قوله : متكئين فيها على الأرائك منصوب على الحال من مفعول ( جزاهم ) ، والعامل فيها ( جزى ) ، ولا يعمل فيها صبروا ؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا ، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة ل ( جنة ) .
قال الفراء : وإن شئت جعلت ( متكئين ) تابعا ، كأنه قال : جزاهم جنة متكئين فيها .
وقال الأخفش : يجوز أن يكون منصوبا على المدح ، والضمير من فيها يعود إلى الجنة . والأرائك : السرر في الحجال ، وقد تقدم تفسيرها في سورة الكهف لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا الجملة في محل نصب على الحال من مفعول ( جزاهم ) ، فتكون من الحال المترادفة ، أو من الضمير في متكئين ، فتكون من الحال المتداخلة ، أو صفة أخرى للجنة . والزمهرير : أشد البرد ، والمعنى : أنهم لا يرون في الجنة حر الشمس ولا برد الزمهرير . ومنه قول الأعشى :
منعمة طفلة كالمها لم تر شمسا ولا زمهريرا
[ ص: 1566 ] وقال ثعلب : الزمهرير : القمر بلغة طيء ، وأنشد لشاعرهم :وليلة ظلامها قد اعتكر     قطعتها والزمهرير ما زهر 
ودانية عليهم ظلالها قرأ الجمهور ( دانية ) بالنصب عطفا على محل لا يرون ، أو على متكئين ، أو صفة لمحذوف : أي وجنة دانية ، كأنه قال : وجزاهم جنة دانية .
وقال الزجاج : هو صفة لجنة المتقدم ذكرها .
وقال الفراء : هو منصوب على المدح .
وقرأ أبو حيوة " ودانية " بالرفع على أنه خبر مقدم وظلالها مبتدأ مؤخر ، والجملة في موضع النصب على الحال .
والمعنى : أن ظلال الأشجار قريبة منهم مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس هنالك .
قال مقاتل : يعني شجرها قريب منهم .
وقرأ ابن مسعود " ودانيا عليهم " ذللت قطوفها تذليلا معطوف على ( دانية ) كأنه قال : ومذللة .
ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، والقطوف الثمار ، والمعنى : أنها سخرت ثمارها لمتناوليها تسخيرا كثيرا بحيث يتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك .
قال النحاس : المذلل : القريب المتناول ، .
ومنه قولهم حائط ذليل : أي قصير .
قال ابن قتيبة : ذللت : أدنيت ، من قولهم حائط ذليل : أي كان قصير السمك . وقيل ذللت : أي جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا .
ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب أي تدور عليهم الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية الفضة ، والأكواب جمع كوب ، وهو الكوز العظيم الذي لا أذن له ولا عروة ، ومنه قول عدي :
متكئ تقرع أبوابه     يسعى عليه العبد بالكوب  
كانت قوارير قوارير من فضة أي في وصف القوارير في الصفاء وفي بياض الفضة ، فصفاؤها صفاء الزجاج ، ولونها لون الفضة .
قرأ نافع ، والكسائي ، وأبو بكر قواريرا قواريرا بالتنوين فيهما مع الوصل ، وبالوقف عليهما بالألف ، وقد تقدم وجه هذه القراءة في تفسير قوله : ( سلاسل ) من هذه السورة ، وبينا هنالك وجه صرف ما فيه صيغة منتهى الجموع فارجع إليه .
وقرأ حمزة بعدم التنوين فيهما وعدم الوقف بالألف ، ووجه هذه القراءة ظاهر لأنهما ممتنعان لصيغة منتهى الجموع .
وقرأ هشام بعدم التنوين فيهما مع الوقف عليهما بالألف ، وقرأ ابن كثير بتنوين الأول دون الثاني والوقف على الأول بالألف دون الثاني .
وقرأ أبو عمرو ، وحفص ، وابن ذكوان بعدم التنوين فيهما ، والوقف على الأول بالألف دون الثاني ، والجملة في محل جر صفة ل ( أكواب ) .
قال أبو البقاء : وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها .
قال الواحدي : قال المفسرون : جعل الله قوارير أهل الجنة من فضة ، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير .
قال الزجاج : القوارير التي في الدنيا من الرمل ، فأعلم الله فضل تلك القوارير أن أصلها من فضة يرى من خارجها ما في داخلها ، وجملة قدروها تقديرا صفة لقوارير .
قرأ الجمهور قدروها بفتح القاف على البناء للفاعل : أي قدرها السقاة من الخدم الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة من دون زيادة ولا نقصان .
قال مجاهد وغيره : أتوا بها على قدر ريهم بغير زيادة ولا نقصان .
قال الكلبي : وذلك ألذ وأشهى ، وقيل : قدرها الملائكة ، وقيل قدرها أهل الجنة الشاربون على مقدار شهواتهم وحاجاتهم فجاءت كما يريدون في الشكل لا تزيد ولا تنقص .
وقرأ علي ، وابن عباس ، والسلمي ، والشعبي ، وزيد بن علي ، وعبيد بن عمير ، وأبو عمرو في رواية عنه قدروها بضم القاف وكسر الدال مبنيا للمفعول : أي جعلت لهم على قدر إرادتهم .
قال أبو علي الفارسي : هو من باب القلب ، قال : لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدرت عليهم لا قدروها ؛ لأنه في معنى قدروا عليها .
وقال أبو حاتم : التقدير قدرت الأواني على قدر ريهم ، فمفعول ما لم يسم فاعله محذوف .
قال أبو حيان : والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يقال : قدر ريهم منها تقديرا ، فحذف المضاف فصار قدروها .
وقال المهدوي : إن القراءة الأخيرة يرجع معناها إلى معنى القراءة الأولى ، وكأن الأصل قدروا عليها فحذف حرف الجر كما أنشد سيبويه :
آليت حب العراق  الدهر آكله     والحب يأكله في القرية السوس  
ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا قد تقدم أن الكأس هو الإناء فيه الخمر ، وإذا كان خاليا عن الخمر فلا يقال له كأس ، والمعنى : أن أهل الجنة يسقون في الجنة كأسا من الخمر ممزوجة بالزنجبيل وقد كانت العرب تستلذ مزج الشراب بالزنجبيل لطيب رائحته .
وقال مجاهد ، وقتادة : الزنجبيل اسم للعين التي يشرب بها المقربون .
وقال مقاتل : هو زنجبيل لا يشبه زنجبيل الدنيا .
عينا فيها تسمى سلسبيلا انتصاب عينا على أنها بدل من كأسا
ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مقدر : أي يسقون عينا ، ويجوز أن تكون منصوبة بنزع الخافض : أي من عين ، والسلسبيل : الشراب اللذيذ ، مأخوذ من السلاسة ، تقول العرب : هذا شراب سلس ، وسلسال وسلسبيل : أي طيب لذيذ .
قال الزجاج : السلسبيل في اللغة اسم لماء في غاية السلاسة حديد الجرية يسوغ في حلوقهم ، ومنه قول حسان بن ثابت :
يسقون من ورد البريص عليهم     كأسا يصفق بالرحيق السلسل  
ومعنى مخلدون باقون على ما هم عليه من الشباب والطراوة والنضارة ، لا يهرمون ولا يتغيرون ، وقيل معنى مخلدون لا يموتون ، وقيل التخليد التحلية : أي محلون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا إذا نظرت إليهم ظننتهم لمزيد حسنهم وصفاء [ ص: 1567 ] ألوانهم ونضارة وجوههم لؤلؤا مفرقا .
قال عطاء : يريد في بياض اللون وحسنه ، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوما .
قال أهل المعاني : إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة ، ولو كانوا صفا لشبهوا بالمنظوم ، وقيل إنما شبههم بالمنثور لأنهم سراع في الخدمة ، بخلاف الحور العين فإنه شبههن باللؤلؤ المكنون لأنهن لا يمتهن بالخدمة .
وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا أي وإذا رميت ببصرك هناك ، يعني في الجنة رأيت نعيما لا يوصف ، وملكا كبيرا لا يقادر قدره ، و " ثم " ظرف مكان ، والعامل فيها ( رأيت ) .
قال الفراء في الكلام ما مضمرة : أي وإذا رأيت ما ثم ، كقوله : لقد تقطع بينكم [ الأنعام : 94 ] أي ما بينكم .
قال الزجاج معترضا على الفراء : إنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة ، ولكن " رأيت " يتعدى في المعنى إلى ثم .
والمعنى : إذا رأيت ببصرك ثم ، ويعني بثم الجنة .
قال السدي : النعيم ما يتنعم به ، والملك الكبير : استئذان الملائكة عليهم ، وكذا قال مقاتل ، والكلبي .
وقيل إن " رأيت " ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر ولا منوي ، بل معناه : أن بصرك أينما وقع في الجنة رأيت نعيما وملكا كبيرا . عاليهم ثياب سندس قرأ نافع ، وحمزة ، وابن محيصن عاليهم بسكون الياء وكسر الهاء على أنه خبر مقدم ، وثياب مبتدأ مؤخر ،
أو على أن ( عاليهم ) مبتدأ ، و ( ثياب ) مرتفع بالفاعلية وإن لم يعتمد الوصف كما هو مذهب الأخفش .
وقال الفراء : هو مرفوع بالابتداء ، وخبره : ثياب سندس ، واسم الفاعل مراد به الجمع .
وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الهاء على أنه ظرف في محل رفع على أنه خبر مقدم ، و ( ثياب ) مبتدأ مؤخر ، كأنه قيل فوقهم ثياب .
قال الفراء : إن ( عاليهم ) بمعنى فوقهم ، وكذا قال ابن عطية .
قال أبو حيان : عال وعالية اسم فاعل ، فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب ، وقد تقدمه إلى هذا الزجاج وقال : هذا مما لا نعرفه في الظروف ولو كان ظرفا لم لم يجز إسكان الياء ، ولكنه نصب على الحال من شيئين : أحدهما الهاء والميم في قوله : يطوف عليهم أي على الأبرار ( ولدان ) عاليا الأبرار ثياب سندس أي يطوف عليهم في هذه الحال .
والثاني أن يكون حالا من الولدان : أي إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا في حال علو الثياب أبدانهم .
وقال أبو علي الفارسي : العامل في الحال إما لقاهم نضرة وسرورا وإما جزاهم بما صبروا .
قال : ويجوز أن يكون ظرفا .
وقرأ ابن سيرين ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : " عليهم " وهي قراءة واضحة المعنى ظاهرة الدلالة .
واختار أبو عبيد القراءة الأولى لقراءة ابن مسعود : " عليتهم " .
وقرأ الجمهور بإضافة ثياب إلى سندس .
وقرأ أبو حيوة ، وابن أبي عبلة بتنوين ( ثياب ) وقطعها عن الإضافة ورفع ( سندس ) ، و خضر وإستبرق على أن السندس نعت للثياب ؛ لأن السندس نوع من الثياب ، وعلى أن " خضر " نعت لسندس ؛ لأنه يكون أخضر وغير أخضر ، وعلى أن ( إستبرق ) معطوف على سندس : أي وثياب إستبرق ، والجمهور من القراء اختلفوا في خضر وإستبرق مع اتفاقهم على جر سندس بإضافة ( ثياب ) إليه ، فقرأ ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، وابن محيصن بجر " خضر " نعتا ل ( سندس ) ورفع ( إستبرق ) عطفا على ( ثياب ) : أي عليهم ثياب سندس وعليهم إستبرق .
وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر برفع ( خضر ) نعتا ل ( ثياب ) ، وجر " إستبرق " نعت لسندس .
واختار هذه القراءة أبو حاتم ، وأبو عبيد ، لأن الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي مرفوعة ، والإستبرق من جنس السندس .
وقرأ نافع ، وحفص برفع خضر وإستبرق لأن ( خضر ) نعت للثياب ، و ( إستبرق ) عطف على الثياب .
وقرأ الأعمش ، وحمزة ، والكسائي بجر " خضر وإستبرق " على أن ( خضر ) نعت للسندس ، و ( إستبرق ) معطوف على سندس .
وقرءوا كلهم بصرف ( إستبرق ) إلا ابن محيصن فإنه لم يصرفه ، قال : لأنه أعجمي ، ولا وجه لهذا لأنه نكرة إلا أن يقول إنه علم لهذا الجنس من الثياب .
والسندس : ما رق من الديباج .
والإستبرق : ما غلظ منه ، وقد تقدم تفسيرهما في سورة الكهف وحلوا أساور من فضة عطف على يطوف عليهم .
ذكر سبحانه هنا أنهم يحلون بأساور الفضة وفي سورة فاطر يحلون فيها من أساور من ذهب [ فاطر : 33 ] وفي سورة الحج يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا [ الحج : 23 ] ولا تعارض بين هذه الآيات لإمكان الجمع بأن يجعل لهم سوارات من ذهب وفضة ولؤلؤ ، أو بأن المراد أنهم يلبسون سوارات الذهب تارة ، وسوارات الفضة تارة ، وسوارات اللؤلؤ تارة ، أو أنه يلبس كل أحد منه ما تميل إليه نفسه من ذلك ، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال من ضمير عاليهم بتقدير ( قد ) وسقاهم ربهم شرابا طهورا هذا نوع آخر من الشراب الذي يمن الله عليهم به .
قال الفراء : يقول هو طهور ليس بنجس كما كان في الدنيا موصوفا بالنجاسة .
والمعنى : أن ذلك الشراب طاهر ليس كخمر الدنيا .
قال مقاتل : هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غش وغل وحسد .
قال أبو قلابة ، وإبراهيم النخعي : يؤتون بالطعام ، فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور ، فيشربون فتضمر بطونهم من ذلك ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك .
إن هذا كان لكم جزاء أي يقال لهم : إن هذا الذي ذكر من أنواع النعم كان لكم جزاء بأعمالكم : أي ثوابا لها وكان سعيكم مشكورا أي كان عملكم في الدنيا بطاعة الله مرضيا مقبولا ، وشكر الله سبحانه لعمل عبده هو قبوله لطاعته .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : الزمهرير هو البرد الشديد .
وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشتكت النار إلى ربها فقالت : رب أكل بعضي بعضا ، فجعل لها نفسين : نفسا في الصيف ، ونفسا في الشتاء ، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها ، وشدة ما تجدون في [ ص: 1568 ] الصيف من الحر من سمومها .
وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وهناد بن السري ، وعبد بن حميد ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله : ودانية عليهم ظلالها قال : قريبة وذللت قطوفها تذليلا قال : إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين وعلى أي حال شاءوا .
وفي لفظ قال : ذللت فيتناولون منها كيف شاءوا .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : آنية من فضة وصفاؤها كصفاء القوارير قدروها تقديرا قال : قدرت للكف .
وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والبيهقي عنه قال : لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها ، ولكن قوارير الجنة بياض الفضة في صفاء القوارير .
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : ليس في الجنة شيء إلا وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة .
وأخرج الفريابي عنه أيضا في قوله : قدروها تقديرا قال : أتوا بها على قدر الفم لا يفضلون شيئا ولا يشتهون بعدها شيئا .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه أيضا قدروها تقديرا قال : قدرتها السقاة .
وأخرج ابن المبارك ، وهناد ، وعبد بن حميد ، والبيهقي في البعث عن ابن عمرو قال : إن أدنى أهل الجنة منزلا من يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ليس عليه صاحبه ، وتلا هذه الآية إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا .
				
						
						
