( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) قال ابن عطية : روي أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وميله بقلبه إلى عائشة رضي الله عنها ، انتهى . ونبه تعالى على [ ص: 365 ] انتفاء استطاعة العدل بين النساء والتسوية ، حتى لا يقع ميل البتة ، ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن . وفي ذلك عذر للرجال فيما يقع من التفاوت في الميل القلبي والتعهد والنظر والتأنيس والمفاكهة ؛ فإن التسوية في ذلك مجال خارج عن حد الاستطاعة ؛ وعلق انتفاء الاستطاعة في التسوية على تقدير وجود الحرص من الإنسان على ذلك . وقيل معنى أن تعدلوا في المحبة قاله عمر وابن عباس والحسن . وقيل في التسوية والقسم . وقيل في الجماع . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " ; لأن أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ، ويقول : هذه قسمتي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك ، ولا أملك يعني المحبة عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه ، وكان عمر يقول : اللهم قلبي فلا أملكه ، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل فيه .
( فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ) نهى تعالى عن الجور على المرغوب ; أي إن وقع منكم التفريط في شيء من المساواة ، فلا تجوروا كل الجور . والضمير في فتذروها عائد على المميل عنها ، المفهوم من قوله : فلا تميلوا كل الميل .
وقرأ أبي : فتذروها كالمسجونة . وقرأ عبد الله : فتذروها كأنها معلقة . وتقدم تفسير المعلقة في الكلام على المفردات . وقال : كالمحبوسة بغير حق . وقيل معنى كالمعلقة كالبعيدة عن زوجها . قيل أو عن حقها ، ذكره ابن عباس الماوردي مأخوذ من تعليق الشيء لبعده عن قراره . وتذروها يحتمل أن يكون مجزوما عطفا على تميلوا ، ويحتمل أن يكون منصوبا بإضمار ( أن ) في جواب النهي . وكالمعلقة في موضع نصب على الحال ؛ فتتعلق الكاف بمحذوف . وفي الحديث : والمعنى : يميل مع إحداهما كل الميل ، لا مطلق الميل . من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل عمر في عطاء بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأبت عائشة ، وقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسيمة بماله ونفسه ، فساوى عمر بينهن ، وكان وقد فاضل لمعاذ امرأتان ؛ فإذا كان عند إحداهما ، لم يتوضأ في بيت الأخرى ، فماتتا في الطاعون ، فدفنهما في قبر واحد .
( وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ) قال : وإن تصلحوا ما مضى من قبلكم ، وتتداركوه بالتوبة ، وتتقوا فيما يستقبل غفر الله لكم انتهى . وفي ذلك نزغة الاعتزال . وقال الزمخشري ابن عطية : وإن تصلحوا ما أفسدتم بسوء العشرة ، وتلزموا ما يلزمكم من العدل فيما تملكون ؛ فإن الله كان غفورا لما تملكونه متجاوزا عنه . وقال : غفورا لما سلف منكم من الميل كل الميل قبل نزول الآية ، انتهى ؛ فعلى هذا هي مغفرة مخصصة لقوم بأعيانهم واقعوا المحظور في مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، وختمت تلك بالإحسان ، وهذه بالإصلاح ; لأن الأولى في مندوب إليه إذ له أن لا يحسن ، وأن يشح ، ويصالح بما يرضيه ، وهذه في لازم إذ ليس له إلا أن يصلح ، بل يلزمه العدل فيما يملك . الطبري
( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ) الضمير في يتفرقا عائد على الزوجين المذكورين في قوله : ( وإن امرأة خافت من بعلها ) والمعنى : وإن شح كل منهما ، ولم يصطلحا ، وتفرقا بطلاق ؛ فالله يغني كلا منها عن صاحبه بفضله ، ولطفه في المال والعشرة والسعة . ووجود المراد ، والسعة الغنى والمقدرة ، وهذا وعد بالغنى لكل واحد إذا تفرقا ، وهو معروف بمشيئة الله تعالى . ونسبة الفعل إليهما يدل على أن لكل منهما مدخلا في التفرق ، وهو التفرق بالأبدان ، وتراخي المدة بزوال العصمة ، ولا يدل على أنه تفرق بالقول وهو طلاق ; لأنه مختص بالزوج ، ولا نصيب للمرأة في التفرق القولي ؛ فيسند إليها خلافا لمن ذهب إلى أن التفرق هاهنا هو بالقول ، وهو الطلاق . وقرأ زيد بن أفلح : وإن يتفارقا بألف المفاعلة ; أي وإن [ ص: 366 ] يفارق كل منهما صاحبه . وهذه الآية نظير قوله تعالى : ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) ، وقول العرب : إن لم يكن وفاق فطلاق . فنبه تعالى على أن لهما أن يتفارقا ؛ كما أن لهما أن يصطلحا . ودل ذلك على الجواز ، قالوا : وفي قوله تعالى : يغن الله كلا من سعته إشارة إلى الغنى بالمال . وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما رووا طلقة ذوقة فقيل له في ذلك فقال : إني رأيت الله تعالى علق الغنى بأمرين فقال : ( وأنكحوا الأيامى ) الآية ، وقال : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته .
( وكان الله واسعا حكيما ) ناسب ذلك ذكر السعة ; لأنه تقدم من سعته . والواسع عام في الغنى والقدرة والعلم ، وسائر الكمالات . وناسب ذكر وصف الحكمة ، وهو وضع الشيء موضع ما يناسب ; لأن السعة ما لم تكن معها الحكمة كانت إلى فساد أقرب منها للصلاح ؛ قاله الراغب . وقال : يريد فيما حكم ووعظ . وقال ابن عباس الكلبي : فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان . وقال الماتريدي : أو حيث ندب إلى الفرقة عند اختلافهما وعدم التسوية بينهما . ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) لما ذكر تعالى سعة رزقه ، وحكمته ، ذكر أن له ملك ما في السماوات ، وما في الأرض ؛ فلا يعتاض عليه غنى أحد ، ولا التوسعة عليه ; لأن من له ذلك هو الغني المطلق . ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ) وصينا : أمرنا أو عهدنا إليهم وإليكم ، ومن قبلكم : يحتمل أن يتعلق بـ ( أوتوا ) ؛ وهو الأقرب ، أو بـ ( وصينا ) . والمعنى : أن الوصية بالتقوى هي سنة الله مع الأمم الماضية ، فلستم مخصوصين بهذه الوصية . و ( إياكم ) عطف على الموصول ، وتقدم الموصول ; لأن وصيته هي السابقة على وصينا ، فهو تقدم بالزمان . ومثل هذا العطف - أعني عطف الضمير المنصوب المنفصل على الظاهر - فصيح جاء في القرآن وفي كلام العرب ، ولا يختص بالشعر ، وقد وهم في ذلك بعض أصحابنا وشيوخنا ؛ فزعم أنه لا يجوز إلا في الشعر ؛ لأنك تقدر على أن تأتي به متصلا ؛ فتقول : آتيك وزيدا . ولا يجوز عنده : رأيت زيدا وإياك إلا في الشعر ، وهذا وهم فاحش ؛ بل من موجب انفصال الضمير كونه يكون معطوفا ؛ فيجوز قام زيد وأنت ، وخرج بكر وأنا ، لا خلاف في جواز ذلك ؛ فكذلك ضربت زيدا وإياك .
والذين أوتوا الكتاب هو عام في الكتب الإلهية ، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الذين أوتوا الكتاب باليهود والنصارى كما ذهب إليه بعض المفسرين ; لأن وصية الله بالتقوى لم تزل مذ أوجد العالم ؛ فليست مخصوصة باليهود والنصارى . وأن اتقوا : يحتمل أن تكون مصدرية أي بأن اتقوا الله ، وأن تكون مفسرة التقدير أي اتقوا الله ; لأن وصينا فيه معنى القول .
( وإن تكفروا ) ظاهره الخطاب لمن وقع له الخطاب بقوله : وإياكم ، وهم هذه الأمة ، ويحتمل أن يكون شاملا للذين أوتوا الكتاب ، وللمخاطبين وغلب الخطاب على ما تقرر في لسان العرب كما تقول : قلت لزيد ذلك ، لا تضرب عمرا ، وكما تقول : زيد وأنت تخرجان .
( فإن لله ما في السماوات وما في الأرض ) ; أي أنتم من جملة من يملكه تعالى ، وهو المتصرف فيكم ; إذ هو خالقكم والمنعم عليكم بأصناف النعم ، وأنتم مملوكون له ، فلا يناسب أن تكفروا من هو مالككم ، وتخالفون أمره ؛ بل حقه أن يطاع ولا يعصى ، وأن يتقى عقابه ، ويرجى ثوابه ، ولله ما في سمائه وأرضه من يوحده ويعبده ، ولا يعصيه .
( وكان الله غنيا ) ; أي عن خلقه ، وعن عبادتهم لا تنفعه طاعتهم ، ولا يضره كفرهم .
( حميدا ) ; أي مستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه ، وإن كفرتموه أنتم . ( ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ) الوكيل القائم بالأمور ، المنفذ فيها ما يراه ؛ فمن له ملك ما في السماوات والأرض ، فهو كاف فيما يتصرف فيه ، لا يعتمد على غيره . وأعاد قوله : ولله ما في السماوات وما في الأرض ثلاث مرات بحسب السياق . [ ص: 367 ] فقال ابن عطية : الأول : تنبيه على موضع الرجاء يهدي المتفرقين . والثاني : تنبيه على استغنائه عن العباد . والثالث : مقدمة للوعيد .
وقال : وتكرير قوله : ( الزمخشري ولله ما في السماوات وما في الأرض ) تقرير لما هو موجب تقواه ليتقوه ؛ فيطيعوه ولا يعصوه ; لأن الخشية والتقوى أصل الخير كله . وقال الراغب : الأول : للتسلية عما فات . والثاني : أن وصيته لرحمته لا لحاجة ، وأنهم إن كفروه لا يضروه شيئا . والثالث : دلالته على كونه غنيا . وقال أبو عبد الله الرازي : الأول : تقرير كونه واسع الجود . والثاني : للتنزيه عن طاعة المطيعين . والثالث : لقدرته على الإفناء والإيجاد ؛ والغرض منه : تقرير كونه قادرا على مدلولات كثيرة فيحسن أن يذكر ذلك الدليل على كل واحد من مدلولاته ، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة ; لأنه عنده إعادة ذكر الدليل يحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول ؛ وكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل ؛ فظهر أن هذا التكرار في غاية الكمال . وقال : نبهنا أولا على ملكه وسعته . وثانيا على حاجتنا إليه وغناه ، وثالثا على حفظه لنا ، وعلمه بتدبيرنا . مكي
( إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين ) ظاهره أن الخطاب لمن تقدم له الخطاب أولا . وقال : الخطاب للمشركين والمنافقين والمعنى : ويأت بآخرين منكم . وقريب منه ما نقله ابن عباس : من أنه خطاب لمن كان يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب . وقال الزمخشري أبو سليمان الدمشقي : الخطاب للكفار ، وهو تهديد لهم ؛ كأنه قال : إن يشأ يهلككم كما أهلك من قبلكم إذ كفروا برسله . وقيل للمؤمنين ينطلق عليه اسم الناس ؛ والمعنى : إن شاء يهلككم كما أنشأكم ، وأنشأ قوما آخرين يعبدونه . وقال : الخطاب للذين شفعوا في الطبري طعمة بن أبيرق ، وخاصم وخاصموا عنه في أمر خيانته في الدرع والدقيق . وهذا التأويل بعيد ، وقد يظهر العموم فيكون خطابا للعالم الحاضر الذي يتوجه إليه الخطاب والنداء . ويأت بآخرين أي بناس غيركم ؛ فالمأتي به من نوع المذهب ؛ فيكون من جنس المخاطب المنادى ، وهم الناس .
وروي أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان ، وقال : ( إنهم قوم هذا ) يريد ابن فارس ، وأجاز الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن يكون المراد بآخرين من نوع المخاطبين . قال : ويأت بآخرين مكانكم أو خلقا آخرين غير الإنس . قال الزمخشري ابن عطية : ويحتمل أن يكون وعيدا لجميع بني آدم ، ويكون الآخرون من غير نوعهم . كما أنه قد روي أنه كان في الأرض ملائكة يعبدون الله قبل بني آدم ، انتهى . وما جوزه لا يجوز ; لأن مدلول ( آخر ) في اللغة هو مدلول غير خاص بجنس ما تقدم ؛ فلو قلت : جاء زيد وآخر معه ، أو مررت بامرأة وأخرى معها ، أو اشتريت فرسا وآخر ، وسابقت بين حمار وآخر ؛ لم يكن آخر ولا أخرى مؤنثه ، ولا تثنيته ، ولا جمعه ، إلا من جنس ما يكون قبله . ولو قلت : اشتريت ثوبا وآخر ، ويعني به : غير ثوب ؛ لم يجز . فعلى هذا تجويزهم أن يكون قوله : بآخرين من غير جنس ما تقدم ، وهم الناس ليس بصحيح ، وهذا هو الفرق بين غير وبين آخر ; لأن غيرا تقع على المغاير في جنس أو في صفة ؛ فتقول : اشتريت ثوبا وغيره ، فيحتمل أن يكون ثوبا ، ويحتمل أن يكون غير ثوب ، [ ص: 368 ] وقل من يعرف هذا الفرق .
( وكان الله على ذلك قديرا ) ; أي على إذهابكم والإتيان بآخرين . وأتى بصيغة المبالغة في القدرة ; لأنه تعالى لا يمتنع عليه شيء أراده ، وهذا غضب عليهم ، وتخويف وبيان لاقتداره . ( من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ) قال ابن عطية ; أي من كان لا رغبة له إلا في ثواب الدنيا ، ولا يعتقد أن ثم سواه ؛ فليس كما ظن ، بل عند الله ثواب الدارين . فمن قصد الآخرة أعطاه من ثواب الدنيا ، وأعطاه قصده ، ومن قصد الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له ، وكان له في الآخرة العذاب . وقال الماتريدي : يحتمل أن يكون المعنى : من عبد الأصنام طلبا للعز لا يحصل له ذلك ، ولكن عند الله عز الدنيا والآخرة ، أو للتقريب والشفاعة ; أي ليس له ذلك ، ولكن اعبدوا الله فعنده ثواب الدنيا والآخرة ، لا عند من تطلبون . ويحتمل أن تكون في أهل النفاق الذين يراءون بأعمالهم الصالحة في الدنيا لثواب الدنيا لا غير .
و ( من ) يحتمل أن تكون موصولة ؛ والظاهر أنها شرط ، وجوابه الجملة المقرونة بفاء الجواب ؛ ولا بد في الجملة الواقعة جوابا لاسم الشرط غير الظرف من ضمير عائد على اسم الشرط حتى يتعلق الجزاء بالشرط ؛ والتقدير : ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ؛ هكذا قدره وغيره . والذي يظهر أن جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه . والتقدير : من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه ، وليطلب الثوابين ؛ فعند الله ثواب الدنيا والآخرة . وقال الزمخشري الراغب : فعند الله ثواب الدنيا والآخرة تبكيت للإنسان ؛ حيث اقتصر على أحد السؤالين ، مع كون المسئول مالكا للثوابين ، وحث على أن يطلب منه تعالى ما هو أكمل ، وأفضل من مطلوبه ؛ فمن طلب خسيسا مع أنه يمكنه أن يطلب نفيسا ؛ فهو دنيء الهمة . قيل والآية وعيد للمنافقين ، لا يريدون بالجهاد غير الغنيمة . وقيل هي حض على الجهاد .
( وكان الله سميعا بصيرا ) ; أي سميعا لأقوالهم ؛ بصيرا بأعمالهم ونياتهم . ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) قال : هي سبب نازلة الطبري ابن أبيرق وقيام من قام في أمره بغير القسط . وقال : نزلت في اختصام غني وفقير عند النبي صلى الله عليه وسلم . السدي
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة ؛ أعقبه بالقيام بأداء حقوق الله تعالى ، وفي الشهادة حقوق الله . أو لأنه لما ذكر تعالى طالب الدنيا ، وأنه عنده ثواب الدنيا والآخرة ؛ بين أن كمال السعادة أن يكون قول الإنسان وفعله لله تعالى ، أو لأنه لما ذكر في هذه السورة . ( وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى ) والإشهاد عند دفع أموال اليتامى إليهم ، وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله ، وذكر قصة ابن أبيرق ، واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل ، وندب للمصالحة ، أعقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله سبحانه وتعالى ، وأتى بصيغة المبالغة في قوامين حتى لا يكون منهم جور ما . والقسط : العدل . ومعنى ( شهداء لله ) ; أي لوجه الله ، لا يراعي في الشهادة إلا جهة الله تعالى . والظاهر أن معنى قوله : ( شهداء لله ) من الشهادة في الحقوق ؛ ولذلك أتبعه بما بعده من قوله : ولو على أنفسكم ، وهكذا فسره المفسرون . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله : شهداء لله معناه بالوحدانية . [ ص: 369 ] ويتعلق قوله : ولو على أنفسكم ، بقوله : قوامين بالقسط ؛ والتأويل الأول أبين ، انتهى كلامه . ويضعفه أنه خطاب للمؤمنين ، وهم شهداء لله بالوحدانية ؛ إلا إن أريد استمرار الشهادة .
وتقدمت صفة ( قوامين ) بالقسط على ( شهداء لله ) ; لأن القيام بالقسط أعم والشهادة أخص . ولأن القيام بالقسط فعل وقول ، والشهادة قول فقط . ومعنى : ولو على أنفسكم ; أي تشهدون على أنفسكم ; أي تقرون بالحق ، وتقيمون القسط عليها . والظاهر أنه أراد بقوله : ولو على أنفسكم أنفس الشهداء لله تعالى . وأبعد من جوز أن يكون المعنى في أنفسكم : الأهل والأقارب ، وأن يكون أو الوالدين تفسيرا لأنفسكم ، ويضعفه العطف بـ ( أو ) . وانتصب ( شهداء ) على أنه خبر بعد خبر . ومن ذهب إلى جعله حالا من الضمير في قوامين كأبي البقاء ؛ فقوله ضعيف ; لأن فيها تقييد القيام بالقسط ؛ سواء كان مثل هذا أم لا . وقد روي عن رضي الله عنهما ما يشهد لهذا القول الضعيف ؛ قال ابن عباس : معناه كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كان ، ومجيء لو هنا لاستقصاء جميع ما يمكن فيه الشهادة ، لما كانت الشهادة من الإنسان على نفسه بصدد أن لا يقيمها لما جبل عليه المرء من محاباة نفسه ، ومراعاتها . نبه على هذه الحال ، وجاء هذا الترتيب في الاستقصاء في غاية من الحسن والفصاحة . فبدأ بقوله : ابن عباس ولو على أنفسكم ; لأنه لا شيء أعز على الإنسان من نفسه ، ثم ذكر الوالدين ، وهما أقرب إلى الإنسان ، وسبب نشأته ؛ وقد أمر ببرهما ، وتعظيمهما والحوطة لهما ، ثم ذكر الأقربين ؛ وهم مظنة المحبة والتعصب . وإذا كان هؤلاء أمر في حقهم بالقسط والشهادة عليهم ، فالأجنبي أحرى بذلك . والآية تعرضت للشهادة عليهم لا لهم ، فلا دلالة فيها على الشهادة لهم ، كما ذهب إليه بعض المفسرين . ولو شرطية بمعنى ( إن ) ، وقوله على أنفسكم متعلق بمحذوف ; لأن التقدير : وإن كنتم شهداء على أنفسكم فكونوا شهداء لله ، هذا تقرير الكلام . وحذف ( كان ) بعد ( لو ) كثير تقول : ائتني بتمر ولو حشفا ; أي وإن كان التمر حشفا فائتني به . وقال ابن عطية : ولو على أنفسكم متعلق بشهداء . فإن عنى ( شهداء ) هذا الملفوظ به فلا يصح ذلك ، وإن عنى الذي قدرناه نحن فيصح . وقال : ولو على أنفسكم ، ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم . فإن قلت : الشهادة على الوالدين والأقربين أن يقول : أشهد أن لفلان على والدي كذا ، وعلى أقاربي ، فما معنى الشهادة على نفسه ؟ قلت : هي الإقرار على نفسه ; لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها ، ويجوز أن يكون المعنى : وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم ، أو على [ ص: 370 ] آبائكم وأقاربكم ؛ وذلك أن يشهد على من توقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره ، انتهى كلامه . وتقديره : ولو كانت الشهادة على أنفسكم ليس بجيد ; لأن المحذوف إنما يكون من جنس الملفوظ به قبل ليدل عليه ؛ فإذا قلت : كن محسنا لمن أساء إليك ، فتحذف ( كان ) واسمها والخبر ، ويبقى متعلقه لدلالة ما قبله عليه ، ولا تقدره : ولو كان إحسانك لمن أساء . فلو قلت : ليكن منك إحسان ، ولو لمن أساء ، فتقدر : ولو كان الإحسان لمن أساء ; لدلالة ما قبله عليه ؛ ولو قدرته : ولو كنت محسنا لمن أساء إليك لم يكن جيدا ; لأنك تحذف ما لا دلالة عليه بلفظ مطابق . وقول الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم هذا لا يجوز ; لأن ما تعلق به الظرف كون مقيد ، ولا يجوز حذف الكون المقيد . لو قلت : كان زيد فيك ، وأنت تريد محبا فيك ؛ لم يجز ; لأن محبا مقيد ؛ وإنما ذلك جائز في الكون المطلق ، وهو : تقدير كائن أو مستقر . الزمخشري
( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) ; أي إن يكن المشهود عليه غنيا ، فلا تمتنع من الشهادة عليه لغناه ، أو فقيرا فلا تمنعها ترحما عليه وإشفاقا . فعلى هذا الجواب محذوف ; لأن العطف هو بـ ( أو ) ، ولا يثنى الضمير إذا عطف بها ، بل يفرد . وتقدير الجواب : فليشهد عليه ، ولا يراعي الغني لغناه ، ولا لخوف منه ، ولا الفقير لمسكنته وفقره ، ويكون قوله : فالله أولى بهما ليس هو الجواب ، بل لما جرى ذكر الغني والفقير عاد الضمير على ما دل عليه ما قبله ؛ كأنه قيل فالله أولى بجنسي الغني والفقير ; أي بالأغنياء والفقراء . وفي قراءة أبي : فالله أولى بهم ما يشهد بإرادة الجنس . وذهب الأخفش وقوم إلى أن ( أو ) في معنى الواو ؛ فعلى قولهم يكون الجواب : فالله أولى بهما ; أي حيث شرع الشهادة عليهما ، وهو أنظر لهما منكم . ولولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها . وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : وقد ذكر العطف بالواو وثم ؛ وحتى ما نصه تقول : زيد أو عمر ، وقام زيد لا عمر وقام ، وكذلك سائر ما بقي من حروف العطف يعني غير الواو وحتى والفاء وثم والذي بقي بل ولكن وأم . قال : لا تقول قاما ; لأن القائم إنما هو أحدهما لا غير ، ولا يجوز قاما إلا في أو خاصة ؛ وذلك شذوذ لا يقاس عليه . قال الله تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ؛ فأعاد الضمير على الغني والفقير لتفرقهما في الذكر ، انتهى . وهذا ليس بسديد . ولا شذوذ في الآية ، ولا دليل فيها على جواز : زيد أو عمرو قاما على جهة الشذوذ ، ولا غيره . ولأن قوله ( فالله أولى بهما ) ليس بجواب كما قررناه ، والضمير ليس عائدا على الغني والفقير الملفوظ بهما في الآية ؛ وإنما يعود على ما دل عليه المعنى من جنسي الغني والفقير . وقرأ عبد الله : إن يكن غني أو فقير على أن ( كان ) تامة .
( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) لما أمر تعالى بالقيام بالعدل وبالشهادة لمرضاة الله نهى عن اتباع الهوى ، وهو ما تميل إليه النفس مما لم يبحه الله تعالى ، وإن تعدلوا من العدول عن الحق ، أو من العدل ، وهو القسط . فعلى الأول يكون التقدير : إرادة أن تجوروا ، أو محبة أن تجوروا . وعلى الثاني يكون التقدير : كراهة أن تعدلوا بين الناس ، وتقسطوا . وعكس ابن عطية هذا التقدير ؛ فقال : يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا ، ويكون العدل بمعنى القسط ؛ كأنه قال : انتهوا خوف أن تجوروا ، أو محبة أن تقسطوا . فإن جعلت العامل ( تتبعوا ) فيحتمل أن يكون المعنى : محبة أن تجوروا انتهى كلامه . وهذا الذي قرره من التقدير يكون العامل في أن تعدلوا فعلا محذوفا من معنى النهي . وكان الكلام قد تم عند قوله : فلا تتبعوا الهوى ، ثم أضمر فعلا ، وقدره : انتهوا خوف أن تجوروا ، أو محبة أن تقسطوا ؛ ولذلك قال : فإن جعلت العامل تتبعوا . والذي يدل عليه الظاهر أن العامل هو تتبعوا ، ولا حاجة إلى إضمار جملة أخرى ؛ فيكون فعلها عاملا في ( أن تعدلوا ) . وإذا كان العامل تتبعوا ؛ فيكون التقدير الأول هو المتجه ، وعلى هذه التقادير فـ ( أن تعدلوا ) [ ص: 371 ] مفعول من أجله . وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون التقدير : أن لا تعدلوا ؛ فحذف ( لا ) أي لا تتبعوا الهوى في ترك العدل . وقيل المعنى لا تتبعوا الهوى لتعدلوا ; أي لتكونوا في اتباعكموه عدولا ؛ تنبيها أن اتباع الهوى ، وتحري العدالة متنافيان لا يجتمعان . وقال أبو عبد الله الرازي : المعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل . والعدل عبارة عن ترك متابعة الهوى ، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر ؛ فالتقدير : لأجل أن تعدلوا .
( وإن تلووا أو تعرضوا ) الظاهر أن الخطاب للمأمورين بالقيام بالقسط والشهادة لله والمنهيين عن اتباع الهوى . وقال : هو في لي الحاكم عنقه عن أحد الخصمين . وقال ابن عباس مجاهد نحوه قال : لي الحاكم شدقه لأحد الخصمين ميلا إليه . وقال أيضا ابن عباس والضحاك والسدي وابن زيد ومجاهد : هي في الشهود يلوي الشهادة بلسانه فيحرفها ، ولا يقول الحق فيها ، أو يعرض عن أداء الحق فيها ، ويقول معناه : يدافعوا الشهادة من لي الغريم . وقال : وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق ، أو حكومة العدل ، أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم ، وتمنعوها . الزمخشري
وقرأ جماعة في الشاذ وابن عامر وحمزة : وإن تلوا بضم اللام بواو واحدة ، ولحن بعض النحويين قارئ هذه القراءة . قال : لا معنى للواية هنا ؛ وهذا لا يجوز ; لأنها قراءة متواترة في السبع ، ولها معنى صحيح وتخريج حسن ؛ فنقول : اختلف في قوله ( وإن تلووا ) .
فقيل هي من الولاية ; أي وإن وليتم إقامة الشهادة ، أو أعرضتم عن إقامتها ؛ والولاية على الشيء هو الإقبال عليه . وقيل هو من اللي ، وأصله : تلووا ، وأبدلت الواو المضمومة همزة ، ثم نقلت حركتها إلى اللام ، وحذفت . قال الفراء والزجاج وأبو علي والنحاس ، ونقل عن النحاس أيضا أنه استثقلت الحركة على الواو ، فألقيت على اللام ، وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين .
( فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) هذا فيه وعيد لمن لوى عن الشهادة أو أعرض عنها . ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ) مناسبتها لما قبلها ؛ أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالقيام بالقسط والشهادة لله ؛ بين أنه لا يتصف بذلك إلا من كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة ، في هذه الآية ، فأمر بها . والظاهر أنه خطاب للمؤمنين . ومعنى : آمنوا داوموا على الإيمان ؛ قاله الحسن ، وهو أرجح ; لأن لفظ المؤمن متى أطلق لا يتناول إلا المسلم . وقيل للمنافقين ; أي يا أيها الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم آمنوا بقلوبكم . وقيل لمن آمن بموسى وعيسى عليهما السلام ; أي يا من آمن بنبي من الأنبياء آمن بمحمد . وقيل هم جميع الخلق ; أي يا أيها الذين آمنوا يوم أخذ الميثاق حين قال : ( ألست بربكم قالوا بلى ) . وقيل اليهود خاصة . وقيل المشركون آمنوا باللات والعزى والأصنام والأوثان . وقيل : آمنوا على سبيل التقليد آمنوا على سبيل الاستدلال . وقيل آمنوا في الماضي والحاضر ، آمنوا في المستقبل .
ونظيره : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) مع أنه كان عالما بذلك . وروي أن ، عبد الله بن سلام وسلاما ابن أخته ، وسلمة ابن أخيه ، وأسدا وأسيدا ابني كعب ، وثعلبة بن قيس ، ويامين أتوا الرسول ، وقالوا نؤمن بك وبكتابك ، وموسى والتوراة ، وعزير ، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ؛ فقال عليه السلام : بل آمنوا بالله ورسوله وكتابه القرآن ، وبكل كتاب كان قبله ؛ فقالوا : لا نفعل ؛ فنزلت فآمنوا كلهم . والكتاب الذي نزل على رسوله هو القرآن بلا خلاف والكتاب الذي أنزل من قبل المراد به جنس الكتب الإلهية ، ويدل عليه قوله آخرا : وكتبه ، وإن كان الخطاب لليهود والنصارى ، فكيف قيل لهم ( والكتاب الذي أنزل من قبل ) ، وهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل . وأجيب عن ذلك بأنهم كانوا مؤمنين بهما فحسب ، وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل [ ص: 372 ] من الكتب ؛ فأمروا أن يؤمنوا بجميع الكتب . أو لأن إيمانهم ببعض لا يصح ; لأن طريق الإيمان بالجميع واحد ، وهو المعجزة . وقرأ العربيان ، وابن كثير : ( نزل ) و ( أنزل ) بالبناء للمفعول والباقون بالبناء للفاعل . قال : فإن قلت : لم قال نزل على رسوله ، وأنزل من قبل ؟ قلت : لأن القرآن نزل منجما مفرقا في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله ، انتهى . وهذه التفرقة بين ( نزل ) و ( أنزل ) لا تصح لأن التضعيف في ( نزل ) ليس للتكثير والتفريق ؛ وإنما هو للتعدية ، وهو مرادف للهمزة . وقد أشبعنا الرد على الزمخشري في دعواه ذلك أول سورة آل عمران . الزمخشري
( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ) جواب الشرط ليس مترتبا على الكفر بالمجموع ، بل المعنى : ومن يكفر بشيء من ذلك . وقرئ : وكتابه على الإفراد والمراد جنس الكتب . ولما كان خير الإيمان علق بثلاثة : بالله والرسول والكتب ; لأن الإيمان بالكتب تضمن الإيمان بالملائكة واليوم الآخر ، وبولغ في ذلك ; لأن الملك مغيب عنا ، وكذلك اليوم الآخر لم يقع ، وهو منتظر ، فنص عليهما على سبيل التوكيد ؛ ولئلا يتأولهما متأول على خلاف ما هما عليه . فمن أنكر الملائكة أو القيامة فهو كافر ، وقدم الكتب على الرسل على الترتيب الوجودي ; لأن الملك ينزل بالكتب والرسل تتلقى الكتب من الملك . وقدم في الأمر بالإيمان الموصول على الكتاب ; لأن الرسول أول ما يباشره المؤمن ثم يتلقى الكتاب منه . فحيث نفى الإيمان كان على الترتيب الوجودي ، وحيث أثبت كان على الترتيب اللقائي ، وهو راجع للوجود في حق المؤمن .