مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " فإن مات أحدهما قبل أن يتفرقا فالخيار لوارثه "
قال الماوردي : ذكر الشافعي في هذا الموضع من كتاب البيوع أن خيار المجلس لا يبطل بالموت ويكون موروثا .
وقال في كتاب المكاتب : إن ، فقد وجب البيع . مات المكاتب وقد باع أو اشترى قبل أن يتفرقا
زاد أبو حامد في جامعه : ولم يكن للسيد الخيار .
فظاهر قوله : فقد وجب البيع : يوجب قطع الخيار بالموت وأن لا يكون موروثا لسيده ، وقد صرح به أبو حامد في الزيادة التي ذكرها .
واختلف أصحابنا في اختلاف نصه في هذين الموضعين على ثلاثة مذاهب :
أحدها : وهو مذهب أبي إسحاق المروزي : أن المسألة على قولين في الموضعين : أحدهما : أن الموت يقطع خيار المجلس في بيع الحر والمكاتب ، ولا ينتقل إلى وارث الحر ولا إلى سيد المكاتب : لأنه لما انقطع الخيار بمفارقة الأبدان ، فأولى أن ينقطع بالموت المفرق بين الأرواح والأبدان .
والقول الثاني : أن الخيار لا ينقطع بالموت ، وينتقل إلى وارث الحر وسيد المكاتب - وهو أصح القولين - لأن الخيار قد ثبت في المجلس بالعقد وفي الثلاث بالشرط ، فلما لم ينقطع خيار الثلاث بالموت وكان موروثا ، وجب أن لا ينقطع خيار المجلس بالموت ويكون موروثا .
ولأنه لما لم ينقطع خيار المجلس بالتفرق على وجه الإكراه ، كان أولى أن لا يبطل بالموت ، لأنه أكثر إكراها .
والمذهب الثاني من مذاهب أصحابنا : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة : أن المسألة على قول واحد في الموضعين ، وأن الخيار لا ينقطع بالموت ، لما ذكرنا ، ويكون متنقلا إلى وارث الحر وسيد المكاتب .
وقوله في المكاتب : فقد وجب البيع :
قصد به الرد على من زعم أن المكاتب إذا مات في مدة الخيار بطل البيع : لأنه يموت عبدا .
[ ص: 58 ] والمذهب الثالث : أن الجواب مختلف على اختلاف نصيه في الموضعين ، فيكون الخيار منتقلا عن الحر إلى وارثه ، ولا ينقطع بموته ، ولا ينتقل عن المكاتب إلى سيده ، وينقطع بموته .
والفرق بينهما : أن الحر ينتقل ماله إلى وارثه بالإرث وحدوث الفوت ، فقام في الخيار مقام مورثه ، كما قام مقامه في غيره . وليس كذلك المكاتب : لأنه ينتقل ماله إلى سيده بالملك المتقدم ، لا بالإرث ، فلما بطل خيار المكاتب بالموت لم ينتقل إلى سيده بحق الملك ، كالوكيل إذا مات في مدة الخيار لم ينتقل الخيار إلى موكله ، لأنه ينتقل إليه بحق الملك لا بالإرث .
فصل : فأما إذا جن أحد المتبايعين في خيار المجلس ، فالخيار ثابت لا ينقطع بما حدث من الجنون : لأن الحقوق لا تبطل بحدوثه ، وسواء فارق المجنون المجلس أو قام فيه : لأن فعل المجنون لا حكم له ، فلم ينقطع الخيار بفراقه . وينتقل الخيار عنه إلى وليه ، كما ينتقل خيار الميت إلى وارثه . ويكون الخيار باقيا لولي المجنون ووارث الميت ما لم يعلما بالحال ولم يفارق العاقد الآخر المكان .
فإذا علم ولي المجنون ووارث الميت ، فلهما الخيار في مجلسهما الذي علما فيه ما لم يفارقاه . فإن فارقا المجلس الذي علما فيه ، أو فارق العاقد الآخر المكان الذي عقد البيع فيه ، فقد انقطع الخيار ولزم البيع .
فصل : فأما خيار الثلاث ، فلا يختلف مذهب الشافعي أنه موروث لا يبطل بالموت .
وقال أبو حنيفة : خيار الثلاث يبطل بالموت ولا يورث .
استدلالا بأنه خيار يمنع من انتقال الملك ، فوجب أن يبطل بالموت كخيار القبول . قال : ولأن ، كما أن الأجل في الثمن ينفي موجب العقد فمنع من جواز تصرف البائع فيه ، ثم ثبت أن الأجل يبطل بالموت ، فاقتضى أن يكون الخيار باطلا بالموت . الخيار في المبيع ينفي موجب العقد من جواز التصرف فيه
وتحريره قياسا :
أنه معنى ينفي موجب العقد ، فوجب أن يبطل بالموت كالأجل .
قال : ولأن الخيار من حقوق العقد ، لا من حقوق الملك ، والورثة إنما يخلفون الميت في الملك لا في العقد ، فوجب أن لا يكون لهم في الخيار حق . ألا ترى أن الموكل لا يثبت له ما ثبت لوكيله من خيار الشرط : لأنه من حقوق العقد ، ويثبت له خيار العيب : لأنه من حقوق الملك .
[ ص: 59 ] ولأن هذا الخيار مستحق بالشرط ، فوجب أن يكون مقصورا على من شرط له ، والوارث لم يشترط له الخيار ، فوجب أن لا يستحقه .
ودليلنا : هو أنه خيار ثابت في بيع ، فجاز أن يقوم الوارث فيه مقام مورثه كخيار العيب : ولأنه معنى يسقط التكليف ، فوجب أن لا يقطع الخيار المستحق كالجنون : ولأن كل خيار لا ينقطع بالجنون لا ينقطع بالموت كخيار العيب : ولأن الخيار من حقوق الملك لا من حقوق العقد ، بدليل ثبوته بعد تقضي العقد ، فوجب إذا انتقل الملك إلى الوارث أن ينتقل إليه بحقوقه كالرهن المشروط في حقه . وفي هذا الاستدلال انفصال .
فأما الجواب عما ذكروه من قياسهم على خيار القبول :
فهو أن المعنى في خيار القبول أنه لما بطل بالجنون ، بطل بالموت ، على أن من أصحابنا من يقول : لم يبطل بالموت ، وإنما بطل بالتراخي ومن شروط صحته أن يكون على الفور ، وهذا قول أبي القاسم الداركي .
حتى قال : لو كان الموت عقيب البذل ، فقال الوارث في الحال : قد قبلت ، صح العقد ، إذا لم يقع التراخي بين بذل البائع وقبول الوارث .
وهذا قول يخالف الإجماع . والجواب الأول : هو الصحيح .
وأما الجواب عن قياسهم على الأجل :
فالمعنى فيه : أن الموت لما أتلف الذمة التي أثبت فيها الدين المؤجل ، أبطل الأجل ، لتلف محله ، ولم يجز أن ينتقل الدين بأجله إلى ذمة الوارث ، لأن صاحب الدين لم يرض بذمته . وليس كذلك الخيار : لأنه مستحق في المبيع الموجود بعد الموت ، كوجوده قبل الموت ، فجاز أن لا يبطل بالموت ، ألا ترى أن موت من له الدين لما لم يكن متلفا للذمة التي يثبت فيها الأجل لم يكن موته مبطلا للأجل .
وأما الجواب عن قولهم : لأنه مستحق بالشرط ، فوجب أن يكون مقصورا على من له الشرط : فهو أنه باطل بالصفة المشروطة في المبيع ، وهو أن يبتاع عبدا على أنه صانع فيوجد غير صانع ، فللوارث الخيار في فسخ البيع : لعدم الصفة المستحقة بالشرط وإن كان الشرط لغيره ، على أن الخيار حق عليه فلم يصح إعراضه في اختلاف مستحقيه كالدين .
فصل : فإذا ثبت أن خيار الثلاث موروث :
فإن كان الوارث واحدا ، كان بالخيار في مدة الخيار بين إمضاء البيع في المبيع كله أو فسخ جميعه .
وإن كانوا جماعة : فإن اتفقوا على إمساك المبيع كله أو رد جميعه ، فذاك لهم .
وإن أراد بعضهم الرد وبعضهم الإمساك ؟
[ ص: 60 ] فمذهب الشافعي : أنه ليس لهم ذلك ، وقيل لمن أراد الرد : لا حق لك في الرد إلا أن يرد الباقون معك ، لأن الصفقة واحدة ، فلم يجز تبعيضها على البائع .
وفيه وجه آخر أنه يجوز لكل واحد من الورثة أن ينفرد برد حصته دون شركائه : لأنه يرد جميع ما استحقه بالعقد ، فصار في حكم المشترين صفقة .
هذا كله إذا كان الميت هو المشتري .
أما إن كان الميت هو البائع ، فلكل واحد من ورثته أن ينفرد ، فيفسخ للبيع في حصته ، لا يختلف فيه المذهب .
بخلاف ورثة المشتري ، وإنما كان كذلك : لأنه إذا فسخ بعض ورثة البائع في حصته ، ثبت للمشتري خيار الفسخ في الباقي ، لتبعيض الصفقة ، فأمكنه دفع الضرر عن نفسه . وليس كذلك إذا مات المشتري فأمسك بعض ورثته ورد بعضهم ، لأن البائع لا يثبت له بذلك خيار يمكنه أن يدفع به الضرر عن نفسه .
فصل : ، سقط الخيار ولزم البيع ، لأن تحديد الخيار بالثلاث يمنع من ثبوته بعد الثلاث . إذا مات أحد المتعاقدين في مدة خيار الثلاث ، فلم يعلم الوارث حتى مضت الثلاث