( وعلم آدم الأسماء كلها ) : لما أخبر تعالى الملائكة عن وجه آدم وذريته على سبيل الإجمال ، أراد أن يفصل ، فبين لهم من الحكمة في خلق آدم ما لم يكن معلوما لهم ، وذلك بأن علمه الأسماء ; ليظهر فضله وقصورهم عنه في العلم ، فتأكد الجواب الإجمالي بالتفضيل . ولا بد من تقدير جملة محذوفة قبل هذا ; لأنه بها يتم المعنى ويصح هذا العطف ، وهي : فجعل في الأرض خليفة . ولما كان لفظ الخليفة محذوفا مع الجملة المقدرة ، أبرزه في قوله : ( فضل وعلم آدم ) ، ناصا عليه ومنوها بذكره باسمه . وأبعد من زعم أن : ( وعلم آدم ) معطوف على قوله ، قال من قوله تعالى : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل ) . وهل التعليم بتكليم الله تعالى له في السماء ، كما كلم موسى في الأرض ، أو بوساطة ملك أو بالإلهام ؟ أقوال أظهرها أن الباري تعالى هو المعلم ، لا بواسطة ولا إلهام . وقرأ اليماني ويزيد اليزيدي : ( وعلم آدم ) مبنيا للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به والتضعيف في علم للتعدية ، إذ كان قبل التضعيف يتعدى لواحد ، فعدى به إلى اثنين . وليست التعدية بالتضعيف مقيسة ، إنما يقتصر فيه على مورد السماع ، سواء كان الفعل قبل التضعيف لازما أم كان متعديا ، نحو : علم المتعدية إلى واحد . وأما إن كان متعديا إلى اثنين ، فلا يحفظ في شيء منه التعدية بالتضعيف إلى ثلاث . وقد وهم في زعمه في شرح الملحة له أن علم تكون منقولة من علم التي تتعدى إلى اثنين فتصير بالتضعيف متعدية إلى ثلاثة ، ولا يحفظ ذلك من كلامهم . القاسم بن علي الحريري
وقد ذهب بعض النحويين إلى اقتياس التعدية بالتضعيف . قال الإمام أبو الحسين بن أبي الربيع في ( كتاب التلخيص ) من تأليفه : الظاهر من مذهب أن النقل بالتضعيف سماع في المتعدي واللازم ، وفيما علمه أقوال : أسماء جميع المخلوقات ، قاله سيبويه ابن عباس وابن جبير ومجاهد وقتادة ، أو اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وعزي إلى ، وهو قريب من الأول ، أو جميع اللغات ، ثم كلم كل واحد من بنيه بلغة فتفرقوا في البلاد ، واختص كل فرقة بلغة أو كلمة واحدة تفرع منها جميع اللغات ، أو أسماء النجوم فقط ، قاله ابن عباس ابن عباس ومجاهد وقتادة ، أو أسماء الملائكة فقط ، قاله ، أو أسماء ذريته ، قاله الربيع بن خيثم الربيع بن زيد ، أو أسماء ذريته والملائكة ، قاله واختاره ; أو أسماء الأجناس التي خلقها ، علمه أن هذا اسمه فرس ، وهذا اسمه بعير ، وهذا اسمه كذا ، وهذا اسمه كذا ، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ، واختاره الطبري ، أو أسماء ما خلق في الأرض ، قاله الزمخشري ابن قتيبة ، أو الأسماء بلغة ثم وقع الاصطلاح من ذريته في سواها ، أو علمه كل شيء حتى نحو ، قاله سيبويه أبو علي الفارسي ، أو أسماء [ ص: 146 ] الله عز وجل ، قاله ، أو أسماء من أسمائه المخزونة ، فعلم بها جميع الأسماء ، قاله الحكيم الترمذي الجريري ، أو التسميات . ومعنى هذا علمه أن يسمي الأشياء ، وليس المعنى علمه الأسماء ; لأن التسمية غير الاسم ، قاله الجمهور ، وحالة تعليمه تعالى آدم ، هل عرض عليه المسميات أو وصفها له ولم يعرضها عليه قولان : قال بعض من عاصرناه : المختار أسماء ذريته ، وعرفه العاصي والمطيع ; ليعرف الملائكة بأسمائهم وأفعالهم ردا عليهم قولهم : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ) ، الأسماء كلها : يحتمل أسماء المسميات ، فحذف المضاف إليه لدلالة الأسماء عليه ، قال : وعوض منه اللام كقوله : ( الزمخشري واشتعل الرأس شيبا ) . انتهى .
وقد تقدم لنا أن اللام عوض من الإضافة ليس مذهب البصريين ، ويحتمل أن يكون التقدير مسميات الأسماء ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويترجح الأول ، وهو تعليق التعليم بالأسماء تعلق الإنباء به في قوله : ( أنبئوني بأسماء هؤلاء ) ، والآية التي بعدها ، ولم يقل : أنبئوني بهؤلاء ، ولا أنبئهم بهم . ويترجح الثاني بقوله ، ثم عرضهم إذا حمل على ظاهره ; لأن الأسماء لا تجمع كذلك ، فدل على عوده على المسميات نحو قوله تعالى : ( أو كظلمات في بحر لجي يغشاه ) ، التقدير : أو كذي ظلمات ، فعاد الضمير من يغشاه على ذي المحذوفة ، القائم مقامها في الإعراب ظلمات . والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أن آدم الأسماء ولم يبين لنا أسماء مخصوصة ، بل دل قوله تعالى : ( كلها ) على الشمول ، والحكمة حاصلة بتعليم الأسماء ، وإن لم تعلم مسمياتها . ويحتمل أن يريد بالأسماء المسميات ، فيكون من إطلاق اللفظ ويراد به مدلوله . الله علم
( ثم عرضهم ) : ثم : حرف تراخ ومهلة ، علم آدم ثم أمهله من ذلك الوقت إلى أن قال : ( أنبئهم بأسمائهم ) ; ليتقرر ذلك في قلبه ويتحقق المعلوم ثم أخبره عما تحقق به واستيقنه . وأما الملائكة فقال لهم على وجه التعقيب دون مهلة ( أنبئوني ) ، فلما لم يتقدم لهم تعريف لم يخبروا ، ولما تقدم لآدم التعليم أجاب وأخبر ونطق إظهارا لعنايته السابقة به سبحانه . عرضهم خلقهم وعرضهم عليهم ، قاله ، أو صورهم لقلوب الملائكة ، أو عرضهم وهم كالذر ، أو عرض الأسماء ، قاله ابن مسعود ، وفيه جمعها بلفظة هم . والظاهر أن ضمير النصب في عرضهم يعود على المسميات ، وظاهره أنه للعقلاء ، فيكون إذ ذاك المعني بالأسماء أسماء العاقلين ، أو يكون فيهم غير العقلاء ، وغلب العقلاء . وقرأ ابن عباس أبي ثم عرضها . وقرأ عبد الله ثم عرضهن ، والضمير عائد على الأسماء ، فتكون هي المعروضة ، أو يكون التقدير مسمياتها ، فيكون المعروض المسميات لا الأسماء . ( على الملائكة ) : ظاهره العموم ، فقيل : هو مراد ، وقيل : الملائكة الذين كانوا مع إبليس في الأرض . ( فقال ) : الفاء : للتعقيب ، ولم يتخلل بين العرض والأمر مهلة بحيث يقع فيها ترو أو فكر ، وذلك أجدر بعدم الإضافة .
( أنبئوني ) : أمر تعجيز لا تكليف . وقرأ : أنبوني ، بغير همز ، وقد استدل بقوله : أنبئوني على جواز تكليف ما لا يطاق ، وهو استدلال ضعيف ; لأنه على سبيل التبكيت ، ويدل عليه : ( الأعمش إن كنتم صادقين ) . ( بأسماء هؤلاء ) : ظاهره حضور أشخاص حالة العرض على الملائكة ، ومن قال : إن المعروض إنما هي أسماء فقط ، جعل الإشارة إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة ، إذ قد حضر ما هو منها بسبب وذلك أسماؤها وكأنه قال لهم في كل اسم لأي شخص هذا الاسم ، وهذا فيه بعد وتكلف وخروج عن الظاهر بغير داعية إلى ذلك .
( إن كنتم صادقين ) : شرط جوابه محذوف تقديره فأنبئوني يدل عليه أنبئوني السابق ، ولا يكون أنبئوني السابق هو الجواب ، هذا مذهب وجمهور البصريين ، وخالف الكوفيون سيبويه وأبو زيد وأبو العباس ، فزعموا أن جواب الشرط هو المتقدم في نحو هذه المسألة ، هذا هو النقل المحقق ، وقد وهم المهدوي ، وتبعه ابن عطية ، فزعما أن جواب الشرط محذوف عند ، التقدير : ( فأنبئوني ) ، إلا إن كانا اطلعا على نقل آخر غريب عن المبرد يخالف مشهور ما حكاه الناس ، فيحتمل . وكذلك وهم المبرد ابن عطية [ ص: 147 ] وغيره ، فزعما أن مذهب تقديم الجواب على الشرط ، وأن قوله : ( سيبويه أنبئوني ) المتقدم هو الجواب . والصدق هنا هو الصواب ، أي إن كنتم مصيبين ، كما يطلق الكذب على الخطأ ، كذلك يطلق الصدق على الصواب . ومتعلق الصدق فيه أقوال : ( إن كنتم صادقين ) ، إني لا أخلق خلقا ، لا كنتم أعلم منه ; لأنه هجس في أنفسهم أنهم أعلم من غيرهم ، أو فيما زعمتم أن خلفائي يفسدون في الأرض ، أو فيما وقع في نفوسكم أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أفضل منه ، أو بأمور من أستخلفهم بعدكم ، أو إني إن استخلفتكم فيها سبحتموني وقدستموني ، وإن استخلفت غيركم فيها عصاني ، أو في قولكم : إنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون له وتقومون به ، قاله ابن مسعود ، أو في ذلك إنباء ، وجواب السؤال بالأسماء ، روي أن الملائكة حين خلق الله وابن عباس آدم قالت : يخلق ربنا ما شاء ، فلن يخلق خلقا أعلم منا ولا أكرم عليه . فأراد أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا ، قالوا : ولقوله إن كنتم صادقين ، لم يجز لهم الاجتهاد ; إذ لو لم يقيد بالصدق ، وهو الإصابة ، لجاز الاجتهاد ، كما جاز للذي قال له : كم لبثت ؟ ولم يشرط عليه الإصابة فلم يصب ولم يعنف . وأبعد من ذهب إلى أن الصدق هنا ضد الكذب المتعارف ; لعصمة الملائكة ، كما أبعد من جعل إن بمعنى إذ ، فأخرجها عن الشرطية إلى الظرفية . وإذا التقت همزتان مكسورتان من كلمتين نحو : هؤلاء إن كنتم ، وقنبل يبدلان الثانية ياء ممدودة ، إلا أن فورش في ( ورشا هؤلاء إن كنتم ) و ( على البغاء إن أردن ) يجعل الياء مكسورة ، وقالون يلينان الأولى ويحققان الثانية ، وعنهما في ( والبزي بالسوء إلا ) وجوه : أحدها : هذا الأصل الذي تقرر لهما . الثاني : إبدال الهمزة الأولى واوا مكسورة وإدغام الواو الساكنة قبلها فيها وتحقيق الثانية . الثالث : إبدال الهمزة الأولى ياء ، نحو : ( بالسوي ) . الرابع : إبدالها واوا من غير إدغام ، نحو : السوو . وقرأ أبو عمرو : بحذف الأولى ، وقرأ الكوفيون وابن عامر : بتحقيق الهمزتين .