ودلت هذه الكيفية التي ذكرت في هذه الآية على أن طائفة صلت مع الرسول بعض صلاة ، ولا دلالة فيها على مقدار ما صلت معه ، ولا كيفية إتمامهم ؛ وإنما جاء ذلك في السنة .
ونحن نذكر تلك الكيفيات على سبيل الاختصار ; لأنها مبينة ما أجمل في القرآن . الكيفية الأولى : صلت طائفة معه ، وطائفة وجاه العدو ، وثبتت قائمة حتى تتم صلاتهم ، ويذهبوا وجاه العدو ، وجاءت هذه التي كانت وجاه العدو أولا فصلى بهم الركعة التي بقيت ، ثم ثبت جالسا حتى أتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وهذه كانت بذات الرقاع . الكيفية الثانية : كالأولى ، إلا أنه حين صلى بالطائفة الأخيرة ركعة سلم ، ثم قضت بعد سلامه . وهذه مروية في ذات الرقاع أيضا . الكيفية الثالثة : صف العسكر خلفه صفين ، ثم كبر ، وكبروا جميعا ، وركعوا معه ، ورفعوا من الركوع جميعا ، ثم سجد هو بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ؛ فلما سجدوا ، وقاموا سجد الآخرون في مكانهم ، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين ، وتأخر المتقدمون إلى مصاف المتأخرين ، ثم ركعوا معه جميعا ، ثم سجد فسجد معه الصف الذي يليه ؛ فلما صلى سجد الآخرون ، ثم سلم بهم جميعا . وهذه صلاته بعسفان والعدو في قبلته . الكيفية الرابعة : مثل هذا إلا أنه قال : ينكص الصف المتقدم القهقرى حين يرفعون رءوسهم من السجود ، ويتقدم الآخر فيسجدون في مصاف الأولين . الكيفية الخامسة : صلى بإحدى الطائفتين ركعة والأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا ، وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم سلم ، ثم قضى بهؤلاء ركعة ، وهؤلاء ركعة في حين واحد .
الكيفية السادسة : يصلي بطائفة ركعة ثم ينصرفون تجاه العدو ، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يسلم ، وتقوم التي معه تقضي ، فإذا فرغوا ساروا تجاه العدو ، وقضت الأخرى . الكيفية السابعة : صلى بكل طائفة ركعة ، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئا زائدا على ركعة واحدة . الكيفية الثامنة : صلى بكل طائفة ركعتين ركعتين ، فكانت له أربع ، ولكل رجل ركعتان . الكيفية التاسعة : يصلي بإحدى الطائفتين ركعة ؛ إن كانت الصلاة ركعتين والأخرى بإزاء العدو ، ثم تقف هذه بإزاء العدو ، وتأتي الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءة ، وتتم صلاتها ثم تحرس ، وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة ، [ ص: 341 ] وتتم صلاتها ، وكذا في المغرب . إلا أنه يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة . الكيفية العاشرة : قامت معه طائفة ، وطائفة أخرى مقابل العدو ، وظهورهم إلى القبلة ؛ فكبرت الطائفتان معه ، ثم ركع ، وركع معه الذين معه ، وسجدوا كذلك ، ثم قام فصارت التي معه إلى إزاء العدو ، وأقبلت التي كانت بإزاء العدو فركعوا ، وسجدوا ، وهو قائم كما هو ، ثم قاموا فركع ركعة أخرى ، وركعوا معه ، وسجدوا معه ، ثم أقبلت التي بإزاء العدو فركعوا وسجدوا ، وهو قاعد ، ثم سلم وسلم الطائفتان معه جميعا . وهذه كانت في غزوة نجد . الكيفية الحادية عشرة : صلى بطائفة ركعتين ثم سلم ، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعتين وسلم .
وهذه كانت ببطن نخل . واختلاف هذه الكيفيات يرد على مجاهد قوله : إنه ما صلى الرسول إلا مرتين : مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم ، ومرة بعسفان والمشركون بضخيان بينهم وبين القبلة . وذكر : أنه كان في غزوة ابن عباس ذي قرد صلاة الخوف . وقال : روي عنه أنه صلى أبو بكر بن العربي أربعا وعشرين مرة ، يعني كيفية . وقال صلاة الخوف : لا نعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت صحيح ؛ فعلى أي حديث صليت أجزأ . وكذا قال ابن حنبل . وجمع في الأخذ بين الحذر والأسلحة ؛ فإنه جعل الحذر أنه يحترز بها كما يحترز بالأسلحة كما جاء : ( الطبري تبوءوا الدار والإيمان ) جعل الإيمان مستقرا لتمكنهم فيه .
( ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ) تقدم الكلام في ( لو ) بعد ( ود ) في قوله : ( يود أحدهم لو يعمر ) أي : يشدون عليكم شدة واحدة : وقرئ : وأمتعاتكم ، وهو شاذ إذ هو جمع الجمع كما قالوا : أشقيات وأعطيات في أشقية وأعطية ، جمع شقاء وعطاء . وفي هذا الإخبار تنبيه وتحذير من الغفلة ، وأفرد المسألة ؛ لأنها أبلغ في الإيصال .
( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ) قال : نزلت بسبب ابن عباس ؛ كان مريضا فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس . ولما كانت هاتان الحالتان مما يشق حمل السلاح فيهما ، ورخص في ذلك للمريض لأن حمله السلاح مما يكره به ويزيد في مرضه . ورخص في ذلك إن كان مطر ، لأن المطر مما يثقل العدو ويمنعه من خفة الحركة للقتال . وقال : إن يتأذوا من مطر إلا لحق الكفار من أذاه ما لحق المسلمين غالبا إن كانا متقاربين في المسافة . ومرض إما لجراحة سبقت ، أو لضعف بنية ، أو غير ذلك مما يعد مرضا . وتكرير الأمر بأخذ الحذر في الصلاة . وفي هاتين الحالتين مما يدل على توكيد التأهب والاحتراز من العدو ؛ فإن الجيش كثيرا ما يصاب من التفريط في الحذر . وقال عبد الرحمن بن عوف الضحاك في قوله : وخذوا حذركم ، أي : تقلدوا سيوفكم ؛ فإن ذلك حذر الغزاة .
( إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ) قال : الأمر بالحذر من العدو يوهم توقع غلبة واغترار ؛ فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أن الله يهين عدوهم ويخذلهم وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم ، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لذلك ؛ وإنما هو تعبد من الله ، كما قال : ( الزمخشري ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) . ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ) الظاهر أن معنى قضيتم الصلاة ; أي فرغتم منها . والصلاة هنا صلاة الخوف وإلى ذلك ذهب الجمهور ، وكذا فسره . والذكر المأمور به هنا هو الذكر باللسان إثر صلاة الخوف على حد ما أمروا به عند قضاء المناسك بذكر الله ، فأمروا بذكر الله من : التهليل والتكبير والتسبيح والدعاء بالنصر والتأييد في جميع الأحوال ؛ فإن ما هم فيه من ارتقاب مقارعة العدو حقيق بالذكر والالتجاء إلى الله ; أي فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ; أي أتموها . وذهب قوم إلى أن معنى قضيتم الصلاة : تلبستم بالصلاة ، [ ص: 342 ] وشرعتم فيها . ومعنى الأمر بالذكر ; أي صلوها ( قياما ) في حال المسايفة والاختلاط ( وقعودا ) جاثين على الركب من أنين ، ( ابن عباس وعلى جنوبكم ) مثخنين بالجراح ؛ فهي هيآت لأحوال على حسب تفصيلها . فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها وآمنتم ؛ فأقيموا الصلاة ; أي فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج ؛ وبهذا الوجه بدأ ، وهو خلاف الظاهر . قال : وهذا ظاهر على مذهب الزمخشري في إيجابه الصلاة على المحارب في حال المسايفة والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها ؛ فإذا اطمأن فعليه القضاء ، وأما عند الشافعي أبي حنيفة فهو معذور في تركها إلى أن يطمئن . وقيل قوله : فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا أنه أمر بالصلاة حالة الأمن بعد الخوف قياما للأصحاء ( وقعودا ) للعاجزين عن القعود لزمانة أو جراحة أو مرض لا يستطيع القعود معها ؛ فإذا اطمأننتم ; أي أمنتم من الخوف قاله قتادة والسدي ؛ فأقيموا الصلاة ; أي صلوها لا كصلاة الخوف ، بل كصلاة الأمن في السفر . وقيل فإذا اطمأننتم ; أي فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر ، فأقيموها تامة أربعا .
( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) ; أي واجبة في أوقات معلومة ؛ قاله ، ابن مسعود ، وابن عباس ومجاهد ، والسدي ، وقتادة ، ، وزيد بن أسلم وابن قتيبة . ولم يقل موقوتة ; لأن الكتاب مصدر ؛ فهو مذكر . وروي عن : أن المعنى فرضا مفروضا ؛ فهما لفظان بمعنى واحد والظاهر الأول ; أي فرضا منجما في أوقات . وقال ابن عباس أبو عبد الله الرازي : أجمل هنا تلك الأوقات ، وفسرها في أوقات خمسا ، وتوقيتها بأوقات خمسة في نهاية الحسن نظرا إلى المعقول ; لأن الحوادث لها مراتب خمس : مرتبة الحدوث ، ومرتبة الوقوف ، ومرتبة الكهولة . وفيها نقصان خفي ، ومرتبة الشيخوخة والخامسة : أن تبقى آثاره بعد موته مدة ثم تمحى . وهذه المراتب حصلت للشمس بحسب طلوعها وغروبها ، فأوجب الله عند كل مرتبة من أحوالها الخمس صلاة انتهى . ما لخصناه من كلامه ، وطول هو كثيرا في شيء لا يدل عليه القرآن ، ولا تقتضيه لغة العرب ؛ ذكر ذلك في تفسيره فمن أراده فليطالعه فيه . ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ) قيل نزلت في الجهاد مطلقا . وقيل في انصراف الصحابة من أحد ، وكان الرسول أمرهم باتباع أبي سفيان وأصحابه ، أمر أن لا يخرج إلا من كان معه في أحد ، فشكوا بأن فيهم جراحات . وهذه الآية تشير إلى أن القضاء في قوله : ( فإذا قضيتم الصلاة ) إنما هو قضاء صلاة الخوف .
وقرأ الحسن : تهنوا بفتح الهاء ، وهي لغة . فتحت الهاء كما فتحت دال يدع ، جل حرف الحلق والمعنى : ولا تضعفوا أو تخوروا جبنا في طلب القوم . وقرأ : ولا تهانوا من الإهانة . نهوا عن أن يقع منهم ما يترتب عليه إهانتهم من كونهم يجنون على أعدائهم فيهانون كقولهم : " لا أريناك هاهنا " ، ثم شجعهم على طلب القوم وألزمهم الحجة ؛ فإن ما فيهم من الألم مشترك وتزيدون عليهم أنكم ترجون من الله الثواب ، وإظهار دينه بوعده الصادق ، وهم لا يرجونه ؛ فينبغي أن تكونوا أشجع منهم وأبعد عن الجبن . وإذا كانوا يصبرون على الآلام والجراحات والقتل ، وهم لا يرجون ثوابا في الآخرة ؛ فأنتم أحرى ؛ إن تصبروا . ونظير ذكر هذا الأمر المشترك فيه قول الشاعر : عبيد بن عمير
قاتلوا القوم يا خداع ولا يأخذكم من قتالهم قتل القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
أي لم يخف . وزعم الفراء أن الرجاء لا يكون بمعنى الخوف إلا مع النفي ، ولا يقال رجوتك بمعنى خفتك . وقرأ : أن تكونوا بفتح الهمزة على المفعول من أجله . وقرأ الأعرج ابن السميفع : تئلمون بكسر التاء . وقرأ ابن وثاب : تئلمون بكسر تاء المضارعة فيهما ويائهما ، وهي لغة . ومنصور بن المعتمر( وكان الله عليما حكيما ) ; أي عليما بنياتكم ؛ حكيما فيما يأمركم به وينهاكم عنه . ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) طول المفسرون في سبب النزول ، ولخصنا منه انتهاء ما في قول قتادة وغيره . نزلت في طعمة بن أبيرق ؛ سرق درعا في جراب فيه دقيق لقتادة بن النعمان ، وخبأها عند يهودي ، فحلف طعمة ما لي بها علم ، فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار اليهودي ؛ فقال اليهودي : دفعها إلي طعمة . وقيل استودع يهودي درعا فخانه ، فلما خاف اطلاعهم عليها ألقاها في دار أبي مليك الأنصاري . قال : وقيل السلاح والطعام كان السدي لرفاعة بن زيد عم قتادة ، وأن بني أبيرق نقبوا مشربيته وأخذوا ذلك ، وهم بشير بضم الباء ومبشر وبشر ، وأوهموا أن فاعل ذلك ه و لبيد بن سهل ، فشكاهم قتادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الرسول هم أن يجادل عن طعمة أو عن أبيرق ، ويقال فيه : طعيمة .
وقال الكرماني : أجمع المفسرون على أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر بن الحارث إلا ابن بحر ؛ فإنه قال : نزلت في المنافقين ، وهو متصل بقوله : ( فما لكم في المنافقين فئتين ) ، انتهى . وفي هذه الآية تشريف للرسول ، وتفويض الأمور إليه بقوله : لتحكم بين الناس بما أراك الله .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما صرح بأحوال المنافقين ، واتصل بذلك أمر المحاربة ، وما يتعلق بها من الأحكام الشرعية رجع إلى أحوال المنافقين ؛ فإنهم خانوا الرسول على ما لا ينبغي ، فأطلعه الله على ذلك ، وأمره أن لا يلتفت إليهم ، وكان بشير منافقا ويهجو الصحابة ، وينحل الشعر لغيره ، وأما طعمة فارتد ، وأنه لما بين الأحكام الكثيرة عرف أن كلها من الله ، وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قوم . أو أنه : لما أنه يجاهد الكفار أنه لا يجوز إلحاق ما لم يفعلوا بهم ، وأن كفره لا يبيح المسامحة في النظر إليه ، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه ، بما أنزل الله ، ولا يلحق به حيف لأجل أن يرضي المنافق .
والكتاب هنا القرآن . ومعنى بالحق ; أي لا عوج فيه ، ولا ميل . والناس هنا عام ، وبما أراك الله بما أعلمك من الوحي . وقيل بالنظر الصحيح فإنه محروس في اجتهاده ، معصوم في الأقوال والأفعال . وقيل بما ألقاه في قلبك من أنوار المعرفة وصفاء الباطن . وعن عمر : لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله ؛ فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه ; لأن الرأي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا ; لأن الله تعالى كان يريه إياه ، وهو منا الظن والتكليف دون الإهمال ، أو بما له عاقبة حميدة ; لأن ما ليس كذلك عبث وباطل . وقال الماتريدي : بالحق ; أي موافقا لما هو الحق على العباد ولما لبعضهم على بعض ليعلموا بذلك ، أو بيانا لأمره . وحق كائن ثابت ، وهو البعث والقيامة ليتزودوا له . أو بما يحمل عليهم فاعله ، أو بالعدل والصدق على الأمن من التغيير والتبديل . بما أراك الله : فيه دليل جواز اجتهاده ، واجتهاده كالنص ; لأن الله تعالى أخبر أنه يريه ذلك أو لا يريه غير الصواب ، انتهى كلامه .
( ولا تكن للخائنين خصيما ) ; أي مخاصما ، كجليس بمعنى مجالس ، قاله الزجاج والفارسي ، وغيرهما . ويحتمل أن يكون للمبالغة من خصم والخائنون جمع . فإن بني أبيرق الثلاثة هم الذين نقبوا المشربة ؛ فظاهر إطلاق الجمع عليهم ، وإن كان وحده هو الرجل الذي خان في الدرع أو سرقها ؛ فجاء الجمع باعتباره ، واعتبار من شهد له بالبراءة من قومه كأسيد بن عروة ، ومن تابعه ممن زكاه ؛ فكانوا شركاء له في الإثم ؛ خصوصا من يعلم أنه هو السارق . أو جاء الجمع [ ص: 344 ] ليتناول طعمة ، وكل من خان خيانته ، فلا يخاصم لخائن قط ، ولا يحاول عنه . وخصيما يحتاج متعلقا محذوفا ; أي البراء . والبريء مختلف فيه حسب الاختلاف في السبب : أهو اليهودي الذي دفع إليه طعمة الدرع وه و زيد بن السمين ، أو أبو مليك الأنصاري ؟ وهو الذي ألقى طعمة الدرع في داره لما خاف الافتضاح ، أو لبيد بن سهل ؟ وقال وكان يهوديا . وذكر المهدوي أنه كان مسلما . وأدخله يحيى بن سلام في كتاب الصحابة ؛ فدل على إسلامه كما ذكر أبو عمرو بن عبد البر المهدوي . ولما نزلت هذه الآيات هرب طعمة إلى مكة ، وارتد ونزل على سلافة ، فرماها حسان به في شعر قاله ، ومنه :
وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ينازعها جلد استها وتنازعه
ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتمو وفينا نبي عنده الوحي واضعه
( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ) هذا عام يندرج فيه أصحاب النازلة ، ويتقرر به توبيخهم . واختيان الأنفس هو مما يعود عليها من العقوبة في الآخرة والدنيا ، كما جاء نسبة ظلمهم لأنفسهم . والنهي عن الشيء لا يقتضي أن يكون المنهي ملابسا للمنهي عنه . وروى عن العوفي : أن الرسول خاصم عن ابن عباس طعمة ، وقام يعذر خطيبا . وروى قتادة : أنه هم بذلك ، ولم يفعله . وابن جبير
( إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ) أتى بصيغة المبالغة في الخيانة والإثم ليخرج منه من وقع منه المرة ، ومن صدرت منه الخيانة على سبيل الغفلة وعدم القصد . وفي صفتي المبالغة دليل على إفراط طعمة في الخيانة ، وارتكاب المآثم . وقيل إذا عثرت من رجل سيئة فاعلم أن لها أخوات . وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق ؛ فجاءت أمه تبكي ، وقالت : هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه فقال : كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة . وتقدمت صفة الخيانة على صفة المآثم ; لأنها سبب للإثم خان فأثم ، ولتواخي الفواصل .
( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ) الضمير في يستخفون الظاهر : أنه يعود على الذين يختانون ، وفي ذلك توبيخ عظيم وتقريع ؛ حيث يرتكبون المعاصي مستترين بها عن الناس ، إن اطلعوا عليها ، ودخل معهم في ذلك من فعل مثل فعلهم . وقيل الضمير يعود على الصنف المرتكب للمعاصي ، ويندرج هؤلاء فيهم ، وهم أهل الخيانة المذكورة والمتناصرون لهم . وقيل يعود على ( من ) باعتبار المعنى ، وتكون الجملة نعتا . وهو معهم ; أي عالم بهم مطلع عليهم ، لا يخفى عنه تعالى شيء من أسرارهم ، وهي جملة حالية . قال : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم عليه من قلة الحياء والخشية من ربهم مع علمهم ، إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة ، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح ، انتهى . وهذا كقول الشاعر : الزمخشري
[ ص: 345 ]
يا للعجاج لمن يعصي ويزعم إذ قد آمنوا بالذي جاءت به الرسل
أتى بجامع إيمان لمعصية كلا أماني كذب ساقها الأمل
( وكان الله بما يعملون محيطا ) كناية عن المبالغة في العلم . ولما كانت قصة طعمة جمعت بين عمل وقول ؛ جاء وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ، فنبه على أنه عالم بأقوالهم وأعمالهم . وتضمن ذلك الوعيد الشديد والتقريع البالغ ; إذ كان تعالى محيطا بجميع الأقوال والأعمال ؛ فكان ينبغي أن تستر القبائح عنه بعدم ارتكابها .
( ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمن يكون عليهم وكيلا ) تقدم الكلام على ( هاأنتم هؤلاء ) ، وعلى الجملة بعدها ، قراءة وإعرابا في سورة آل عمران والخطاب للذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي ، ويندرج في هذا العموم أهل النازلة . والأظهر أن يكون ذلك خطابا للمتعصبين في قصة طعيمة ، ويندرج فيه من عمل عملهم . ويقوي ذلك أن هؤلاء إشارة إلى حاضرين . وقرأ عبد الله عنه في الموضعين أي عن طعمة . وفي قوله : فمن يجادل الله عنهم وعيد محض ; أي إن الله يعلم حقيقة الأمر ؛ فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره . ومعنى هذا الاستفهام النفي ; أي لا أحد يجادل الله عنهم يوم القيامة إذا حل بهم عذابه . والوكيل : الحافظ المحامي والذي يكل الإنسان إليه أموره . وهذا الاستفهام معناه النفي أيضا ؛ كأنه قال : لا أحد يكون وكيلا عليهم فيدافع عنهم ويحفظهم . وهاتان الجملتان انتفى في الأولى منهما المجادلة ، وهي المدافعة بالفعل والنصرة بالقوة .