( ثم ) بعد تحريك في تصحيح النية واستحضارك ما تقدم من عدم التقيد في الطلب بسن مخصوص ، وإنما المعتبر الفهم ، فلا تقيد في الأداء أيضا بسن ، بل ( حيث احتيج لك في شيء ) وذلك يختلف بحسب الزمان والمكان ، فلعلك تكون في بلاد مشهورة كثيرة العلماء لا يحتاج الناس فيها إلى ما عندك ، ولو كنت في بلاد مهجورة احتيج إليك فيه ; فحينئذ ( اروه ) وجوبا حسبما صرح به الخطيب في ( جامعه ) فقال : [ ص: 228 ] فإن احتيج إليه في رواية الحديث قبل أن يعلو سنه وجب عليه أن يحدث ولا يمتنع ; لأن نشر العلم عند الحاجة إليه لازم ، والممتنع من ذلك عاص آثم . وساق حديث : ( ) . من سئل عن علم نافع فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار
وحديث : ( مثل الذي يتعلم علما ثم لا يحدث به ) . وقد مضى قريبا ، وقول : سعيد بن جبير الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل . قال : هذا في العلم ، ليس للدنيا منه شيء .
وقول : ابن المبارك ; إما أن يموت فيذهب علمه ، أو ينساه ، أو يتبع سلطانا . وقول من بخل بالعلم ابتلي بإحدى ثلاث ربيعة : لا ينبغي لأحد يعلم أن عنده شيئا من العلم أن يضيع نفسه . وعن قال : إنما حمل علي بن حرب على التحديث أنه رأى في النوم كأنه في روضة خضراء وفيها كراسي موضوعة ، على كرسي منها زائدة ، وعلى آخر فضيل ، وذكر رجالا ، وكرسي منها ليس عليه أحد قال : فأهويت نحوه فمنعت ، فقلت : هؤلاء أصحابي أجلس إليهم . فقيل لي : إن هؤلاء بذلوا ما استودعوا ، وإنك منعته . فأصبح يحدث . حسين بن علي الجعفي
ولكن قال : إن الذي نقوله : إنه متى احتيج إلى ما عنده استحب له التصدي لروايته ونشره في أي سن كان . فإما أن يكون يخالف ابن الصلاح الخطيب في الوجوب ، أو يكون الاستحباب في التصدي [ ص: 229 ] بخصوصه . على أن الولي ابن المصنف قال : والذي أقوله : إنه إن لم يكن ذلك الحديث في ذلك البلد إلا عنده ، واحتيج إليه ، وجب عليه التحديث به ، وإن كان هناك غيره فهو فرض كفاية .
[ في تحديد السن والرد عليه الرامهرمزي ] : قول
( و ) على كل حال قد ( سلك ) في كتابه ( المحدث الفاصل ) التحديد ، حيث صرح ( بأنه يحسن ) أن يحدث ( للخمسينا عاما ) أي بعد استكمالها . وقال : إنه الذي يصح عنده من طريق الأثر والنظر ; لأنها انتهاء الكهولة ، وفيها مجتمع الأشد ، قال فأبو محمد ( ابن خلاد ) الرامهرمزي سحيم بن وثيل الرياحي :
أخو خمسين مجتمع أشدي ونجذني مداورة الشئون
يعني : أحنكتني معالجة الأمور . قال : ( ولا بأس ) به ( لأربعينا ) عاما ، أي بعدها ، فليس ذلك بمستنكر ; لأنها حد الاستواء ، ومنتهى الكمال ، نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين ، وفي الأربعين تتناهى عزيمة الإنسان وقوته ، ويتوفر عقله ويجود رأيه . انتهى .وقد روينا عن مجاهد ، عن أنه قرأ : ابن عباس ولما بلغ أشده . قال : ثلاث وثلاثون ، واستوى . قال : أربعون سنة . وقيل في الأشد غير ذلك ، ( و ) قد ( رد ) هذا على ابن خلاد حيث لم يعكس صنيعه ، ويجعل الأربعين التي وصفها مما ذكر حدا لما يستحسن ، والخمسين التي يأخذ صاحبها غالبا في الانحطاط [ ص: 230 ] وضعف القوى حدا لما لا يستنكر ، أو يجعل الأربعين التي للجواز أولا ، ثم يردف بالخمسين التي للاستحسان .
والأمر في ذلك سهل ، بل رد عليه مطلق التحديد ، فقال عياض في ( إلماعه ) واستحسانه : هذا لا يقوم له حجة بما قال . قال : وكم من السلف المتقدمين فمن بعدهم من المحدثين من لم ينته إلى هذا السن ولا استوفى في هذا العمر ، ومات قبله .
وقد نشر من العلم والحديث ما لا يحصى ، هذا توفي ولم يكمل الأربعين ، عمر بن عبد العزيز لم يبلغ الخمسين ، وكذا وسعيد بن جبير ، وهذا إبراهيم النخعي مالك قد جلس للناس ابن نيف وعشرين سنة ، وقيل : ابن سبع عشرة . والناس متوافرون ، وشيوخه ربيعة وابن شهاب وابن هرمز ونافع وغيرهم أحياء ، وقد سمع منه وابن المنكدر حديث ابن شهاب الفريعة أخت أبي سعيد الخدري .
ثم قال : وكذلك قد أخذ عنه العلم في سن الحداثة ، وانتصب لذلك في آخرين من الأئمة المتقدمين والمتأخرين . انتهى . الشافعي
وروى الخطيب في ( جامعه ) من طريق بندار قال : كتب عني خمسة قرون ، وسألوني التحديث وأنا ابن ثماني عشرة سنة ، فاستحييت أن أحدثهم بالمدينة ، فأخرجتهم إلى البستان فأطعمتهم الرطب وحدثتهم .
ومن طريق أبي بكر الأعين قال : كتبنا عن على باب البخاري وما في وجهه شعرة . فقلت : ابن كم كان ؟ قال : ابن سبع عشرة سنة . الفريابي
قال الخطيب : وقد حدثت أنا ولي عشرون سنة [ ص: 231 ] حين قدمت من البصرة ، كتب عني شيخنا أشياء أدخلها في تصانيفه ، وسألني فقرأتها عليه ، وذلك في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة ( 412 ه ) . أبو القاسم الأزهري
قلت : ولم يكن حينئذ استوفى عشر سنين من حين طلبه ، فقد روينا عنه أنه قال : أول ما سمعت الحديث ولي إحدى عشرة سنة ; لأني ولدت في جمادى الأولى سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ( 392 ) ، وأول ما سمعت في المحرم سنة ثلاث وأربعمائة ( 403 ) .
وكذا حدث الحافظ أبو العباس أحمد بن مظفر وسنه ثمان عشرة ، سمع منه في السنة التي ابتدأ الطلب فيها ، وهي سنة ثلاث وتسعين وستمائة ( 693 ه ) ، وحدث عنه في ( معجمه ) بحديث من ( الأفراد ) الحافظ الذهبي ، وقال للدارقطني عقبه : أملاه علي ابن مظفر وهو أمرد .
وحدث أبو الثناء محمود بن خليفة المنبجي وله عشرون سنة ، سمع منه التقي السبكي أحاديث من ( فضائل القرآن ) لأبي عبيد ، وحدث الشيخ المصنف سنة خمس وأربعين وسبعمائة ( 745 ) وله عشرون سنة ، سمع منه الشهاب أبو محمود أحمد بن محمد بن إبراهيم المقدسي ، وكذا سمع منه [ ص: 232 ] بعد ذلك سنة أربع وخمسين شيخه العماد ابن كثير في آخرين كالمحب بن الهائم ، حيث حدث ودرس وقرظ لشيخنا بعض تصانيفه ومات وهو ابن ثماني عشرة سنة ، وذلك من باب رواية الأكابر عن الأصاغر .
وما أحسن قول : الجاهل صغير وإن كان شيخا ، والعالم كبير وإن كان حدثا . عبد الله بن المعتز
[ تأويل كلام الرامهرمزي من ابن الصلاح ] :
( و ) لكن ( الشيخ ) قد حمل كلام ابن الصلاح على محمل صحيح ، حيث ( بغير البارع ) في العلم ( خصص ) تحديده ، فإنه قال : وما ذكره ابن خلاد غير مستنكر ، وهو محمول على أنه قاله فيمن يتصدى للتحديث ابتداء من نفسه من غير براعة في العلم تعجلت له قبل السن الذي ذكره ، فهذا إنما ينبغي له ذلك بعد استيفاء السن المذكور ، فإنه مظنة للاحتياج إلى ما عنده ، ( لا ابن خلاد كمالك ) وسائر من ذكرهم والشافعي عياض ممن حدث قبل ذلك ; لأن الظاهر أن ذلك لبراعة منهم في العلم تقدمت ظهر لهم معها الاحتياج إليهم ، فحدثوا قبل ذلك ، أو لأنهم سئلوا ذلك ، إما بصريح السؤال ، وإما بقرينة الحال . انتهى .
[ ص: 233 ] وعلى هذا يحمل كلام الخطيب أيضا فإنه قال : لا ينبغي أن يتصدى صاحب الحديث للرواية إلا بعد دخوله في السن ، وأما في الحداثة فإن ذلك غير مستحسن . ثم ساق عن أنه قال : جهل الشباب معذور ، وعلمه محقور . وعن عبد الله بن المعتز أنه قيل له : إن حماد بن زيد خالدا يحدث ، فقال : عجل خالد .