فصل  
وهذا الأصل ينبني عليه قواعد :  
منها : أن جميع  ما أعطيته هذه الأمة من المزايا والكرامات ، والمكاشفات والتأييدات وغيرها من الفضائل إنما هي مقتبسة من مشكاة نبينا      - صلى الله عليه وسلم - ، لكن على مقدار الاتباع ; فلا يظن ظان أنه حصل على خير بدون وساطة نبوته ، كيف وهو السراج المنير الذي يستضئ به الجميع ، والعلم الأعلى الذي به يهتدى في سلوك الطريق .  
ولعل قائلا يقول : قد ظهرت على أيدي الأمة أمور لم تظهر على يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا سيما الخواص التي اختص بها بعضهم ; كفرار الشيطان من ظل      [ ص: 439 ]  عمر بن الخطاب  رضي الله عنه ، وقد نازع النبي عليه الصلاة والسلام في صلاته الشيطان ، وقال  لعمر     :  ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك     .  
وجاء في   عثمان بن عفان  رضي الله عنه :  أن ملائكة السماء تستحي منه  ، ولم يرد مثل هذا بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .  
وجاء في   أسيد بن حضير   وعباد بن بشر     :  أنهما خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة ، فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا ، فافترق النور معهما  ، ولم يؤثر مثل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام .  
إلى غير ذلك من المنقولات عن الصحابة ومن بعدهم ، مما لم ينقل أنه ظهر مثله على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - .  
فيقال : كل ما نقل عن الأولياء أو العلماء أو ينقل إلى يوم القيامة من      [ ص: 440 ] الأحوال والخوارق والعلوم والفهوم وغيرها ; فهي أفراد وجزئيات داخلة تحت كليات ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; غير أن أفراد الجنس وجزئيات الكلي قد تختص بأوصاف تليق بالجزئي من حيث هو جزئي ، وإن لم يتصف بها الكلي من جهة ما هو كلي ، ولا يدل ذلك على أن للجزئي مزية على الكلي ، ولا أن ذلك في الجزئي خاص به لا تعلق له بالكلي ، كيف والجزئي لا يكون كليا إلا بجزئي ؟ إذ هو من حقيقته وداخل في ماهيته ; فكذلك الأوصاف الظاهرة على الأمة لم تظهر إلا من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - ; فهي كالأنموذج من أوصافه عليه الصلاة والسلام وكراماته .  
والدليل على صحة ذلك أن شيئا منها لا يحصل إلا على مقدار الاتباع والاقتداء به ، ولو كانت ظاهرة للأمة على فرض الاختصاص بها والاستقلال      [ ص: 441 ] لم تكن المتابعة شرطا فيها ، ويتبين هذا بالمثال المذكور في شأن  عمر     .  
ألا ترى أن خاصيته المذكورة هي هروب الشيطان منه ، وذلك حفظ من الوقوع في حبائله وحمله إياه على المعاصي ، وأنت تعلم أن الحفظ التام المطلق العام خاصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ; إذ كان معصوما عن الكبائر والصغائر على العموم والإطلاق ، ولا حاجة إلى تقرير هذا المعنى هنا ; فتلك النقطة الخاصة  بعمر  من هذا البحر .  
وأيضا ; فإن فرار الشيطان أو بعده من الإنسان إنما المقصود منه الحفظ من غير زيادة ، وقد زادت مزية النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خواص :  
منها : أنه عليه الصلاة والسلام أقدره الله على تمكنه من الشيطان ، حتى هم أن يربطه إلى سارية المسجد ، ثم تذكر قول  سليمان   عليه السلام :  وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي      [ ص : 35 ] ، ولم يقدر  عمر  على شيء من ذلك .  
 [ ص: 442 ] ومنها : أن النبي عليه الصلاة والسلام اطلع على ذلك من نفسه ومن  عمر  ولم يطلع  عمر  على شيء منه .  
ومنها : أنه عليه الصلاة والسلام كان آمنا من نزغات الشيطان وإن قرب منه ،  وعمر  لم يكن آمنا وإن بعد عنه .  
وأما منقبة  عثمان     ; فلم يرد ما يعارضها بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل نقول : هو أولى بها وإن لم يذكرها عن نفسه ; إذ لا يلزم من عدم ذكرها عدمها .  
وأيضا ; فإن ذلك  لعثمان  لخاصية كانت فيه وهى شدة حيائه ، وقد  كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حياء   ، وأشد حياء من العذراء في خدرها ، فإذا كان الحياء أصلها ; فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حواه على الكمال .  
وعلى هذا الترتيب يجري القول في  أسيد  وصاحبه ; لأن المقصود بذلك الإضاءة حتى يمكن المشي في الطريق ليلا بلا كلفة ، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن الظلام يحجب بصره ، بل كان يرى في الظلمة كما يرى في الضوء ، بل كان لا يحجب بصره ما هو أكثف من حجاب الظلمة ، فكان يرى      [ ص: 443 ] من خلفه كما يرى من أمامه ، وهذا أبلغ ، حيث كانت الخارقة في نفس البصر لا في المبصر به ، على أن ذلك إنما كان من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام وكراماته التي ظهرت في أمته [ من ] بعده وفي زمانه .  
فهذا التقرير هو الذي ينبغي الاعتماد عليه ، والأخذ لهذه الأمور من      [ ص: 444 ] جهته لا على الجملة ، فربما يقع للناظر فيها ببادئ الرأي إشكال ، ولا إشكال فيها بحول الله ، وانظر في كلام  القرافي  في قاعدة الأفضلية والخاصية .  
				
						
						
