وهذه الآية هي في ناس مشركين ليسوا بأهل كتب ولا علوم ؛ ومع ذلك فقد جاءهم بالهدى من الله وبان لهم طريق الرشد ؛ فأشركوا بالله ، فضلوا بذلك ضلالا يستبعد وقوعه ، أو يبعد عن الصواب . ولذلك جاء بعده : ( إن يدعون من دونه إلا إناثا ) ، وجاء بعد تلك : ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ) ، وقوله : ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) ، ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد بهم اليهود ، وإن كان اللفظ عاما . ولما كان الشرك من أعظم الكبائر ؛ كان الضلال الناشئ عنه بعيدا عن الصواب ; لأن غيره من المعاصي ، وإن كان ضلالا لكنه قريب من أن يراجع صاحبه الحق ; لأن له رأس مال يرجع إليه ، وهو الإيمان ، بخلاف المشرك . ولذلك قال تعالى : ( يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد ) ، وناسب هنا ذكر الضلال لتقدم الهدى قبله .
( إن يدعون من دونه إلا إناثا ) المعنى : ما يعبدون من دون الله ، ويتخذونه إلها إلا مسميات تسمية الإناث . وكنى بالدعاء عن العبادة ; لأن من عبد شيئا دعاه عند حوائجه ومصالحه . وكانوا يحلون الأصنام بأنواع الحلي ويسمونها أنثى ، وإناث جمع أنثى كرباب جمع ربى . قال ابن عباس والحسن وقتادة : المراد الخشب والحجارة ؛ فهي مؤنثات لا تعقل ؛ فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء . فيجيء قوله ( إلا إناثا ) عبارة عن الجمادات . وقال أبو مالك والسدي وابن زيد وغيرهم : كانت العرب تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة كاللات [ ص: 352 ] والعزى ومناة ونايلة . ويرد على هذا بأنها كانت تسمى أيضا بأسماء مذكرة : كهبل ، وذي الخلصة .
وقال الضحاك وغيره : المراد ما كانت العرب تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها ؛ فقيل لهم : هذا على إقامة الحجة من فاسد قولهم . وقال الحسن : لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان ، وفي هذا تعبيرهم بالتأنيث ; لنقصه وخساسته بالنسبة للتذكير . وقال الراغب : أكثر ما عبدته العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير فاعلة ؛ فبكتهم الله تعالى أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلا من كل وجه ، وعلى هذا نبه إبراهيم عليه السلام بقوله : ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ) .
وقرأ أبو رجاء : إن تدعون بالتاء على الخطاب ورويت عن عاصم . وفي مصحف عائشة رضي الله عنها ( إلا أوثانا ) جمع وثن ، وهو الصنم . وقرأ بذلك أبو السوار والهنائي . وقرأ الحسن : ( إلا أنثى ) على التوحيد . وقرأ ابن عباس وأبو حيوة ، والحسن ، وعطاء ، وأبو العالية ، وأبو نهيك ، ومعاذ القارئ ( أنثا ) . قال : فيما حكى إناث كثمار وثمر . وقال غيره : أنث جمع أنيث ، كغرير وغرر . وقال الطبري المغربي : إلا إناثا إلا ضعافا عاجزين لا قدرة لهم ؛ يقال : سيف أنيث ، وميناثة بالهاء ، وميناث غير قاطع . قال الشاعر :
فتخبرني بأن العقل عندي جراز لا أقل ولا أنيث
أنث في أمره : لان ، والأنيث المخنث الضعيف من الرجال . وقرأ ، سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء : ( إلا وثنا ) بفتح الواو والثاء من غير همزة . وقرأ ، ابن المسيب ومسلم بن جندب ، ورويت عن ، ابن عباس ، وابن عمر وعطاء : ( إلا أثنا ) يريدون وثنا ، فأبدل الهمزة واوا ، وخرج على أنه جمع جمع ; إذ أصله وثن ، فجمع على وثان كجمل وجمال ، ثم وثان على وثن كمثال ومثل ، وحمار وحمر . قال ابن عطية : هذا خطأ ; لأن فعالا في جمع فعل إنما هو للتكثير ، والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع ؛ وإنما يجمع جموع التقليل ، والصواب أن يقال : وثن جمع وثن دون واسطة ، كأسد وأسد انتهى . وليس قوله : وإنما يجمع جموع التقليل بصواب كامل ، الجموع مطلقا لا يجوز أن تجمع بقياس سواء كانت للتكثير أم للتقليل ، نص على ذلك النحويون . وقرأ أيوب السجستاني : ( إلا وثنا ) بضم الواو والثاء من غير همزة ، كشقق . وقرأت فرقة : إلا أثنا بسكون الثاء ، وأصله وثنا ، فاجتمع في هذا اللفظ ثماني قراءات : إناثا ، وأنثا ، وأوثانا ، ووثنا ، ووثنا ، واثنا ، وأثنا .( وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله ) المراد به إبليس قاله الجمهور ، وهو الصواب ; لأن ما قاله بعد ذلك مبين أنه هو . وقيل الشيطان المعين بكل صنم : أفرد لفظا ، وهو مجموع في المعنى ، الواحد يدل على الجنس . قيل كان يدخل في أجواف الأصنام ، فيكلم داعيها ، ويحتمل أن يكون لعنه الله صفة ، وأن يكون خبرا عنه . وقيل هو دعاء ، ولا يتعارض الحصران ; لأن دعاء الأصنام ناشئ عن دعائهم الشيطان ، لما عبدوا الشيطان أغراهم بعبادة الأصنام أو لاختلاف الدعاءين ؛ فالأول عبادة والثاني طواعية . وقال ابن عيسى : هو مثل : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) يعني أن نسبة دعائهم الأصنام هو على سبيل المجاز . وأما في الحقيقة فهم يدعون الشيطان .
( وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ) ; أي نصيبا واجبا ؛ اقتطعته لنفسي من قولهم : فرض له في العطاء ، وفرض الجند : رزقهم . والمعنى : لأستخلصنهم لغوايتي ، ولأخصنهم بإضلالي ، وهم الكفرة والعصاة . قال ابن عطية : المفروض هنا معناه المنحاز ، وهو مأخوذ من الفرض ، وهو الحز في العود وغيره ، ويحتمل أن يريد واجبا إن اتخذه ، وبعث النار هو نصيب إبليس . قال الحسن : من كل ألف تسعمائة وتسعون ، قالوا : ولفظ نصيب يتناول القليل فقط . والنص أن أتباع إبليس هم [ ص: 353 ] الكثير بدليل : ( لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) ( فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ) ، وهذا متعارض .
وأجيب أن التفاوت إنما يحصل في نوع البشر ، أما إذا ضممت أنواع الملائكة مع كثرتهم إلى المؤمنين كانت الكثرة للمؤمنين . وأيضا فالمؤمنون ؛ وإن كانوا قليلين في العدد ؛ نصيبهم عظيم عند الله تعالى . والكفار والفساق ، وإن كانوا كثيرين فهم كالعدم . انتهى تلخيص ما أجيب به . والذي أقول : إن لفظ نصيب لا يدل على القليل والكثير بدليل قوله : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ) الآية . والواو : قيل عاطفة ، وقيل واو الحال .
( ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) هذه خمسة أقسم إبليس عليها : أحدها : اتخاذ نصيب من عباد الله ، وهو اختياره إياهم . والثاني : إضلالهم ، وهو صرفهم عن الهداية وأسبابها . والثالث : تمنيته لهم ، وهو التسويل ، ولا ينحصر في نوع واحد ; لأنه يمني كل إنسان بما يناسب حاله من طول عمر وبلوغ وطر وغير ذلك ، وهي كلها أماني كواذب باطلة . وقيل الأماني تأخير التوبة . وقيل هي اعتقاد أن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب . وقال : ولأمنينهم الأماني الباطلة من طول الأعمار ، وبلوغ الآمال ، ورحمة الله تعالى للمجرمين بغير توبة والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة ونحو ذلك ، انتهى . وهذا على منزعه الاعتزالي ، وولوعه بتفسير كتاب الله عليه من غير إشعار لفظ القرآن بما يقوله وينحله . والرابع : أمره إياهم الناشئ عنه تبتيك آذان الأنعام ، وهو فعلهم بالبحائر كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن . وجاء الخامس ذكرا ، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ؛ قاله الزمخشري عكرمة وقتادة والسدي . وقيل فيه إشارة إلى كل ما جعله الله كاملا بفطرته ، فجعل الإنسان ناقصا بسوء تدبيره . والخامس أمره إياهم الناشئ عنه تغيير خلق الله تعالى .
قال ، ابن عباس وإبراهيم ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغيرهم . أراد تغيير دين الله ؛ ذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله )
أي لدين الله . والتبديل يقع موقعة التغيير ؛ وإن كان التغيير أعم منه . ولفظ لا تبديل لخلق الله خبر ، ومعناه : النهي . وقالت فرقة منهم : هو جعل الكفار آلهة لهم ما خلق للاعتبار به من الشمس والنار والحجارة ، وغير ذلك مما عبدوه . وقال الزجاج ابن مسعود والحسن : هو الوشم ، وما جرى مجراه من التصنع للتحسين ، فمن ذلك الحديث في : ، انتهى . لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله ، ولعن الواصلة والمستوصلة
وقال أيضا ، ابن عباس وأنس ، وعكرمة ، وأبو صالح ، ومجاهد ، وقتادة أيضا : هو الخصاء ، وهو في بني آدم محظور . وكره أنس ، وقد رخص جماعة فيه لمنفعة السمن في المأكول ، ورخص خصاء الغنم في عمر بن عبد العزيز . وقيل خصاء الخيل للحسن : إن عكرمة قال هو الخصاء ، قال : كذب عكرمة ، هو دين الله تعالى . وقيل التخنت . وقال : هو فقء عين الحامي ، وإعفاؤه عن الركوب ، انتهى . وناسب هذا أنه ذكر أثر ذلك تبتيك آذان الأنعام فناسب أن يكون التغيير هذا . وقيل تغيير خلق الله هو أن كل ما يوجده الله لفضيلة ؛ فاستعان به في رذيلة ، فقد غير خلقه . وقد دخل في عمومه ما جعله الله تعالى للإنسان من شهوة الجماع ، ليكون سببا للتناسل على وجه مخصوص ؛ فاستعان به في السفاح واللواط ؛ فذلك تغيير خلق الله . وكذلك المخنث إذا نتف لحيته ، وتقنع تشبها بالنساء ، والفتاة إذا ترجلت متشبهة بالفتيان . وكل ما حلله الله ، فحرموه أو حرمه تعالى فحللوه . وعلى ذلك : ( الزمخشري قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا ) وإلى هذه الجملة أشار المفسرون ، ولهذا قالوا : هو تغيير أحكام الله . وقيل هو تغيير الإنسان بالاستلحاق أو النفي . وقيل خضاب الشيب بالسواد . وقيل معاقبة الولاة بعض الجناة بقطع الآذان ، وشق المناخر وكل العيون ، [ ص: 354 ] وقطع الأنثيين . ومن فسر بالوشم أو الخصاء أو غير ذلك مما هو خاص في التغيير ؛ فإنما ذلك على جهة التمثيل لا الحصر . وفي حديث عياض المجاشعي : . وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإن الشياطين ألهتهم وأحالتهم عن دينهم ؛ فحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، وأمرتهم أن لا يغيروا خلقي
ومفعول أمر الثاني محذوف ; أي ولآمرنهم بالتبتيك فليبتكن ، ولآمرنهم بالتغير فليغيرن . وحذف لدلالة ما بعده عليه . وقرأ أبو عمرو : ولآمرنهم بغير ألف ؛ كذا قاله ابن عطية . وقرأ أبي : وأضلنهم ، وأمنينهم ، وآمرنهم ، انتهى . فتكون جملا مقولة ، لا مقسما عليها . وجاء ترتيب هذه الجمل المقسم عليها في غاية من الفصاحة ؛ بدأ أولا باستخلاص الشيطان نصيبا منهم ، واصطفائه إياهم ، ثم ثانيا بإضلالهم ، وهو عبارة عما يحصل في عقائدهم من الكفر ، ثم ثالثا بتمنيتهم الأماني الكواذب والإطماعات الفارغة ، ثم رابعا بتبتيك آذان الأنعام ، هو حكم لم يأذن الله فيه ، ثم خامسا بتغيير خلق الله ، وهو شامل للتبتيك وغيره من الأحكام التي شرعها لهم . وإنما بدأ بالأمر بالتبتيك ، وإن كان مندرجا تحت عموم التغيير ; ليكون ذلك استدراجا لما يكون بعده من التغيير العام ، واستيضاحا من إبليس طواعيتهم في أول شيء يلقيه إليهم ، فيعلم بذلك قبولهم له . فإذا قبلوا ذلك أمرهم بجميع التغييرات التي يريدها منهم ، كما يفعل الإنسان بمن يقصد خداعه : يأمره أولا بشيء سهل ؛ فإذا رآه قد قبل ما ألقاه إليه من ذلك أمره بجميع ما يريد منه . وإقسام إبليس على هذه الأشياء ليفعلنها يقتضي علم ذلك ، وأنها تقع إما لقوله تعالى . ( لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) أو ; لكونه علم ذلك من جهة الملائكة ، أو لكونه لما استزل آدم علم أن ذريته أضعف منه .
( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ) ; أي من يؤثر حظ الشيطان على حظه من الله . وكأنه لما قال إبليس : لأتخذن من عبادك نصيبا ، فذكر أنه يصطفيهم لنفسه ، أخبر أنهم قبلوا ذلك الاتخاذ ، وانفعلوا له ؛ فاتخذوه وليا من دون الله . والولي هنا قال مقاتل : بمعنى الرب . وقال أبو سليمان الدمشقي : من الموالاة ، ورتب على هذا الاتخاذ الخسران المبين ; لأن من ترك حظه من الله لحظ الشيطان فقد خسرت صفقته . وقوله : من دون الله ، قيد لازم ; لأنه لا يمكن أن يتخذ الشيطان وليا إلا إذا لم يتخذ الله وليا ، ولا يمكن أن يتخذ الشيطان وليا ، ويتخذ الله وليا ; لأنهما طريقان متباينان ، لا يجتمعان ، هدى وضلالة . وهذه الجملة الشرطية محذرة من اتباع الشيطان .
( يعدهم ويمنيهم ) لفظان متقاربان ؛ والمعنى : أن الذي أقسم عليه من أن يمنيهم وقع بإخبار الله تعالى عنه بذلك ، واكتفى من الإخبار عن وقوع تلك الجمل التي أقسم عليها إبليس بوضوحها ، وظهورها . ولما كان الوعد والتمنية من أمور الباطن أخبر الله عنه بها . والمعنى : أنه يعدهم بالأمور الباطلة والزخارف الكاذبة ، وأنه لا ثواب ، ولا عقاب .
( وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) قرأ : وما يعدهم بسكون الدال خفف ; لتوالي الحركات . وتقدم تفسير الغرور ، ومعناه : هنا الخدع التي تظن نافعة ، ويكشف الغيب أنها ضارة . واحتمل النصب أن يكون مفعولا ثانيا ، أو مفعولا من أجله ، أو مصدرا على غير الصدر ; لتضمين يعدهم معنى يغرهم ، ويكون ثم وصف محذوف ; أي إلا غرورا واضحا أو نحوه ، أو نعتا لمصدر محذوف ; أي وعدا غرورا أي ذا غرور . الأعمش
( أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ) أخبر تعالى أن المكان الذي يأوون إليه ، ويستقرون فيه هو جهنم ، وأنهم لا يجدون عنها مراغا يروغون إليه . وعنها لا يجوز أن تتعلق بمحذوف ; لأنها لا تتعدى بـ ( عن ) ، ولا بـ ( محيصا ) ، وإن كان المعنى عليه ؛ لأنه مصدر ؛ فيحتمل أن يكون ذلك تبيينا على إضمار ( عني ) . وجوزوا أن يكون حالا من ( محيص ) ، فيتعلق بـ ( محيص ) ; أي كائنا عنها ، ولو تأخر لكان صفة . [ ص: 355 ] ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ) لما ذكر مأوى الكفار ، ذكر مأوى المؤمنين ، وأسند الفعل إلى نون العظمة ؛ اعتناء بأنه تعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة ، وتشريفا لهم . وقرئ : سيدخلهم بالياء . ولما رتب تعالى مصير من كان تابعا لإبليس إلى النار لإشراكه وكفره ، وتغيير أحكام الله تعالى ؛ رتب هنا دخول الجنة على الإيمان ، وعمل الصالحات .
( وعد الله حقا ) لما ذكر أن وعد الشيطان هو غرور باطل ، ذكر أن هذا الوعد منه تعالى هو الحق الذي لا ارتياب فيه ، ولا شك في إنجازه . والذين مبتدأ وسيدخلهم الخبر . ويجوز أن يكون من باب الاشتغال ; أي وسندخل الذين آمنوا سندخلهم . وانتصب ( وعد الله حقا ) على أنه مصدر مؤكد لغيره ؛ فوعد الله مؤكد لقوله : سيدخلهم ، وحقا مؤكد لوعد الله .
( ومن أصدق من الله قيلا ) القيل والقول واحد ; أي لا أحد أصدق قولا من الله . وهي جملة مؤكدة أيضا لما قبلها . وفائدة هذه التواكيد المبالغة فيما أخبر به تعالى عباده المؤمنين بخلاف مواعيد الشيطان ، وأمانته الكاذبة المخلفة لأمانيه .
( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ) قال ، ابن عباس والضحاك ، وأبو صالح ، ومسروق ، وقتادة ، والسدي وغيرهم : الخطاب للأمة . قال بعضهم : اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب ؛ فقالوا : ديننا أقدم من دينكم وأفضل ; فنبينا قبل نبيكم . وقال المؤمنون : كتابنا يقضي على الكتب ، ونبينا خاتم الأنبياء ، ونحو هذا من المحاورة فنزلت . وقال مجاهد وابن زيد : الخطاب لكفار قريش ؛ وذلك أنهم قالوا : لن نبعث ولن نعذب ؛ وإنما هي حياتنا لنا فيها النعيم ، ثم لا عذاب . وقالت اليهود : نحن أبناء الله ، وأحباؤه . إلى نحو هذا من الأقوال كقولهم .
( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) فرد الله تعالى على الفريقين .
وقال في ليس : ضمير وعد الله ; أي ليس ينال ما وعد الله من الثواب بأمانيكم ، ولا أماني أهل الكتاب . والخطاب للمسلمين ; لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به ؛ ولذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان . وعن الزمخشري الحسن : ليس الإيمان بالتمني ؛ ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ، إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ، ولا حسنة لهم ، وقالوا : نحسن الظن بالله ، وكذبوا ، لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل . ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين ؛ لقولهم : إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء ، لنكونن خيرا منهم وأحسن حالا ؛ لأوتين مالا وولدا ، إن لي عنده للحسنى . وكان أهل الكتاب يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ، ويعضده تقدم ذكر أهل الشرك ، انتهى .
وعلى هذه الأقوال وقع الاختلاف في اسم ليس ، وأقر بها ، إن الذي يعود الضمير عليه هو الوعد من أنه تعالى يدخلهم الجنة ، ويليه أن يعود على الإيمان المفهوم من قوله : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) كما ذهب إليه الحسن ، ثم إنه يعود على ما وقعت فيه محاورة المؤمنين وأهل الكتاب ، أو ما قالته قريش وأهل الكتاب على ما مر ذكره . وقال الحوفي : اسم ليس مضمر فيها على معنى : ليس الثواب عن الحسنات ، ولا العقاب على السيئات بأمانيكم ; لأن الاستحقاق إنما يكون بالعمل لا بالأماني . وقال أبو البقاء : اسم ليس مضمر فيها ، ولم يتقدم له ذكر ، وإنما دل عليه سبب الآية ، وذلك أن اليهود والنصارى ، قالوا : نحن أصحاب الجنة . وقال المشركون : لا نبعث . فقال : ليس بأمانيكم ; أي ليس ما ادعيتموه بأمانيكم . وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة بن نصاح ، والحكم ، : بأمانيكم ، ولا أماني أهل الكتاب ساكنة الياء ، جمع على فعالل ، كما يقال : قراقير ، وقراقر ، جمع قرقور . والأعرج
( من يعمل سوءا يجز به ) قال الجمهور : اللفظ عام والكافر والمؤمن مجازيان بالسوء يعملانه . فمجازاة الكافر النار والمؤمن بنكبات الدنيا ؛ فقال رضي الله عنه : لما نزلت قلت : يا رسول الله ما أشد هذه الآية [ ص: 356 ] جاءت قاصمة الظهر ، فقال : إنما هي المصيبات في الدنيا أبو بكر الصديق ، وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها . وقال به ؛ وسأله أبي بن كعب الربيع بن زياد عن معنى الآية ، وكأنه خافها فقال له : أي ما كنت أظنك إلا أفقه مما أرى ، ما يصيب الرجل خدش أو غيره إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر . وخصص الحسن ، وابن زيد بالكفار يجازون على الصغائر والكبائر . وقال الضحاك : يعني اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، وكفار العرب ، ورأى هؤلاء أن الله تعالى وعد المؤمنين بتكفير السيئات . وخصص السوء ، ابن عباس بالشرك . وقيل السوء عام في الكبائر . وابن جبير
( ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ) روى ابن بكار ، عن ابن عامر ، ولا يجد بالرفع على القطع .
( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ) من الأولى هي للتبعيض ; لأن كل واحد لا يتمكن من عمل كل الصالحات ؛ وإنما يعمل منها ما هو تكليفه ، وفي وسعه . وكم مكلف لا يلزمه زكاة ، ولا حج ، ولا جهاد ، وسقطت عنه الصلاة في بعض الأحوال على بعض المذاهب . وحكى عن قوم : أن من زائدة أي ومن يعمل الصالحات . وزيادة ( من ) في الشرط ضعيف ، ولا سيما ، وبعدها معرفة . و ( من ) الثانية لتبيين الإبهام في ( ومن يعمل ) . وتقدم الكلام في " أو " فى قوله : ( الطبري لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ) جملة حالية ، وقيد في عمل الإنسان ; لأنه لو عمل من الأعمال الصالحة ما عمل فلا ينفعه إلا أن كان مؤمنا . قال : وإذا أبطل الله الأماني ، وأثبت أن الأمر كله معقود بالعمل الصالح ، وأن من أصلح عمله فهو الفائز ، ومن أساء عمله فهو الهالك ، تبين الأمر ، ووضح ، ووجب قطع الأماني ، وحسم المطامع والإقبال على العمل الصالح ؛ ولكنه نصح لا تعيه الآذان ، ولا تلقى إليه الأذهان انتهى . والذي تدل عليه الآية ، أن الإيمان شرط في الانتفاع بالعمل ; لأن العمل شرط في صحة الإيمان . الزمخشري
( ولا يظلمون نقيرا ) ظاهره : أنه يعود إلى أقرب مذكور ، وهم المؤمنون ، ويكون حكم الكفار كذلك . إذ ذكر أحد الفريقين يدل على الآخر أن كلاهما يجزى بعمله ، ولأن ظلم المسيء أنه يزاد في عقابه . ومعلوم أنه تعالى لا يزيد في عقاب المجرم ؛ فكان ذكره مستغنى عنه . والمحسن له ثواب ، وتوابع للثواب من فضل الله هي في حكم الثواب ، فجاز أن ينقص من الفضل . فنفي الظلم دلالة على أنه لا يقع نقص في الفضل . ويحتمل أن يعود الضمير ، في : ولا يظلمون إلى الفريقين ، عامل السوء ، وعامل الصالحات . وقرأ : يدخلون مبنيا للمفعول هنا وفي مريم وأولي غافر ابن كثير وأبو عمر وأبو بكر . وقرأ كذلك ابن كثير وأبو بكر في ثانية غافر . وقرأ كذلك أبو عمرو في فاطر . وقرأ الباقون مبنيا للفاعل .
( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ) تقدم الكلام على نحوه في قولين من أسلم وجهه لله وهو محسن . ( واتبع ملة إبراهيم حنيفا ) تقدم الكلام على ملة إبراهيم حنيفا في قوله : ( قل بل ملة إبراهيم حنيفا ) واتباعه : قال : في التوحيد . وقال ابن عباس أبو سليمان الدمشقي : في القيام لله بما فرضه . وقيل : في جميع شريعته إلا ما نسخ منها .
( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) هذا مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله . وتقدم اشتقاق الخليل في المفردات . والجمهور : على أنها من الخلة وهي المودة التي ليس فيها خلل . وقول محمد بن عيسى الهاشمي : إنه إنما سمي خليلا لأنه تخلى عما سوى خليله . فإن كان فسر المعنى فيمكن ، وإن كان أراد الاشتقاق فلا يصح لاختلاف المادتين . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا جبريل بم اتخذ الله إبراهيم خليلا ؟ قال : لإطعامه الطعام ، والكرامة التي أكرمه الله بها ذكروها في قصة مطولة عن مضمونها : [ ص: 357 ] أن الله قلب له غرائر الرمل دقيقا حوارى عجن وخبز وأطعم الناس منه . ابن عباس
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتخذ الله إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا ثم قال : وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي لما أثنى على من اتبع ملة إبراهيم أخبر بمزيته عنده واصطفائه ليكون ذلك أدعى إلى اتباعه . لأن من اختصه الله بالخلة جدير بأن يتبع أو ليبين أن تلك الخلة إنما سببها حنيفية إبراهيم عن سائر الأديان إلى دين الحق كقوله : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما ) أي قدوة لإتمامك تلك الكلمات . ونبه بذلك على أن من عمل بشرعه كان له نصيب من مقامه . وليست هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها ، لأن الجملة قبلها معطوفة على صلة ( من ) ، ولا تصلح هذه للصلة ؛ وإنما هي معطوفة على الجملة الاستفهامية التي معناها الخبر ، أي : لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ، نبهت على شرف المنبع وفوز المتبع .
وقال : فإن قلت : ما موقع هذه الجملة ؟ قلت : هي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم : والحوادث جمة ، وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته ؛ لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلا كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته ، انتهى . فإن عنى بالاعتراض غير المصطلح عليه في الضوء فيمكن أن يصح قوله ؛ كأنه يقول : اعترضت الكلام . وإن عنى بالاعتراض المصطلح عليه فليس بصحيح ، إذ لا يعترض إلا بين مفتقرين كصلة وموصول ، وشرط وجزاء ، وقسم ومقسم عليه ، وتابع ومتبوع ، وعامل ومعمول . وقوله : كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم : والحوادث جمة ، فالذي نحفظه أن مجيء الحوادث جمة إنما هو بين مفتقرين نحو قوله : الزمخشري
وقد أدركتني والحوادث جمة أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
ألا هل أتاها والحوادث جمة بأن أمرأ القيس بن تملك بيقرا