فصل : فإذا ثبت أن لا فرق في التيمم بين طويل السفر وقصيره ، : واجب ، ومباح ، ومعصية : فأما الواجب فكسفر الحج ، وأما المباح فكسفر التجارة ، التيمم فهو جائز ، وأداء الصلاة في الحالين صحيح ، وأما فالسفر على ثلاثة أضرب فكسفر البغاة وقطاع الطريق فإذا عدم فيه الماء تيمم وصلى ، وفي وجوب الإعادة وجهان : المعصية
أحدهما : عليه الإعادة ، لأن العاصي لا يترخص كما لا يقصر ، ولا يفطر .
والوجه الثاني : لا إعادة عليه لأن التيمم في السفر فرض لا يجوز تركه وليس كالرخصة بالقصر والفطر الذي هو مخير بين فعله وتركه .
والعاصي يصح منه أداء الفرض مع معصيته ، وأما كالقرية التي ماؤها من بئر تغور أو عين تغيض أو نهر ينقطع فقد اختلف الفقهاء فيمن عدم الماء في الحضر في مثل هذه الحال على ثلاثة مذاهب : العادم للماء في الحضر
أحدها : وهو مذهب الشافعي أن عليه أن يتيمم ويصلي ثم يعيد إذا وجد الماء .
والمذهب الثاني : وهو مذهب مالك أنه يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه .
والثالث : وهو مذهب أبي حنيفة أنه لا يتيمم ولا يصلي فإذا وجد الماء استعمله وصلى ، وهذه رواية زفر عنه ، وقد روى الطحاوي عنه مثل مذهب الشافعي فأما مالك فإنه استدل بأن من لزمه فرض الصلاة بالتيمم سقط عنه فرضها بالتيمم كالمسافر ، ولأنها طهارة إذا لزمت في السفر سقط بها الفرض فوجب إذا لزمت في الحضر أن يسقط بها الفرض كالوضوء والدليل عليه قوله تعالى : وإن كنتم مرضى أو على سفر فجعل للتيمم شرطين : هما السفر والمرض ، فلم يسقط الفرض إلا بهما ليكون للشرط فائدة ، ولأن السفر شرط أبيح التيمم لأجله ، فوجب أن لا يسقط الفرض بعقده كالمرض ، ولأنه مقيم صحيح ، فلم يسقط فرضه بالتيمم كالواجد للماء ، ولأن عدم الماء في الحضر عذر نادر : لأن الأوطان لا تبنى على غير ماء ، وعدمه في السفر عذر عام والأعذار العامة إذا سقط الفرض بها لم توجب سقوط الفرض بالنادر منها كالعادم للماء والتراب .
وأما الجواب عن قياسه على المسافر فالمعنى في السفر أن عدم الماء في عذر عام ، وأما قياسه على الوضوء فالمعنى فيه ارتفاع الضرورة عنه .
[ ص: 268 ] فصل : وأما أبو حنيفة فاستدل على أن التيمم لا يجب عليه لقوله تعالى : وإن كنتم مرضى أو على سفر [ المائدة : 6 ] . وهذا ليس بمريض ولا مسافر ، قال : ولأنه تيمم لا يسقط به الفرض فوجب أن لا يلزمه كالتيمم بالتراب النجس ، ولأنه مقيم سليم فلم يلزمه التيمم كالواجد للماء ، ولأنها صلاة لا تؤدى فرضا ، فلم يلزم فعلها كصلاة الحائض .
ودليلنا قوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا [ المائدة : 6 ] وهذا غير واجد للماء ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا ذر أن يتيمم بالربذة إذا عدم الماء وكانت وطنا ، ولأنه مكلف إدراك الوقت فوجب أن يلزمه التيمم عند عدم الماء كالمسافر ، ولأن كل معنى لو حدث في السفر أوجب التيمم فإذا حدث في الحضر أوجب التيمم كالمرض ، ولأن كل عجز لو حصل في شروط الصلاة لم يسقط فعلها في السفر فإنه لا يسقط فعلها في الحضر ، كالعجز عن القيام والثوب ، ولأنها صلاة عجز عن فعلها بالماء فجاز له فعلها بالتراب ، كصلاة الجنازة والعيدين .
فأما الجواب عن قوله : وإن كنتم مرضى أو على سفر فإنما جعل السفر شرطا في سقوط الفرض لا في جواز التيمم ، وأما الجواب عن قياسهم على التراب النجس فهو أن المعنى في التراب النجس أنه لما يلزم استعماله في السفر له يلزم استعماله في الحضر .
وأما قياسه على الواجد للماء فالمعنى فيه : أنه لما لزمه أعلى الطهارتين سقط عنه أدناهما ، وليس كذلك العادم .
وأما الجواب عن قياسهم على الحائض فهو أن الحائض لما لم يلزمها فرض لم يلزمها النفل ، وليس كذلك العادم ، ثم لا يلزم أن يكون الإتيان بالمأمور دليلا على أنه جميع التكليف ، ألا ترى أن من أصبح لا يرى أن يومه من رمضان ثم علم أنه من رمضان فإنه يصوم ويقضي ولو أفسد حجه مضى فيه وقضاه .
فصل : فأما فوجب عليه أن يصلي لحرمة الوقت ويعيد إذا قدر على الماء مسافرا كان أو حاضرا ، فيكون فعلها في الحال واجبا وإعادتها واجبة ، وقال في القديم ، والإملاء : يصلي في الحال استحبابا ويعيدها واجبا ، وقال العادم للماء والتراب معا أبو حنيفة : لا يلزمه أن يصلي ولا يستحب له حتى يقدر على الطهارة فيتطهر ويصلي ، استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم : " " فاقتضى أن لا يجوز افتتاحها بغير وضوء قال : ولأن عدم الطهارة أصلا وبدلا يمنع من انعقاد الصلاة كالحائض : قال : ولأن كل صلاة لم يسقط عنه الفرض بفعلها لم يلزمه الإتيان بها كالمحدث مع وجود الماء . مفتاح الصلاة الوضوء
ودليلنا قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل [ الإسراء : 78 ] ولم يفرق ، ولأنه مكلف بالصلاة عدم شرطا من شرائطها فوجب أن يلزمه فعلها كالعريان ، [ ص: 269 ] ولأنه تطهير لو قدر عليه لزمه فعله لأجل الصلاة ، فإذا عجز عنه لزمه فعل الصلاة ، أصله إذا كان على بدنه نجاسة عجز عن إزالتها بالماء ، لأنه لا فرق بين أن يعجز عن إزالة النجاسة لفقد الماء ، وبين أن يعجز عن تطهير الحدث بالتراب والماء ، ولأن كل عبادتين كانت إحداهما شرطا في أداء الأخرى عند التمكن منها لم يكن العجز عن الشرط مسقطا فرض المشروط لها كالتوجه والقراءة وستر العورة .
فأما الجواب عن قوله : " فهو أن لفظه وإن جرى مجرى الخبر فمعناه مضى الأمر والأوامر تتوجه إلى المطيق لها ، فصار ما اختلفنا فيه غير داخل في المراد به ، وأما قياسهم على الحائض ، فالمعنى فيها : أنها لما لم يلزمها فرض لم يلزمها فعلها ، وليس هو كذلك المحدث ، وأما قياسهم على الواجد للماء فالمعنى فيه أنه قادر على أدائها بالطهارة ، فلم يجز أن يفعلها بغير طهارة ، وليس كذلك العاجز عنها . " مفتاح الصلاة الوضوء