الطهارة : النظافة ، والفعل طهر بفتح الهاء وهو الأفصح ، وطهر بالضم ، واسم الفاعل منهما طاهر . فعلى [ ص: 110 ] الفتح قياس ، وعلى الضم شاذ نحو : حمض فهو حامض ، وخثر فهو خاثر . الخلود : المكث في الحياة أو الملك أو المكان مدة طويلة لا انتهاء لها ، وهل يطلق على المدة الطويلة التي لها انتهاء بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز قولان ، وقال زهير :
فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت ولكن حمد الناس ليس بمخلد
ويقال : خلد بالمكان أقام به ، وأخلد إلى كذا : سكن إليه ، والمخلد : الذي لم يشب ، ولهذا المعنى ، أعني من السكون والاطمئنان ، سمي هذا الحيوان اللطيف الذي يكون في الأرض خلدا . وظاهره هذه الاستعمالات ، وغيرها يدل على أن الخلد هو المكث الطويل ، ولا يدل على المكث الذي لا نهاية له إلا بقرينة . واختار فيه : أنه البقاء اللازم الذي لا ينقطع ، تقوية لمذهبه الاعتزالي في أن من دخل النار لم يخرج منها بل يبقى فيها أبدا . الزمخشري
والأحاديث الصحيحة المستفيضة دلت على خروج ناس من المؤمنين الذين دخلوا النار بالشفاعة من النار ، ومناسبة قوله تعالى : وبشر لما قبله ظاهرة ، وذلك أنه لما ذكر ما تضمن ذكر الكفار وما تئول إليه حالهم في الآخرة ، وكان ذلك من أبلغ التخويف والإنذار ، أعقب ما تضمن ذكر مقابليهم وأحوالهم وما أعد الله لهم في الآخرة من النعيم السرمدي . وهكذا جرت العادة في القرآن غالبا متى جرى ذكر الكفار وما لهم أعقب بالمؤمنين وما لهم وبالعكس ، لتكون الموعظة جامعة بين الوعيد والوعد واللطف والعنف ؛ لأن من الناس من لا يجذبه التخويف ويجذبه اللطف ، ومنهم من هو بالعكس . والمأمور بالتبشير قيل : النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل : كل من يصلح للبشارة من غير تعيين . قال : وهذا أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به ، انتهى كلامه . والوجه الأول عندي أولى ؛ لأن أمره لخصوصيته بالبشارة أفخم وأجزل ، وكأنه ما اتكل على أن يبشر المؤمنين كل سامع ، بل نص على أعظمهم وأصدقهم ليكون ذلك أوثق عندهم وأقطع في الإخبار بهذه البشارة العظيمة ، إذ تبشيره - صلى الله عليه وسلم - تبشير من الله - تعالى - . والجملة من قوله : وبشر معطوفة على ما قبلها ، وليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه ، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين ، فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين ، كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والإزهاق ، وبشر عمرا بالعفو والإطلاق ، قال هذا الزمخشري وتبعه الزمخشري أبو البقاء فقال : الواو في وبشر عطف بها جملة ثواب المؤمنين على جملة عقاب الكافرين ، انتهى كلامه .
وتلخص من هذا أن عطف الجمل بعضها على بعض ليس من شرطه أن تتفق معاني الجمل ، فعلى هذا يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة غير الخبرية ، وهذه المسألة فيها اختلاف . ذهب جماعة من النحويين إلى اشتراط اتفاق المعاني ، والصحيح أن ذلك ليس بشرط ، وهو مذهب . فعلى مذهب سيبويه يتمشى إعراب سيبويه الزمخشري وأبي البقاء . وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون قوله : وبشر معطوفا على قوله : فاتقوا النار ، ليكون عطف أمر على أمر . قال : كما تقول : يا الزمخشري بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم ، وبشر يا فلان بني أسد بإحسان إليهم ، وهذا الذي ذهبا إليه خطأ ؛ لأن قوله : فاتقوا جواب للشرط وموضعه جزم ، والمعطوف على الجواب جواب ، ولا يمكن في قوله : وبشر أن يكون جوابا لأنه أمر بالبشارة ومطلقا ، لا على تقدير إن لم تفعلوا ، بل أمر أن يبشر الذين آمنوا أمرا ليس مترتبا على شيء قبله ، وليس قوله : وبشر على إعرابه مثل ما مثل به من قوله : يا بني تميم إلخ ؛ لأن قوله : احذروا لا موضع له من الإعراب ، بخلاف قوله : فاتقوا . فلذلك أمكن فيما مثل به العطف ولم يمكن في وبشر . وقرأ [ ص: 111 ] : وبشر فعلا ماضيا مبنيا للمفعول . قال زيد بن علي : عطفا على أعدت ، انتهى . وهذا الإعراب لا يتأتى على قول من جعل أعدت جملة في موضع الحال ؛ لأن المعطوف على الحال حال ، ولا يتأتى أن يكون " وبشر " في موضع الحال ، فالأصح أن تكون جملة معطوفة على ما قبلها ، وإن لم تتفق معاني الجمل ، كما ذهب إليه الزمخشري وهو الصحيح ، وقد استدل لذلك بقول الشاعر : سيبويه
تناغي غزالا عند باب ابن عامر وكحل مآقيك الحسان بإثمد
وبقول امرئ القيس :
وإن شفائي عبرة إن سفحتها وهل عند رسم دارس من معول
وأجاز : جاءني زيد ، ومن أخوك العاقلان ، على أن يكون العاقلان خبر ابتداء مضمر . وقد تقدم لنا أن سيبويه يخص البشارة بالخبر الذي يظهر سرور المخبر به . وقال الزمخشري ابن عطية : الأغلب استعماله في الخير ، وقد يستعمل في الشر مقيدا به منصوصا على الشر للمبشر به ، كما قال تعالى : ( فبشرهم بعذاب أليم ) . ومتى أطلق لفظ البشارة فإنما يحمل على الخير ، انتهى كلامه . وتقدم لنا ما يخالف قوليهما من قول وغيره ، وأن البشارة أول خبر يرد على الإنسان من خير كان أو شر ، قالوا : وسمي بذلك لتأثيره في البشرة ، فإن كان خيرا أثر المسرة والانبساط ، وإن كان شرا أثر القبض والانكماش . قال تعالى : ( سيبويه يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ) ، وقال تعالى : ( فبشرهم بعذاب أليم ) ، وجعل هذا العكس في الكلام الذي يقصد به استهزاء الزائد في غيظه المستهزأ به وتألمه . وقيل : معناه ضع هذا موضع البشارة منهم ، قالوا : والصحيح أن كل خبر غير البشرة خيرا كان أو شرا بشارة ، قال الشاعر : الزمخشري
يبشرني الغراب ببين أهل فقلت له ثكلتك من بشير
وقال آخر :
وبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وأن الود موعده الحشر
والتضعيف في " بشر " من التضعيف الدال على التكثير فيما قال بعضهم ، ولا يتأتى التكثير في " بشر " إلا بالنسبة إلى المفاعيل ؛ لأن البشارة أول خبر يسر أو يحزن على المختار ، ولا يتأتى التكثير فيه بالنسبة إلى المفعول الواحد ، فبالنسبة إليه يكون فعل فيه مغنيا عن فعل ؛ لأن الذي ينطق به مشددا غير العرب الذين ينطقون به مخففا ، كما بينا قبل . وكون مفعول " بشر " موصولا بجملة فعلية ماضية ولم يكن اسم فاعل ، دلالة على أن مستحق التبشير بفضل الله من وقع منه الإيمان وتحقق به وبالأعمال الصالحة . والصالحات : جمع صالحة ، وهي صفة جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل ، قال الحطيئة :
كيف الهجاء وما ينفك صالحة من آل لام بظهر الغيب تأتيني
فعلى هذا انتصابها على أنها مفعول بها ، والألف واللام في الصالحات للجنس لا للعموم ؛ لأنه لا يكاد يمكن أن يعمل المؤمن جميع الصالحات ، لكن يعمل جملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف . والفرق بين لام الجنس إذا دخلت على المفرد ، وبينها إذا دخلت على الجمع ، أنها في المفرد يحتمل أن يراد بها واحد من الجنس ، وفي الجمع لا يحتمله . قال : الصالح ما أخلص لله - تعالى - وقال عثمان بن عفان : ما احتوى على أربعة : العلم والنية والصبر والإخلاص ، وقال معاذ بن جبل : ما وافق الكتاب والسنة ، وقال سهل بن عبد الله : الصلوات في أوقاتها وتعديل أركانها وهيئاتها ، وقيل : الأمانة ، وقيل : التوبة والاختيار ، قول الجمهور : وهو كل عمل صالح أريد به الله . قال علي بن أبي طالب ابن عطية : وفي قوله تعالى : ( وعملوا الصالحات ) رد على من يقول : إن لفظة الإيمان [ ص: 112 ] بمجردها تقتضي الطاعات ؛ لأنه لو كان ذلك ما أعادها ، انتهى كلامه . وفي ذلك أيضا دليل على أن الذين أمر الله بأن يبشروا هم من جمعوا بين الإيمان والأعمال الصالحات ، وأن من اقتصر على الإيمان فقط دون الأعمال الصالحات لا يكون مبشرا من هذه الآية ، " وبشر " يتعدى لمفعولين : أحدهما بنفسه ، والآخر بإسقاط حرف الجر . فقوله : ( أن لهم جنات ) هو في موضع هذا المفعول ، وجاز حذف حرف الجر مع " أن " قياسا مطردا ، واختلفوا بعد حذف الحرف ، هل موضع " أن " ومعموليها جر أم نصب ؟ فمذهب الخليل أن موضعه جر ، ومذهب والكسائي سيبويه أن موضعه نصب ، والاستدلال في كتب النحو . و " جنات " جمع جنة ، جمع قلة ، فروي عن والفراء أنها سبع جنات . وقال قوم : هي ثمان جنات . وزعم بعض المفسرين أن في تضاعيف الكتاب والسنة ما يدل على أنها أكثر من العدد الذي أشار إليه ابن عباس وغيره ، قال : فإنه قال : ( ابن عباس إن المتقين في جنات ونهر ) ، ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ، ( ومن دونهما جنتان ) ، ( عندها جنة المأوى ) ، ( جنات تجري ) . وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " وهذا الذي أورده هذا المفسر لا يدل على أنها أكثر مما روي عن جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن . وقال ابن عباس : الجنة اسم لدار الثواب كلها ، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين ، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان ، انتهى كلامه . وقد دس فيه مذهبه الاعتزالي بقوله : على حسب استحقاق العاملين . وقد جاء في القرآن ذكر الجنة مفردة ومجموعة ، فإذا كانت مفردة فالمراد الجنس ، واللام في لهم للاختصاص ، وتقديم الخبر هنا آكد من تقديم المخبر عنه لقرب عود الضمير على الذين آمنوا ، فهو أسر للسامع ، والشائع أنه إذا كان الاسم نكرة تعين تقديمه ( الزمخشري أئن لنا لأجرا ) ، ولم يذكر في الآية الموافاة على الإيمان فإن الردة تحبطه ، وذلك مفهوم من غير هذه الآية . وأما فجرى على مذهبه الاعتزالي من أنه يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر ، وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية ، وزعم أن اشتراط ذلك كالداخل تحت الذكر . الزمخشري
وقد علم من مذهب أهل السنة أن من وافى على الإيمان فهو من أهل الجنة ، سواء كان مرتكبا كبيرة أم غير مرتكب ، تائبا أو غير تائب ، ومن قال : إن " من " زائدة والتقدير تجري تحتها ، أو بمعنى في ، أي في تحتها ، فغير جار على مألوف المحققين من أهل العربية ، بل هي متعلقة بتجري ، وهي لابتداء الغاية . وإذا فسرنا الجنات بأنها الأشجار الملتفة ذوات الظل ، فلا يحتاج إلى حذف . وإذا فسرناها بالأرض ذات الأشجار احتاج ، إذ يصير التقدير من تحت أشجارها أو غرفها ومنازلها . وقيل : عبر بتحتها عن أسافلها وأصولها . وقيل : المعنى في تجري من تحتها : أي بأمر سكانها واختيارهم ، فعبر بتحتها عن قهرهم لها وجريانها على حكمهم ، كما قيل في قوله تعالى حكاية عن فرعون : ( وهذه الأنهار تجري من تحتي ) ، أي بأمري وقهري . وهذا المعنى لا يناسب إلا لو كانت التلاوة : أن لهم جنات تجري من تحتهم ، فيكون نظير " من " تحتي إذا جعل على حذف مضاف ، أي من تحت أهلها ، استقام المعنى الذي ذكر أنه لا يناسب ، إذ ليس المعنى بأمر الجنات واختيارها . وقيل : المعنى في من تحتها : من جهتها . وقد روي عن مسروق : أن أنهار الجنة تجري في غير أخاديد ، وأنها تجري على سطح أرض الجنة منبسطة . وإذا صح هذا النقل فهو أبلغ في النزهة ، وأحلى في المنظر ، وأبهج للنفس . فإن الماء الجاري ينبسط على وجه الأرض جوهره فيحسن اندفاعه وتكسره ، وأحسن البساتين ما كانت أشجاره ملتفة وظله ضافيا وماؤه صافيا منسابا على وجه أرضه ، لا سيما الجنة ، حصباؤها الدر والياقوت واللؤلؤ ، فتتكسر تلك [ ص: 113 ] المياه على ذلك الحصى ، ويجلو صفاء الماء بهجة تلك الجواهر ، وتسمع لذلك الماء المتكسر على تلك اليواقيت واللآلئ له خريرا ، قال شيخنا الأديب البارع أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي - رحمه الله تعالى - " من " كلمة :
وتحدث الماء الزلال مع الحصى فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى
خرج الترمذي من حديث حكيم بن معاوية ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " . ويؤيد هذا الحديث قوله تعالى : ( إن في الجنة بحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر اللبن ، وبحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار بعده فيها أنهار من ماء غير آسن ) الآية . ولما كانت الجنة لا تشوق ، والروض لا يروق إلا بالماء الذي يقوم لها مقام الأرواح للأشباح ، ما كاد مجيء ذكرها إلا مشفوعا بذكر الأنهار ، مقدما هذا الوصف فيها على سائر الأوصاف . قال ابن عطية : نسب الجري إلى النهر ، وإنما يجري الماء وحده توسعا وتجوزا ، كما قال تعالى : ( واسأل القرية ) ، وكما قال الشاعر :
نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس
انتهى كلامه . وناقض قوله هذا ما شرح به الأنهار قبله بنحو من خمسة أسطر قال : والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة ، انتهى كلامه . والألف واللام في الأنهار للجنس ، قال : أو يراد أنهارها ، فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة ، كقوله تعالى : ( الزمخشري واشتعل الرأس شيبا ) ، وهذا الذي ذكره ، وهو أن الألف واللام تكون عوضا من الإضافة ، ليس مذهب البصريين ، بل شيء ذهب إليه الكوفيون ، وعليه خرج بعض الناس قوله تعالى : ( الزمخشري مفتحة لهم الأبواب ) ، أي أبوابها . وأما البصريون فيتأولون هذا على غير هذا الوجه ويجعلون الضمير محذوفا ، أي الأبواب منها ، ولو كانت الألف واللام عوضا من الإضافة لما أتى بالضمير مع الألف واللام ، وقال الشاعر :
قطوب رحيب الجيب منها رقيقة بجس الندامى بضة المتجرد
ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد الثابت في الذهن من الأنهار الأربعة المذكورة في سورة القتال . وجاء هذا الجمع بصيغة جمع القلة إشارة إلى الأنهار الأربعة ، إن قلنا : إن الألف واللام فيها للعهد ، أو إشارة إلى أنهار الماء ، وهي أربعة أو خمسة . في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الجنة فقال : " " . وفي رواية سيحون وجيحون ، وعن نهران باطنان : الفرات والنيل ، ونهران ظاهران : سيحان وجيحان أنس قال : " الحديث . وإن كانت أنهارا كثيرة فيكون ذلك من إجراء جمع القلة مجرى جمع الكثرة ، كما جاء العكس على جهة التوسع والمجاز لاشتراكهما في الجمعية . سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ماء الكوثر قال : " ذاك نهر أعطانيه الله - تعالى - يعني في الجنة ، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل
( كلما رزقوا ) ، تقدم الكلام على " كلما " عند قوله تعالى : ( كلما أضاء لهم ) ، وبينا كيفية التكرار فيها على خلاف ما يفهم أكثر الناس ، والأحسن في هذه الجملة أن تكون مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وأنه لما ذكر أن من آمن وعمل الصالحات لهم جنات صفتها كذا ، هجس في النفوس - حيث ذكرت الجنة - الحديث عن ثمار الجنات ، وتشوقت إلى ذكر كيفية أحوالها ، فقيل لهم : ( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا ) ، وأجيز أن تكون الجملة لها موضع من الإعراب ، نصب على تقدير كونها صفة للجنات ، ورفع على تقدير خبر مبتدأ محذوف . ويحتمل هذا وجهين : إما أن يكون المبتدأ ضميرا عائدا على الجنات ، أي هي ( كلما رزقوا منها ) ، أو عائدا على ( الذين آمنوا ) ، أي هم كلما رزقوا ، والأولى الوجه الأول لاستقلال الجملة فيه لأنها في الوجهين السابقين تتقدر بالمفرد ، فهي مفتقرة إلى الموصوف ، أو إلى المبتدأ المحذوف . [ ص: 114 ] وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من الذين آمنوا تقديره مرزوقين على الدوام ، ولا يتم له ذلك إلا على تقدير أن يكون الحال مقدرة ؛ لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين على الدوام . وأجاز أيضا أن تكون حالا من جنات لأنها نكرة قد وصفت بقوله : تجري ، فقربت من المعرفة ، وتؤول أيضا إلى الحال المقدرة . والأصل في الحال أن تكون مصاحبة ، فلذلك اخترنا في إعراب هذه الجملة غير ما ذكره أبو البقاء . ومن : في قوله : منها ، هي لابتداء الغاية ، وفي : من ثمرة كذلك ؛ لأنه بدل من قوله : منها ، أعيد معه حرف كقوله تعالى : ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ) ، على أحد الاحتمالين ، وكلتاهما تتعلق برزقوا على جهة البدل ، كما ذكرناه ؛ لأن الفعل لا يقضي حرفي جر في معنى واحد إلا بالعطف ، أو على طريقة البدل ، وهذا البدل هو بدل الاشتمال . وقد طول في إعراب قوله : من ثمرة ، ولم يفصح بالبدل ، لكن تمثيله يدل على أنه مراده ، وأجاز أن يكون من ثمرة بيانا على منهاج قولك : رأيت منك أسدا ، تريد أنت أسد ، انتهى كلامه . وكون " من " للبيان ليس مذهب المحققين من أهل العربية ، بل تأولوا ما استدل به من أثبت ذلك ، ولو فرضنا مجيء " من " للبيان ، لما صح تقديرها للبيان هنا ؛ لأن القائلين بأن " من " للبيان قدروها بمضمر وجعلوه صدرا لموصول صفة إن كان قبلها معرفة ، نحو : ( الزمخشري فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) ، أي الرجس الذي هو الأوثان ، وإن كان قبلها نكرة ، فهو يعود على تلك النكرة نحو : من يضرب من رجل ، أي هو رجل ، و " من " هذه ليس قبلها ما يصلح أن يكون بيانا له ، لا نكرة ولا معرفة ، إلا إن كان يتمحل لذلك أنها بيان لما بعدها ، وأن التقدير : كلما رزقوا منها رزقا من ثمرة ، فتكون " من " مبينة لرزقا ، أي : رزقا هو ثمرة ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير . فهذا ينبغي أن ينزه كتاب الله عن مثله . وأما : رأيت منك أسدا ، فمن لابتداء الغاية أو للغاية ابتداء وانتهاء ، نحو : أخذته منك ، ولا يراد بثمرة الشخص الواحد من التفاح أو الرمان أو غير ذلك ، بل المراد ، والله أعلم ، النوع من أنواع الثمار . قال : وعلى هذا ، أي على تقدير أن تكون من بيانا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار ، والجنات الواحدة ، انتهى كلامه . وقد اخترنا أن " من " لا تكون بيانا فلا نختار ما ابتنى عليه ، مع أن قوله : والجنات الواحدة مشكل يحتاج فهمه إلى تأمل ، ورزقا هنا هو المرزوق ، والمصدر بعيد جدا لقوله : ( الزمخشري هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ) ، فإن المصدر لا يؤتى به متشابها ، إنما هذا من الإخبار عن المرزوق لا عن المصدر .
( قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ) ، قالوا : هو العامل في كلما ، وهذا الذي : مبتدأ معمول للقول . فالجملة في موضع مفعول ، والمعنى : هذا ، مثل الذي رزقنا ، فهو من باب ما الخبر شبه به المبتدأ ، وإنما احتيج إلى هذا الإضمار ؛ لأن الحاضر بين أيديهم في ذلك الوقت يستحيل أن يكون عين الذي تقدم أن رزقوه ، ثم هذه المثلية المقدرة حذفت لاستحكام الشبه ، حتى كأن هذه الذات هي الذات ، والعائد على الذي محذوف ، أي رزقناه ، ومن متعلقة برزقنا ، وهي لابتداء الغاية . وقيل : مقطوع عن الإضافة ، والمضاف إليه معرفة محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره من قبله : أي من قبل المرزوق . واختلف المفسرون في تفسير ذلك ، فقال ابن عباس والضحاك ومقاتل : معناه رزق الغداة كرزق العشي . وقال يحيى بن أبي كثير وأبو عبيد : ثمر الجنة إذا جني خلفه مثله ، فإذا رأوا ما خلف المجني اشتبه عليهم ، فقالوا : هذا الذي رزقنا من قبل، وقال مجاهد وابن زيد : يعني بقوله : من قبل في الدنيا ، والمعنى أنه مثله في الصورة ، فالقبلية على القولين الأولين تكون في الجنة ، وعلى هذا القول تكون في الدنيا . وقال بعض المفسرين : معناه هذا الذي وعدنا في الدنيا أن نرزقه في الآخرة ، فعلى هذا القول يكون المبتدأ ، هو نفس الخبر ، ولا يكون التقدير مثل : وعبر عن الوعد بمتعلقه وهو الرزق ، وهو مجاز ، [ ص: 115 ] فلصدق الوعد به صار كأنهم رزقوه في الدنيا ، وكون الخبر يكون غير المبتدأ أيضا مجاز ، إلا أن هذا المجاز أكثر وأسوغ . وعلى هذا القول تكون القبلية أيضا في الدنيا ؛ لأن الوعد وقع فيها إلا أن كون القبلية في الدنيا يبعده دخول " من " على " قبل " لأنها لابتداء الغاية ، فهذا موضع " قبل " لا موضع " من " ؛ لأن بين الزمانين تراخيا كثيرا ، ومن تشعر بابتداء القبلية فتنافي التراخي والابتداء . وإذا كانت القبلية في الآخرة كان في ذلك إشكال من حيث أن الرزق الأول الذي رزقوه لا يكون له مثل رزقوه قبل لأن الفرض أنه أول ، فإذا كان أول لم يكن قبله شيء رزقوه . قال ابن عطية : هذا إشارة إلى الجنس ، أي هذا من الجنس الذي رزقناه من قبل ، انتهى كلامه . وليس هذا إشارة إلى الجنس ، بل هذا إشارة إلى الرزق . وكيف يكون إشارة إلى الجنس وقد فسر قوله بعد من الجنس الذي رزقناه من قبل ؟ فكأنه قال : هذا الجنس من الجنس الذي رزقنا من قبل ، وأنت ترى هذا التركيب كيف هو . ولعل الناقل صحف مثل بمن ، فكان التقدير : هذا الجنس مثل الجنس الذي رزقنا من قبل ، والأظهر أنه تصحيف ؛ لأن التقدير من الجنس بعيد ، وإنما يصح ذلك على ضرب من التجوز من إطلاق كل ، ويراد به بعض فتقول : هذا من بني تميم ، ثم تتجوز فتقول : هذا بنو تميم ، تجعله كل بني تميم مجازا توسعا . ومعمول القول جملة خبرية يخاطب بها بعضهم بعضا ، وليس ذلك على معنى التعجب ، قاله : جماعة . وقال يقولون ذلك على طريق التعجب . قال ابن عباس الحسن ومجاهد : يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها ، والطعم مختلف ، فهم يتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضا . قال : ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء ، وأما الذوات فمتباينة . وقراءة الجمهور : وأتوا مبنيا للمفعول وحذف الفاعل للعلم به ، وهو الخدم والولدان . يبين ذلك قراءة ابن عباس هارون الأعور والعتكي . وأتوا به على الجمع ، وهو إضمار لدلالة المعنى عليه . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق ) إلى قوله تعالى : ( وفاكهة مما يتخيرون ) ؟ فدل ذلك على أن الولدان هم الذين يأتون بالفاكهة ، والضمير في قوله تعالى : به ، عائد على الرزق ، أي وأتوا بالرزق الذي هو من الثمار ، كما أن هذا إشارة إليه . قال : قال قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : وأتوا به ؟ قلت : إلى المرزوق في الدنيا والآخرة ؛ لأن قوله : ( الزمخشري هذا الذي رزقنا من قبل ) انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين ، انتهى كلامه . أي لما كان التقدير هذا مثل الذي رزقناه كان قد انطوى على المرزوقين معا . ألا ترى أنك إذا قيل : زيد مثل حاتم ، كان منطويا على ذكر زيد وحاتم ؟ وما ذكره غير ظاهر الآية ؛ لأن ظاهر الكلام يقتضي أن يكون الضمير عائدا على مرزوقهم في الآخرة فقط ؛ لأنه هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل ، مع أنه إذا فسرت القبلية بما في الجنة تعين أن لا يعود الضمير إلا إلى المرزوق في الجنة ، كأنه قال : وأتوا بالمرزوق في الجنة متشابها ، ولا سيما إذا أعربت الجملة حالا ، إذ يصير التقدير : قالوا : هذا مثل الذي رزقنا من قبل . وقد أتوا به متشابها ، أي قالوا ذلك في هذه الحال ، وكان الحامل على القول المذكور كونه أتوا به متشابها . ومجيء الجملة المصدرة بماض حالا ومعها الواو على إضمار قد جائز في فصيح الكلام . الزمخشري
قال تعالى : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ) أي وقد كنتم الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا ، أي وقد قعدوا . ( وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة ) أي وقد ادكر إلى غير ذلك مما خرج على أنه حال ، وكذلك أيضا لا يستقيم عوده إلى المرزوق في الدارين إذا كانت الجملة معطوفة على قوله تعالى : ( قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ) ؛ لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضيا معنى لازما في حيز كلما ، والعامل فيها يتعين هنا أن يكون مستقبل المعنى ، وإن كان ماضي اللفظ لأنها لا تخلو من معنى الشرط . ويجوز أن تكون [ ص: 116 ] الجملة مستأنفة تضمنت الإخبار عن الإتيان بهذا الذي رزقوه متشابها . وقول في عود الضمير إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لا يظهر أيضا ؛ لأن هذه الجمل إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها ، وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه ، ليس من حديث الجنة إلا بتكلف . فالظاهر ما ذكرناه أولا من عود الضمير إلى الذي أشير إليه بهذا فقط ، وانتصب متشابها على الحال من الضمير في به ، وهي حال لازمة ؛ لأن التشابه ثابت له ، أتوا به أو لم يؤتوا به ، والتشابه قيل في الجودة والخيار ، فإن فواكه الجنة ليس فيها رديء ، قاله الزمخشري قتادة ، وذلك كقوله تعالى : ( كتابا متشابها ) ، قال ابن عطية : كأنه يريد متناسبا في أن كل صنف هو أعلى جنسه ، فهذا تشابه ما أو في اللون ، وهو مختلف في الطعم ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد ، أو في الطعم واللذة والشهوة ، وإن اختلفت ألوانه ، أو متشابه بثمر الدنيا في الاسم مختلف في اللون والرائحة والطعم ، أو متشابه بثمر الدنيا في الصورة لا في القدر والطعم ، قاله عكرمة وغيره . وروى حديثا يرفعه ، قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم ، ابن المبارك أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول الله ، ذكر الله في الجنة شجرة مؤذية ، وما كنت أرى في الجنة شجرة مؤذية تؤذي صاحبها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما هي ؟ " قال : السدرة ، فإن لها شوكا مؤذيا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أوليس يقول في سدر مخضود ، خضد الله الشوك فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها لتنبت ثمرا يفتق من الثمرة منها على اثنين وسبعين لونا طعاما ما فيه لون يشبه الآخر " واختار أن ثمر الجنة متشابه بثمر الدنيا ، وأطلق القول في كونه كان مشابها لثمر الدنيا ، ولم يكن أجناسا أخر . الزمخشري
وملخص ما ذكر أن الإنسان يأنس بالمألوف ، وإذا رأى غير المألوف نفر عنه طبعه ، وإذا ظفر بشيء مما ألفه وظهر له فيه مزية وتفاوت في الجنس ، سر به واغتبط بحصوله . ثم ذكر ما ورد في مقدار الرمانة والنبقة والشجرة وكيفية نخل الجنة والعنقود والأنهار ما يوقف عليه في كتابه . وليس في الآية ما يدل على ما اختاره . والأظهر أن يكون المعنى ثبوت التشابه له ، ولم يقيد التشابه بل أطلق ، فتقييده يحتاج إلى دليل . ولما كانت مجامع اللذات في المسكن البهي والمطعم الشهي والمنكح الوضي ، ذكرها الله - تعالى - فيما يبشر به المؤمنون . وقد بدأ بالمسكن لأن به الاستقرار في دار المقام ، وثنى بالمطعم لأن به قوام الأجسام ، ثم ذكر ثالثا الأزواج لأن بها تمام الالتئام ، فقال تعالى : ( الزمخشري ولهم فيها أزواج ) ، والأولى أن تكون هذه الجملة مستأنفة . كما اخترنا في قوله : ( كلما رزقوا ) ؛ لأن جعلها استئنافا يكون في ذلك اعتناء بالجملة ، إذ سيقت كلاما تاما لا يحتاج إلى ارتباط صناعي ، ومن جعلها صفة فقد سلك بها مسلكا غير ما هو أصل للجمل . وارتفاع أزواج على الابتداء ، وكونه لم يشرك في العامل في جنات يدل على ما قلناه من الاستئناف أيضا ، وخبر أزواج في المجرور الذي هو لهم ، وفيها متعلق بالعامل في لهم الذي هو خبر . والأزواج من جموع القلة ؛ لأن زوجا جمع على زوجة نحو : عود وعودة ، وهو من جموع الكثرة ، لكنه ليس في الكثير من الكلام مستعملا ، فلذلك استغنى عنه بجمع القلة توسعا وتجوزا . وقد ورد في الحديث [ ص: 117 ] الصحيح ما يدل على كثرة الأزواج من الحور وغيرهم . وأريد هنا بالأزواج : القرناء من النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره . ومطهرة صفة للأزواج مبنية على طهرت كالواحدة المؤنثة . وقرأ : مطهرات ، فجمع بالألف والتاء على طهرن . قال زيد بن علي : هما لغتان فصيحتان ، يقال : النساء فعلن ، وهن فاعلات ، والنساء فعلت ، وهي فاعلة ، ومنه بيت الحماسة : الزمخشري
وإذا العذارى بالدخان تقنعت واستعجلت نصب القدور فملت
والمعنى : وجماعة أزواج مطهرة ، انتهى كلامه . وفيه تعقب أن اللغة الواحدة أولى من الأخرى ، وذلك أن جمع ما لا يعقل إما أن يكون جمع قلة ، أو جمع كثرة ، إن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات ، وإن كان جمع قلة فالعكس ، نحو : الأجذاع انكسرن ، ويجوز انكسرت ، وكذلك إذا كان ضميرا عائدا على جمع العاقلات الأولى فيه النون من التاء ، ( فإذا بلغن أجلهن ) ، ( والوالدات يرضعن ) ، ولم يفرقوا في ذلك بين جمع القلة والكثرة كما فرقوا في جمع ما لا يعقل . فعلى هذا الذي تقرر تكون قراءة زيد الأولى إذ جاءت في الظاهر على ما هو أولى . ومجيء هذه الصفة مبنية للمفعول ، ولم تأت ظاهرة أو ظاهرات ، أفخم لأنه أفهم أن لها مطهرا وليس إلا الله تعالى . وقراءة : مطهرة ، وأصله متطهرة ، فأدغم . وفي كلام بعض العرب : ما أحوجني إلى بيت الله فأطهر به أطهرة ، أي : فأتطهر به تطهرة ، وهذه القراءة مناسبة لقراءة الجمهور ؛ لأن الفعل مما يحتمل أن يكون مطاوعا نحو : طهرته فتطهر ، أي إن الله - تعالى - طهرهن فتطهرن . وهذه الأزواج التي وصفها الله بالتطهير إن كن من الحور العين ، كما روي عن عبيد بن عمير عبد الله ، فمعنى التطهير : خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي وإن كن من بني آدم ، كما روي عنالحسن : عن عجائزكم الرمص الغمص يصرن شواب ، فقيل : مطهرة من العيوب الذاتية وغير الذاتية ، وقيل : مطهرة من الأخلاق السيئة والطبائع [ ص: 118 ] الرديئة ، كالغضب والحدة والحقد والكيد والمكر ، وما يجري مجرى ذلك ، وقيل : مطهرة من الفواحش والخنا والتطلع إلى غير أزواجهن ، وقيل : مطهرة من الأدناس الذاتية ، مثل الحيض والنفاس والجنابة والبول والتغوط وغير ذلك من المقادير الحادثة عن الأعراض المنقلبة إلى فساد كالبخر والذفر والصنان والقيح والصديد ، أو إلى غير فساد كالدمع والعرق والبصاق والنخامة . وقيل : مطهرة من مساوئ الأخلاق ، لا طمحات ولا مرجات ولا يغرن ولا يعزن . وقال النخعي : الولد . وقال يمان : من الإثم والأذى . وكل هذه الأقوال لا يدل على تعيينها قوله تعالى : ( مطهرة ) لكن ظاهر اللفظ يقتضي أنهن مطهرات من كل ما يشين ؛ لأن من طهره الله - تعالى - ووصفه بالتطهير كان في غاية النظافة والوضاءة . ولما ذكر تعالى مسكن المؤمنين ومطعمهم ومنكحهم ، وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع توقع خوف الزوال ، ولذلك قيل :
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه ارتحالا
أعقب ذلك تعالى بما يزيل تنغيص التنعم بذكر الخلود في دار النعيم ، فقال تعالى : ( وهم فيها خالدون ) . وقد تقدم ذكر الخلاف في الخلود ، وأن المعتزلة تذهب إلى أنه البقاء الدائم الذي لا ينقطع أبدا ، وأن غيرهم يذهب إلى أنه البقاء الطويل انقطع أو لم ينقطع ، وأن كون نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار سرمدي لا ينقطع ، ليس مستفادا من لفظ الخلود بل من آيات من القرآن وأحاديث صحاح من السنة ، قال تعالى : ( خالدين فيها أبدا ) ، وقال تعالى : ( وما هم منها بمخرجين ) ، وفي الحديث : " " ، وفي حديث أخرجه يا أهل الجنة خلود بلا موت مسلم في وصف أهل الجنة : " " . إلى غير ذلك من الآي والأحاديث . وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا