[ ص: 316 ] باب اختلاف نية الإمام والمأموم وغير ذلك
قال الشافعي ، رضي الله عنه : " وإذا أجزأتهم الصلاة جميعا ، وقد أدى كل فرضه ، وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الإمام بقوم الظهر في وقت العصر وجاء قوم فصلوا خلفه ينوون العصر لمعاذ بن جبل أن يصلي معه المكتوبة ، ثم يصلي بقومه هي له نافلة ولهم مكتوبة ، وقد كان عطاء يصلي مع الإمام القنوت ، ثم يعتد بها من العتمة ، فإذا سلم الإمام قام فبنى ركعتين من العتمة . ( قال المزني ) : وإذا جاز أن يأتم المصلي نافلة خلف المصلي فريضة فكذلك المصلي فريضة خلف المصلي نافلة وفريضة ، وبالله التوفيق " .
قال الماوردي : وهذا كما قال : قد اختلف الفقهاء في ومذاهب العلماء فيها على ثلاثة مذاهب : اختلاف نية الإمام والمأموم
أحدها : وهو مذهب الشافعي يجوز للمتنفل أن يأتم بالمفترض ، والمفترض بالمتنفل ، والمفترض بالمفترض ، في فرضين مثلين ، أو مختلفين ، مثل الظهر خلف العصر ، أو العصر خلف الظهر ، وهذا أوسع المذاهب ، وهو إجماع الصحابة ، رضي الله عنهم ، وبه قال من التابعين عطاء ، وطاوس ، ومن الفقهاء الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق .
والمذهب الثاني : هو قول مالك ، والزهري ، وشعبة ، لا يجوز أن يختلف نية الإمام والمأموم بحال لا في فرض ولا في نفل ، فلا يأتم المفترض بالمتنفل ، ولا المتنفل بالمفترض ، ولا المفترض بالمفترض في فرضين مختلفين ، حتى يكونا مثلين في فرض ، أو نفل ، وهذا أضيق المذاهب .
والمذهب الثالث : وهو قول أبي حنيفة ، يجوز أن يأتم المتنفل بالمفترض ، ولا يجوز أن يأتم المفترض بالمتنفل ، ولا المفترض بالمفترض في فرضين مختلفين ، إلا أن يصلي خلف مفترض ، واستدل من منع من اختلاف نية الإمام والمأموم على تباين مذاهبهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ، فكان أمره بالائتمام على عمومه فيما ظهر من أفعاله أو خفي من نيته ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : إنما جعل الإمام ليؤتم به وفي اختلاف النية اختلاف القلوب ، قالوا : ولأنها صلاة لا يجوز أداؤها بنية صلاة الإمام فوجب أن لا يجوز الاقتداء فيها بالإمام كالمصلي الجمعة خلف المصلي الظهر . لا تختلفوا على أئمتكم فتختلف قلوبكم
[ ص: 317 ] قالوا : ولأنه قد خالف إمامه في مفروض صلاته فوجب أن يكون ذلك قادحا فيها ، قياسا على مخالفيه في ركوعه وسجوده .
والدلالة على صحة ما قلناه ما روي عن الشافعي ، عن إسماعيل بن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بطن النخل للإصلاح بين بني سليم ، ففرق أصحابه فريقين ، فصلى بطائفة ركعتين وسلم ، وصلى بالطائفة الثانية ركعتين وسلم وقيل : إنها كانت صلاة الظهر ، وقيل صلاة العصر .
وروي أنه صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة المغرب ثلاث ركعات وسلم ، وصلى بالطائفة الثانية ثلاث ركعات ، وسلم ، ومعلوم أن فرضه صلى الله عليه وسلم إحدى الصلاتين والأخرى نافلة ، وكلاهما للمأمومين فريضة ، فإن قيل : يجوز أن يكون في هذا الوقت الذي كانوا يصلون الفرض في كل يوم مرتين .
قلنا : إعادة الفرض غير معروف ، ولا مروي ، لأن الله تعالى فرض على خلقه خمسين صلاة ، أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ردها بشفاعته في تلك الليلة إلى خمس ، ثم استقر الفرض عليها ، ولم يفرضها عشرا ، ولا أمر بإعادة فرض منها بعد صحة أدائها ، ألا ترى إلى ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من الوادي وصلى الصبح قيل له : أتقضي الصبح في وقتها من الغد ؟ قال : " إن الله تعالى نهاكم عن الربا ، ثم يأمركم به .
وروى الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله أن معاذا كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ، ثم يرجع إلى بني سلمة فيصليها بقومه ، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ذات ليلة ، فصلى معه ، ورجع إلى قومه ، فصلاها بهم ، واستفتح بسورة البقرة فخرج رجل من صلاته ، فأتم لنفسه ، فلما قيل له : نافقت ؟ فقال : آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله . فأتاه ، فقال : إن معاذا يصلي معك ، ثم يصلي بنا ، وإنك أخرت العشاء ، فصلى معك ثم صلى بنا ، واستفتح بسورة البقرة ونحن أصحاب نواضح نعمل بأيدينا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : أفتان أنت يا معاذ ؟ أين أنت من سورة سبح اسم ربك الأعلى : والليل إذا يغشى .
فوجه الدلالة من هذا أن معاذا كان يؤدي فرضه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يصليها بقومه ، فتكون لهم فريضة ، وله نافلة .
فإن قال أصحاب أبي حنيفة : كانت صلاته خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم نافلة ، وبقومه فريضة ؟ قيل : هذا لا يصح لثلاثة أشياء :
[ ص: 318 ] أحدها : أن جابر بن عبد الله ، وهو راوي الحديث يقول : كان معاذ بن جبل يصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة ، ثم ينصرف فيصلي بقومه ، هي لهم فريضة وله نافلة " وجابر لا يقول هذا إلا عن علم .
والثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فكيف يجوز لمعاذ مع سماع هذا أن يصلي النافلة عند قيام المكتوبة .
والثالث : أن معاذا كان يعلم أن فرضه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من فرضه إماما بقومه ، وهو لا يختار لنفسه إلا أفضل الحالين ، ولا يجوز أن يظن به اختيار أنقصهما .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله عز وجل ، قالت بنو سلمة : هذا أقرؤنا يا رسول الله يعنون عمرو بن سلمة ، وكان صغيرا لم يبلغ .
فقال صلى الله عليه وسلم : يؤمكم معاذ ، إن صلاة غير البالغ نافلة له فقد جوز للمفترضين أن يصلوا خلفه ، ولأن ما ذكرناه إجماع الصحابة ، بدليل ما روي أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، صلى بالناس ، فسمع من خلفه صوتا ، فقال : عزمت على من كان منه هذا إلا قام فتوضأ ، وأعاد صلاته ، فلم يقم أحد ، ثم أعاد الثانية فلم يقم أحد ، فقال له في الثالثة العباس بن عبد المطلب ، وقيل : بل قال له جرير بن عبد الله : لو عزمت علينا كلنا فقمنا ، فقال عمر رضي الله عنه : لقد كنت سيدا في الجاهلية وسيدا في الإسلام ، ثم قال عمر ، رضي الله عنه : قد عزمت عليكم كلكم وأنا معكم ، ثم مضوا فتوضئوا ، وعادوا فصلى بهم عمر ، رضي الله عنه ، فكانت صلاة عمر رضي الله عنه نافلة ، وصلاة من خرجت منه الريح فريضة ، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك ، فدل على إجماعهم ، ولأنهما صلاتان متفقتان في الأفعال الظاهرة تؤدى جماعة ، وفرادى ، فجاز أن تؤدى إحداهما خلف الأخرى .
أصله : مع أبي حنيفة صلاة المتنفل خلف المفترض .
وقولنا : متفقتان في الأفعال الظاهرة ، احترازا من المفترض يصلي خلف من يصلي " الكسوف " ، وقولنا : فرادى ، احترازا من الجمعة خلف الظهر ، ولأن الجماعة لما اشترطت للفضيلة لا للفريضة جاز أن يختلفا في النية ، كالنوافل المختلفة ، ولأنه لو كانت المساواة في النية شرطا معتبرا لمنع المتنفل من الصلاة خلف المفترض ، لاختلافهما في النية ، وفي ذلك دليل على أن . المساواة في النية غير معتبرة
فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم . إنما جعل الإمام ليؤتم به
[ ص: 319 ] قلنا : المراد به الاقتداء بما يظهر من أفعاله دون نيته ، وما خفي من أفعاله لأن في الابتداء بها تكليف ما لا يطاق وذلك غير مستطاع ، فلم يصرف الخبر إلا إلى أمكن تكليفه من أفعاله الظاهرة ، ألا تراه قال : فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا .
وكذلك الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : لا تختلفوا على أئمتكم .
وأما قياسهم على الجمعة ، فالمعنى في الجمعة : أنه لما كان من شرطها الإمام كان من شرطها أن يوافق نية الإمام ، ولما لم يكن الإمام شرطا في سائر الفرائض لم تكن موافقة الإمام في النية شرطا فيها ، وأما قياسهم على اختلافها في أفعال الصلاة من الركوع والسجود ، فإن كان المستدل به حنفيا : انتقض عليه بالمتنفل خلف المفترض ، وإن كان مالكيا : قيل قياسك هذا يعترض عليه بالسنة الثانية والإجماع المنعقد ، وينكسر بصلاة المقيم خلف المسافر قد اختلفت نياتهما ، وتفاضلت أفعالهما . وقد أجمع المسلمون وأنت معهم على جوازها .
ثم يقال لأبي حنيفة قد ناقضت أصلك في ثلاثة مواضع .
أحدها : أنك منعت من اختلاف الفرضين وأجزت النذر خلف المفترض .
وإن قال : صلاة النذر واجبة ليست فرضا قيل : لا فرق بينهما عندنا ، ثم في المنع من اختلاف الفرضين هو أن نية المأموم تضمنت زيادة لم تتضمنها نية إمامه ، وذلك موجود في المنذورة .
والثاني : أنك قلت إذا أن ذلك جائز ، وليس سجود السهو بصلاة الظهر ، وفي هذا نقض لأصلك ، فإن قال : سجود السهو عندي واجب ، فقد صلى مفترض خلف مفترض . سجد الإمام بعد صلاة الظهر لسهو وقع فيها ، ثم أدركه مؤتم ، فأحرم خلفه بصلاة الظهر
[ ص: 320 ] قيل : له سجود السهو وإن كان واجبا عندي فلا نقول : إنه فرض ، ولو جعلته فرضا لم يكن ظهرا ، وأنت تمنع من اختلاف الفرضين .
والثالث : إن قلت لو صلى بهم يوم الجمعة ظهرا صحت صلاتهم فلو سها الإمام فصلاها كانت فرضه ، وكان ما تقدم من صلاته بالجماعة نافلة ، فأجزت صلاة الفريضة خلف النافلة .
فإن قيل : كانت لهم فرضا حين أمهم ، وإنما صارت نافلة لفعله الجمعة فقد سقط الفرض بالفرض .
قيل : هذا غلط ، لأن الفرض إذا صح لم ينقلب نفلا ، ولو جاز لك أن تقول هذا جاز لنا أن نقول : إن فرضهم سقط حين صارت صلاتهم نافلة ، والله أعلم .