( وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ) لما نص على المحرمات في النكاح أخبر تعالى أنه أحل ما سوى من ذكر ، وظاهر ذلك العموم . وبهذا الظاهر استدلت الخوارج ومن وافقهم من الشيعة على جواز . وقد أطال الاستدلال في ذلك نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها ، والجمع بينهما أحد علماء الشيعة الاثني عشرية في كتابه في التفسير ، وملخص ما قال : أنه لا يعارض القرآن بخبر آحاد . وهو ما روي أنه قال : ( أبو جعفر الطوسي ) بل إذا ورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على القرآن ، فإن وافقه قبل ، وإلا رد . وما ذهبوا إليه ليس بصحيح ، لأن الحديث لم يعارض القرآن ، غاية ما فيه تخصيص عموم ، ومعظم العمومات التي جاءت في القرآن لا بد فيها من التخصيصات ، وليس الحديث خبر آحاد بل هو مستفيض ، روي عن جماعة من الصحابة رواه : لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها علي ، ، و وابن عباس جابر ، ، وابن عمر وأبو موسى ، وأبو سعيد ، ، و وأبو هريرة عائشة . حتى ذكر بعض العلماء أنه متواتر موجب للعلم والعمل . وذكر ابن عطية : إجماع الأمة على تحريم الجمع ، وكأنه لم يعتد بخلاف من ذكر لشذوذه ، ولا يعد هذا التخصيص نسخا للعموم خلافا لبعضهم . وقد خصص بعضهم هذا العموم بالأقارب من غير ذوات المحارم كأنه قيل : وأحل لكم ما وراء ذلكم من أقاربكم ، فهي حلال لكم تزويجهن ، وإلى هذا ذهب عطاء والسدي ، وخصه بالإماء : أي : وأحل لكم ما وراء ذلكم من الإماء . وأبعد السدي عبيدة والسدي في رد ذلك إلى مثنى وثلاث ورباع والمعنى : وأحل لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح . وقال أيضا في قوله : السدي ما وراء ذلكم يعني النكاح فيما دون الفرج . والظاهر العموم إلا ما خصته السنة المستفيضة من [ ص: 216 ] تحريم ، فيندرج تحت هذا العموم الجمع بين المرأة وبنت عمها ، وبينها وبين بنت عمتها ، وبينها وبين بنت خالها ، أو بنت خالتها . وقد روي المنع من ذلك عن : الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ، و إسحاق بن طلحة عكرمة ، وقتادة ، و عطاء . وقد نكح حسن بن حسين بن علي في ليلة واحدة بنت محمد بن علي ، وبنت عمر بن علي ، فجمع بين ابنتي عم . وقد كره مالك هذا ، وليس بحرام عنده .
قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا ، أبطل هذا النكاح وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح ، غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ، ولا إجماع ، وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة . انتهى . واندرج تحت هذا العموم أيضا أنه لو زنا بامرأة لم يحرم عليه نكاحها لأجل زناه بها ، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها . ولو زنا بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم يحرما عليه بذلك ، وعلى هذا أكثر أهل العلم . وروي عن عمران بن حصين ، و والشعبي عطاء ، و الحسن ، و سفيان ، و أحمد ، و إسحاق ، أنهما يحرمان عليه ، وبه قال أبو حنيفة . ويندرج أيضا تحت هذا العموم : أنه لو عبث رجل برجل لم تحرم عليه أمه ولا ابنته ، وبه قال : مالك وأبو حنيفة وأصحابه ، قالوا : لا يحرم النكاح العبث بالرجال . وقال والشافعي ، و الثوري عبيد الله بن الحسن : هو مثل وطء المرأة سواء في تحريم الأم والبنت ، فمن حرم بهذا من النساء حرم من الرجال . وقال في غلامين : يعبث أحدهما بالآخر فتولد للمفعول به جارية قال : لا يتزوجها الفاعل . الأوزاعي
وقرأ حمزة والكسائي وحفص : وأحل مبنيا للمفعول ، وهو معطوف على قوله : ( حرمت عليكم ) . وقرأ باقي السبعة : ( وأحل ) مبنيا للفاعل ، والفاعل ضمير يعود على الله تعالى ، وهو أيضا معطوف على قوله : حرمت . ولا فرق في العطف بين أن يكون الفعل مبنيا للفاعل ، أو للمفعول . ولا يشترط المناسبة ولا يختار ، وإن اختلف الفاعل المحذوف لقيام المفعول مقامه ، والفاعل الذي أسند إليه الفعل المبني للفاعل ، فكيف إذا اتحد كهذا ، لأنه معلوم أن الفاعل المحذوف في ( حرمت ) : هو الله تعالى ، وهو الفاعل المضمر في : ( أحل ) المبني للفاعل .
وقال : فإن قلت : علام عطف قوله : وأحل لكم ؟ قلت : على الفعل المضمر الذي نصب الزمخشري كتاب الله : أي كتب الله عليكم تحريم ذلك ، وأحل لكم ما وراء ذلكم . ويدل عليه قراءة اليماني : كتب الله عليكم ، وأحل لكم . ثم قال : ومن قرأ وأحل لكم على البناء للمفعول ، فقد عطفه على : حرمت عليكم انتهى كلامه . ففرق في العطف بين القراءتين ، وما اختاره من التفرقة غير مختار . لأن انتصاب كتاب الله عليكم إنما هو انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله : حرمت ، فالعامل فيه وهو ( كتب ) ، إنما هو تأكيد لقوله : حرمت ، فلم يؤت بهذه الجملة على سبيل التأسيس للحكم ، إنما التأسيس حاصل بقوله : حرمت ، وهذه جيء بها على سبيل التأكيد لتلك الجملة المؤسسة وما كان سبيله هكذا فلا يناسب أن يعطف عليه الجملة المؤسسة للحكم ، إنما يناسب أن يعطف على جملة مؤسسة مثلها ، لا سيما والجملتان متقابلتان : إذ إحداهما للتحريم ، والأخرى للتحليل ، فناسب أن يعطف هذه على هذه . وقد أجاز ذلك في قراءة من قرأ : وأحل مبنيا للمفعول ، فكذلك يجوز فيه مبنيا للفاعل ، ومفعول ( أحل ) هو الزمخشري ما وراء ذلكم .
قال ابن عطية : والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات ، فهو وراء أولئك بهذا الوجه . وقال الفراء : ما وراء ذلكم ، أي : ما سوى ذلكم . وقال : ما دون ذلكم ، أي : ما بعد هذه الأشياء التي حرمت . وهذه التفاسير بعضها يقرب من بعض . الزجاج
وموضع ( أن تبتغوا ) نصب على أنه بدل اشتمال من ( ما وراء ذلكم ) ، ويشمل الابتغاء بالمال النكاح والشراء . وقيل : الابتغاء بالمال هو على وجه النكاح . وقال : ( أن تبتغوا ) مفعول له ، بمعنى : بين لكم ما يحل مما يحرم ؛ [ ص: 217 ] إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم التي جعل الله لكم قياما في حال كونكم محصنين غير مسافحين لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم ، فتخسروا دنياكم ودينكم ، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين . انتهى كلامه . وانظر إلى جعجعة هذه الألفاظ وكثرتها ، وتحميل لفظ القرآن ما لا يدل عليه ، وتفسير الواضح الجلي باللفظ المعقد ، ودس مذهب الاعتزال في غضون هذه الألفاظ الطويلة دسا خفيا إذ فسر قوله : وأحل لكم بمعنى بين لكم ما يحل . وجعل قوله : أن تبتغوا على حذف مضافين : أي إرادة أن يكون ابتغاؤكم ، أي : إرادة كون ابتغائكم بأموالكم . وفسر الأموال بعد بالمهور ، وما يخرج في المناكح ، فتضمن تفسيره : أنه تعالى بين لكم ما يحل لإرادته كون ابتغائكم بالمهور ، فاختصت إرادته بالحلال الذي هو النكاح دون السفاح . وظاهر الآية غير هذا الذي فهمه الزمخشري . إذ الظاهر أنه تعالى أحل لنا ابتغاء ما سوى المحرمات السابق ذكرها بأموالنا حالة الإحصان ، لا حالة السفاح . وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يعرب ( أن تبتغوا ) مفعولا له ، كما ذهب إليه الزمخشري ، لأنه فات شرط من شروط المفعول له ، وهو اتحاد الفاعل في العامل والمفعول له . لأن الفاعل بقوله : ( وأحل ) هو الله تعالى . والفاعل في : ( أن تبتغوا ) هو ضمير المخاطبين ، فقد اختلفا . ولما أحس الزمخشري إن كان أحس بهذا ؛ جعل ( الزمخشري أن تبتغوا ) على حذف إرادة حتى يتحد الفاعل في قوله : ( وأحل ) ، وفي المفعول له ، ولم يجعل أن تبتغوا مفعولا له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه ، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك . ومفعول ( تبتغوا ) محذوف اختصارا ، إذ هو ضمير يعود على ( ما ) من قوله : ما وراء ذلكم ، وتقديره : أن تبتغوه .
وقال : فإن قلت : أين مفعول ( تبتغوا ) ؟ قلت : يجوز أن يكون مقدرا وهو النساء ، وأجود ألا يقدر . وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم . انتهى كلامه . فأما تقديره : إذا كان مقدرا بالنساء فإنه لما جعله مفعولا له غاير بين متعلق المفعول له وبين متعلق المعلول . وأما قوله : وأجود أن لا يقدر ، وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم ، فهو مخالف للظاهر ، لأن مدلول تبتغوا ليس مدلول تخرجوا ، ولأن تعدي تبتغوا إلى الأموال بالباء ليس على طريق المفعول به الصريح ، كما هو في ( تخرجوا ) ، وهذا كله تكلف ينبغي أن ينزه كتاب الله عنه . الزمخشري
وظاهر قوله : بأموالكم ، أنه يطلق على ما يسمى مالا وإن قل ، وهو قول أبي سعيد ، و الحسن ، ، و وابن المسيب عطاء ، و الليث ، ، و وابن أبي ليلى ، و الثوري ، الحسن بن صالح ، و والشافعي ربيعة ، قالوا : . وقيل : لا مهر أقل من عشرة دراهم ، وروي عن يجوز النكاح على قليل المال وكثيره علي ، و ، و الشعبي النخعي ، في آخرين من التابعين . وهو قول : أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، و زفر ، و الحسن ، و . وقال محمد بن زياد مالك : ربع دينار أو ثلاثة دراهم . وقال أقل المهر أبو بكر الرازي : من كان له درهم أو درهمان لا يقال عنده مال ، وظاهر قوله : بأموالكم يدل على أنه لا يجوز أن يكون المهر منفعة ، لا تعليم قرآن ولا غيره ، وقد أجاز أن يكون المهر خدمتها مدة معلومة - جماعة من العلماء ، ولهم في ذلك تفصيل . وأجاز أن يكون تعليم سورة من القرآن - ، ومنع من ذلك : الشافعي مالك والليث ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وحججهم في كتب الفقه وفي كتب أحكام القرآن .
والإحصان : الفقه ، وتحصين النفس عن الوقوع في الحرام . وانتصب محصنين على الحال ، و غير مسافحين حال مؤكدة ، لأن الإحصان لا يجامع السفاح وكذلك قوله : ( ولا متخذي أخدان ) والمسافحون هم الزانون المبتذلون ، وكذلك المسافحات هن الزواني المبتذلات اللواتي هن سوق للزنا .
[ ص: 218 ] ومتخذو الأخدان هم الزناة المتسترون الذين يصحبون واحدة واحدة ، وكذلك متخذات الأخدان هن الزواني المتسترات اللواتي يصحبن واحدا واحدا ، ويزنين خفية . وهذان نوعان كانا في زمن الجاهلية قاله : ، و ابن عباس ، الشعبي والضحاك ، وغيرهم . وأصل المسافح من السفح ، وهو الصب للمني . وكان الفاجر يقول للفاجرة : سافحيني وماذييني من المذي .