( لم يكن الله ليغفر لهم ) الجمهور على تقدير محذوف ; أي ثم ازدادوا كفرا ، وماتوا على الكفر ; لأنه معلوم من هذه الشريعة أنه لو آمن وكفر مرارا ، ثم تاب عن الكفر ، وآمن ووافى تائبا أنه مغفور له ما جناه في كفره السابق ، وإن تردد فيه مرارا . وقيل يحمل على قوم معينين علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر ، ولا يتوبون عنه ؛ فيكون قوله : لم يكن الله ليغفر لهم إخبارا عن موتهم على الكفر . وقيل الكلام خرج على الغالب المعتاد ، وهو أن من كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإيمان في قلبه وقع ، ولا عظم قدر . والظاهر من حال مثل هذا أنه يموت على الكفر .
وفي قوله : لم يكن الله ليغفر لهم دلالة على أنه مختوم عليهم بانتفاء الغفران وهداية السبيل ، وأنهم تقرر عليهم ذلك في الدنيا ، وهم أحياء ، وهذه فائدة المجيء بلام الجحود ، ففرق بين لم يكن زيد يقوم ، وبين لم يكن زيد ليقوم . فالأول ليس فيه إلا انتفاء القيام والثاني فيه انتفاء الإرادة والإيتاء للقيام ، ويلزم من انتفاء إرادة القيام نفي القيام ، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك مشبعا في سورة آل عمران . وقال : نفي للغفران والهداية ، وهي اللطف على سبيل المبالغة التي توطئها اللام ؛ والمراد : بنفيهما نفي ما يقتضيهما ، وهو الإيمان الخالص الثابت ، انتهى . وظاهر كلامه أنه يقول بقول الكوفيين ، وهو أنهم يقولون : إذا قلت لم يكن زيد ليقوم : إن خبر لم يكن هو قولك ( ليقوم ) واللام للتأكيد زيدت في النفي ، والمنفي هو القيام ، وليست أن مضمرة بل اللام هي الناصبة . والبصريون يقولون : النصب بإضمار ( أن ) ، وينسبك من ( أن ) المضمرة والفعل بعدها مصدر ، وذلك المصدر لا يصح أن يكون خبرا ; لأنه معنى والمخبر عنه جثة . ولكن الخبر محذوف واللام تقوية لتعدية ذلك الخبر إلى المصدر لأنه جثة . وأضمرت ( أن ) بعدها ، وصارت اللام كالعوض من أن المحذوفة ؛ ولذلك لا يجوز حذف هذه اللام ، ولا الجمع بينها وبين ( أن ) ظاهرة . ومعنى قوله : والمراد بنفيهما نفي ما يقتضيهما أن المعنى لم يكونوا ليؤمنوا فيغفر الله لهم ، ويهديهم . ( الزمخشري بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) الخطاب للرسول . ومعنى ( بشر ) أخبر ، وجاء بلفظ ( بشر ) على سبيل التهكم بهم نحو قوله : ( فبشرهم بعذاب أليم ) ; أي القائم لهم مقام البشارة ، هو الإخبار بالعذاب ، كما قال :
تحية بينهم ضرب وجيع
وقال ابن عطية : جاءت البشارة هنا مصرحا بفيدها ؛ فلذلك حسن استعمالها في المكروه . ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب . وفي هذه الآية دليل على أن التي قبلها إنما هي في المنافقين . وقال الماتريدي : بشر المنافقين يدل على أن قوله : ( ياأيها الذين آمنوا آمنوا ) في أهل النفاق والمراءاة ; لأنه لم يسبق ذكر للمنافقين سوى هذه الآية . ويحتمل أن يكون ابتداء من غير تقدم ذكر المنافقين .( الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) أي اليهود والنصارى ومشركي العرب ، أولياء أنصارا ومعينين يوالونهم على الرسول والمؤمنين ، ونص من صفات المنافقين على أشدها ضررا على المؤمنين ، وهي موالاتهم الكفار ، واطراحهم المؤمنين ، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة . والذين : نعت للمنافقين ، أو نصب على الذم ، أو رفع على خبر المبتدأ ; أي هم الذين .
[ ص: 274 ] ( أيبتغون عندهم العزة ) أي الغلبة والشدة والمنعة بموالاتهم ، وقول بعضهم لبعض : لا يتم أمر محمد . وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنهم لا عزة لهم ؛ فكيف تبتغي منهم ؟ وعلى خبث مقصدهم . وهو طلب العزة بالكفار والاستكثار بهم .
( فإن العزة لله جميعا ) ; أي لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم . قال تعالى : ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ) . وقال : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) . وقال تعالى : ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ) والفاء في ( فإن العزة لله ) دخلت لما في الكلام من معنى الشرط والمعنى أن تبتغوا العزة من هؤلاء فإن العزة ، وانتصب جميعا على الحال . ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) الخطاب لمن أظهر الإيمان من مخلص ومنافق . وقيل للمنافقين الذين تقدم ذكرهم ، ويكون التفاتا . وكانوا يجلسون إلى أحبار اليهود ، وهم يخوضون في القرآن يسمعون منهم ؛ فنهوا عن ذلك ، وذكروا بما نزل عليهم ب مكة من قوله : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) .
وقرأ الجمهور : وقد نزل مشددا مبنيا للمفعول . وقرأ عاصم : نزل مشددا مبنيا للفاعل . وقرأ أبو حيوة وحميد : نزل مخففا مبنيا للفاعل . وقرأ النخعي : أنزل بالهمزة مبنيا للمفعول ، ومحل ( أن ) رفع أو نصب على حسب العامل ؛ فنصب على قراءة عاصم ، ورفع على الفاعل على قراءة أبي حيوة وحميد ، وعلى المفعول الذي لم يسم فاعله على قراءة الباقين . وإن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، وتقديره : ذلك أنه إذا سمعتم . وما قدره أبو البقاء من قوله : أنكم إذا سمعتم ليس بجيد لأنها إذا خففت إن لم تعمل في ضمير إلا إذا كان ضمير أمر وشأن محذوف ، وإعمالها في غيره ضرورة نحو قوله :
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني طلاقك لم أبخل وأنت صديق
فعلمت أن من تتقوه فإنه جزر لخامعة وفرخ عقاب
( إنكم إذا مثلهم ) حكم تعالى بأنهم إذا قعدوا معهم ، وهم يكفرون بآيات الله ، ويستهزئون بها ، وهم قادرون على الإنكار مثلهم في الكفر ; لأنهم يكونون راضين بالكفر والرضا بالكفر كفر . والخطاب في أنكم على الخلاف السابق أهو للمنافقين ؟ أم للمؤمنين ؟ ولم يحكم تعالى على المسلمين الذين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين بمكة بأنهم مثل المشركين لعجز المسلمين إذ ذاك عن الإنكار بخلاف المدينة ؛ فإن الإسلام كان الغالب فيها والأعلى ؛ فهم قادرون على الإنكار والسامع للذم شريك للقائل ، وما أحسن ما قال الشاعر :
وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وإذا هنا توسطت بين الاسم والخبر ، وأفرد مثل لأن المعنى ، إن عصيانكم مثل عصيانهم ؛ فالمعنى على المصدر كقوله : ( أنؤمن لبشرين مثلنا ) ، وقد جمع في قوله : ( ثم لا يكونوا أمثالكم ) ، وفي قوله : ( حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ) والإفراد والمطابقة في التثنية أو الجمع جائزان . وقرئ شاذا ( مثلهم ) بفتح اللام ، فخرجه البصريون على أنه مبني لإضافته إلى مبني كقوله : ( لحق مثل ما أنكم تنطقون ) على قراءة من فتح اللام والكوفيون يجيزون في ( مثل ) أن ينتصب محلا ، وهو الظرف ، فيجوز عندهم زيد مثلك بالنصب أي في مثل حالك ؛ فعلى قولهم يكون انتصاب " مثلهم " على المحل ، وهو الظرف .
( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) لما اتخذوهم في الدنيا أولياء ، جمع بينهم في الآخرة في النار والمرء مع من أحب ، وهذا توعد منه تعالى ، تأكد به التحذير من مجالستهم ومخالطتهم .