان يعني الافتراش سهلا في الجبل ، وهو وتد من أوتاد الأرض ، فهو أسهل في الأرض ذات الطول والعرض . وأما استدلاله باستقرار ماء البحار فيها فليس بصحيح ، قالوا : لأنه يجوز أن تكون كروية ويكون في جزء منها منسطح يصلح للاستقرار ، وماء البحر متماسك بأمر الله - تعالى - لا بمقتضى الهيئة ، انتهى قولهم . ويجوز أن يكون بعض الشكل الكروي مقرا للماء إذا كان الشكل ثابتا غير دائر ، أما إذا كان دائرا فيستحيل عادة قراره في مكان واحد من ذلك الشكل الكروي . وهذه مسألة يتكلم عليها في علم الهيئة . وقوله تعالى : ( الزمخشري والسماء بناء ) هو تشبيه بما يفهم كقوله تعالى : ( والسماء بنيناها [ ص: 98 ] بأيد ) ، شبهت بالقبة المبنية على الأرض ، ويقال لسقف البيت بناء ، والسماء للأرض كالسقف ، روي هذا عن وجماعة . وقيل : سماها بناء ؛ لأن سماء البيت يجوز أن يكون بناء غير بناء ، كالخيام والمضارب والقباب ، لكن البناء أبلغ في الإحكام وأتقن في الصنعة وأمنع لوصول الأذى إلى من تحته ، فوصف السماء بالأبلغ والأتقن والأمنع ، ونبه بذلك على إظهار قدرته وعظيم حكمته ، إذ المعلوم أن كل بناء مرتفع لا يتهيأ إلا بأساس مستقر على الأرض أو بعمد وأطناب مركوزة فيها ، والسماء في غاية ما يكون من العظم ، وهي سبع طباق بعضها فوق بعض ، وعليها من أثقال الأفلاك وأجناس الأملاك وأجرام الكواكب التي لا يعبر عن عظمها ولا يحصى عددها ، وهي مع ذلك بغير أساس يمسكها ولا عمد تقلها ولا أطناب تشدها ، وهي لو كانت بعمد وأساس كانت من أعظم المخلوقات وأحكم المبدعات ، فكيف وهي عارية عن ذلك ممسكة بالقدرة الإلهية : ( ابن عباس إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ) . وقيل : سميت بناء لتماسكها كما يتماسك البناء بعضه ببعض .
وأنزل من السماء : يجوز أن يراد به السحاب ، ويجوز أن يراد به السماء المعروفة . فعلى الأول الجامع بينهما هو القدر المشترك من السمو ، ولا يجوز الإضمار لأنه غير الأول ، وعلى الثاني فحسن الإظهار دون الإضمار هنا كون السماء الأولى في ضمن جملة ، والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة تامة لولا عطفها ، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء ؛ لأنه لو تأخر لكان نعتا ، فلما تقدم انتصب على الحال ، ومعناها إذ ذاك التبعيض ، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي من مياه السماء ، ونكر ماء لأن المنزل لم يكن عاما فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو ما صدق عليه الاسم . فأخرج به : والهاء في به عائدة إلى الماء ، والباء معناها السببية . فالماء سبب للخروج ، كما أن ماء الفحل سبب في خلق الولد ، وهذه السببية مجاز ، إذ الباري - تعالى - قادر على أن ينشئ الأجناس ، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب ، ولكنه تعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما ، أجرى ذلك الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقي . ولله - تعالى - في إنشاء الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها ، لم يكن في إنشائها دفعة واحدة من غير انتقال أطوار ؛ لأن في كل طور مشاهدة أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيما للباري . من الثمرات : من للتبعيض ، والألف واللام في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه ، ولا ضرورة تدعو إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتفاوت بعضها موضع بعض لالتقائهما في الجمعية ، نحو : ( كم تركوا من جنات ) ، و ( ثلاثة قروء ) ، فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار على ما ذهب إليه ؛ لأن هذا من الجمع المحلى بالألف واللام ، فهو وإن كان جمع قلة ، فإن الألف واللام التي للعموم تنقله من الاختصاص لجمع القلة للعموم ، فلا فرق بين الثمرات والثمار ، إذ الألف واللام للاستغراق فيهما ، ولذلك رد المحققون على من نقد على الزمخشري حسان قوله :
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
بأن هذا جمع قلة ، فكان ينبغي على زعمه أن يقول : الجفان وسيوفنا ، وهو نقد غير صحيح لما ذكرناه من أن الاستغراق ينقله ، وأبعد من جعل من زائدة ، وجعل الألف واللام للاستغراق لوجهين : أحدهما : زيادة من في الواجب ، وقيل معرفة ، وهذا لا يقول به أحد من البصريين والكوفيين إلا الأخفش . والثاني : أنه يلزم منه أن يكون جميع الثمرات التي أخرجها رزقا لنا ، وكم من شجرة أثمرت شيئا لا يمكن أن يكون رزقا لنا ، وإن كانت للتبعيض كان بعض الثمار رزقا لنا وبعضها لا يكون رزقا لنا ، وهو الواقع . وناسب في الآية تنكير الماء وكون من دالة على التبعيض وتنكير الرزق ، إذ المعنى : وأنزل من السماء بعض الماء [ ص: 99 ] فأخرج به بعض الثمرات بعض رزق لكم ، إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات ، إنما ذلك بعض رزقهم ، ومن الثمرات يحتمل أن يكون في موضع المفعول به بأخرج ، ويكون على هذا رزقا منصوبا على الحال إن أريد به المرزوق كالطحن والرعي ، أو مفعولا من أجله إن أريد به المصدر ، وشروط المفعول له فيه موجودة ، ويحتمل أن يكون متعلقا بأخرج ، ويكون رزقا مفعولا بأخرج . وقرأ ابن السميفع : من الثمرة ، على التوحيد ، يريد به الجمع كقولهم : فلان أدركت ثمرة بستانه ، يريدون ثماره . وقولهم : للقصيدة كلمة ، وللقرية مدرة ، لا يريدون بذلك الإفراد . ولكم : إن أريد بالرزق المصدر كانت الكاف مفعولا به واللام منوية لتعدي المصدر إليه ، نحو : ضربت ابني تأديبا له ، أي تأديبه ، وإن أريد به المرزوق كان في موضع الصفة فتتعلق اللام بمحذوف ، أي كائنا لكم ، ويحتمل أن تكون لكم متعلقا بأخرج ، أي فأخرج لكم به من الثمرات رزقا . وانتهى عند قوله : رزقا لكم ، ذكر خمسة أنواع من الدلائل : اثنين من الأنفس خلقهم وخلق من قبلهم ، وثلاثة من غير الأنفس ، كون الأرض فراشا وكون السماء بناء ، والحاصل من مجموعهما تقدم خلق الإنسان لأنه أقرب إلى معرفته ، وثنى بخلق الآباء ، وثلث بالأرض لأنها أقرب إليه من السماء ، وقدم السماء على نزول المطر وإخراج الثمرات ؛ لأن هذا كالأمر المتولد بين السماء والأرض ، والأثر متأخر عن المؤثر . وقيل : قدم المكلفين لأن خلقهم أحياء قادرين أصل لجميع النعم . وأما خلق السماء والأرض والماء والثمر ، فإنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة والعقل . وقد اختلف أيهما أفضل ، ومن قال السماء أفضل قال : لأنها متعبد الملائكة وما فيها من بقعة عصي الله فيه ، ولأن آدم لما عصاه قال : لا تسكن جواري ، ولتقديم السماء على الأرض في أكثر الآيات ، ولأن فيها العرش والكرسي واللوح المحفوظ والقلم ، وأنها قبلة الدعاء . ومن قال الأرض أفضل قال : لأن الله وصف منها بقاعا بالبركة ، ولأن الأنبياء مخلوقون منها ، ولأنها مسجد وطهور .
( فلا تجعلوا لله أندادا ) ظاهره أنه نهى عن اتخاذ الأنداد ، وسموا أندادا على جهة المجاز من حيث أشركوهم معه تعالى في التسمية بالإلهية ، والعبادة صورة لا حقيقة لأنهم لم يكونوا يعبدونهم لذواتهم بل للتقرب إلى الله - تعالى - وكانوا يسمون الله إله الآلهة ورب الأرباب ، ومن شابه شيئا في وصف ما قيل : هو مثله وشبهه ونده في ذلك الوصف دون بقية أوصافه ، والنهي عن اتخاذ الأنداد بصورة الجمع هو على حسب الواقع لأنهم لم يتخذوا له تعالى ندا واحدا ، وإنما جعلوا له أندادا كثيرة ، فجاء النهي على ما كانوا اتخذوه ، ولذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل :
أربا واحدا أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور
وقرأ زيد بن علي بن محمد بن السميفع : ندا ، على التوحيد ، وهو مفرد في سياق النهي ، فالمراد به العموم ، إذ ليس المعنى : فلا تجعلوا لله ندا واحدا بل أندادا ، وهذا النهي متعلق بالأمر في قوله : ( اعبدوا ربكم ) ، أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة ؛ لأن أصل العبادة هو التوحيد . قال : متعلق بلعل ، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأطلع في قوله : ( الزمخشري لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى ) ، في رواية حفص عن عاصم ، أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه ، انتهى كلامه . فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية ، وتجعلوا منصوب على جواب الترجي ، وهو لا يجوز على مذهب البصريين ، إنما ذهب إلى جواز ذلك الكوفيون ، أجروا لعل مجرى هل . فكما أن الاستفهام ينصب الفعل في جوابه فكذلك الترجي . فهذا التخريج الذي أخرجه لا يجوز على مذهب البصريين ، وفي كلامه تعليق لعلكم تتقون بخلقكم ، ألا ترى إلى تقديره أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه ؟ فلا [ ص: 100 ] تشبهوه بخلقه ، وهو جار على ما مر من مذهبه الاعتزالي ، ويجوز أن يكون متعلقا بالذي إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية ، فلا تجعلوا له أندادا . والظاهر في هذا القول هو ما قدمناه أولا من تعلقه بقوله : ( الزمخشري اعبدوا ربكم ) .