[ ص: 415 ] المسألة العاشرة  
كما أن الأحكام والتكليفات عامة في جميع المكلفين على حسب ما كانت بالنسبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما خص به ، كذلك المزايا والمناقب ; فما من مزية أعطيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى ما وقع استثناؤه إلا وقد أعطيت أمته منها أنموذجا ; فهي عامة كعموم التكاليف ، بل قد زعم  ابن العربي  أن سنة الله      [ ص: 416 ] جرت أنه إذ أعطى الله نبيا شيئا أعطى أمته منه ، وأشركهم معه فيه ، ثم ذكر من ذلك أمثلة .  
وما قاله يظهر في هذه الملة بالاستقراء .  
أما أولا ; فالوراثة العامة في الاستخلاف على الأحكام المستنبطة ، وقد كان من الجائز أن تتعبد الأمة بالوقوف عندما حد من غير استنباط ، وكانت تكفي العمومات والإطلاق حسبما قاله الأصوليون ، ولكن الله من على العباد بالخصوصية التي خص بها نبيه عليه الصلاة والسلام ; إذ قال تعالى :  لتحكم بين الناس بما أراك الله      [ النساء : 105 ] .  
وقال في الأمة :  لعلمه الذين يستنبطونه منهم      [ النساء : 83 ] .  
وهذا واضح ; فلا نطول به .  
وأما ثانيا ; فقد ظهر ذلك من مواضع كثيرة ، نقتصر منها على ثلاثين وجها :  
أحدها :  الصلاة من الله تعالى      ; فقال تعالى في النبي عليه الصلاة والسلام :  إن الله وملائكته يصلون على النبي      [ الأحزاب : 56 ] الآية .  
وقال في الأمة :  هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور      [ الأحزاب : 43 ] الآية .  
 [ ص: 417 ] وقال :  أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة      [ البقرة : 157 ] .  
والثاني : الإعطاء إلى الإرضاء ، قال تعالى في النبي :  ولسوف يعطيك ربك فترضى      [ الضحى : 5 ] .  
وقال في الأمة :  ليدخلنهم مدخلا يرضونه      [ الحج : 59 ] .  
وقال :  رضي الله عنهم ورضوا عنه      [ المائدة : 119 ] .  
والثالث : غفران ما تقدم وما تأخر ، قال تعالى :  ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر      [ الفتح : 2 ] .  
وفي الأمة ما روي أن الآية لما نزلت قال الصحابة : هنيئا مريئا ; فما لنا ؟ فنزل :  ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم      [ الفتح : 5 ] ; فعم ما تقدم وما تأخر .  
 [ ص: 418 ] وفي الآية الأولى إتمام النعمة في قوله :  ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما      [ الفتح : 2 ] .  
وقال في الأمة :  ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم      [ المائدة : 6 ] الآية .  
وهو الوجه الرابع .  
 [ ص: 419 ] والخامس : الوحي وهو النبوة ، قال تعالى :  إنا أوحينا إليك      [ النساء : 163 ] ، وسائر ما في هذا المعنى ، ولا يحتاج إلى شاهد ، وفي الأمة :  الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة     .  
 [ ص: 420 ] والسادس : نزول القرآن على وفق المراد ; قال تعالى :  قد نرى تقلب وجهك في السماء      [ البقرة : 144 ] ; فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب أن يرد إلى  الكعبة   ، وقال تعالى أيضا :  ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء      [ الأحزاب : 51 ] ; لما كان قد حبب إليه النساء فلم يوقف فيهن على عدد معلوم .  
وفي الأمة قال  عمر     :    " وافقت ربي في ثلاث " . قلت : يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت :  واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى      [ البقرة : 125 ]      [ ص: 421 ] وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب . قال : وبلغني معاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض نسائه ; فدخلت عليهن فقلت : إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن . فأنزل الله :  عسى ربه إن طلقكن      [ التحريم : 5 ] الآية .  
وحديث التي ظاهر منها زوجها فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن زوجي ظاهر مني ، وقد طالت صحبتي معه ، وقد ولدت له أولادا ; فقال عليه الصلاة والسلام : " قد حرمت عليه " . فرفعت رأسها إلى السماء ; فقالت : إلى الله أشكو حاجتي إليه . ثم عادت ، فأجابها ، ثم ذهبت لتعيد الثالثة ; فأنزل الله :  قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها      [ المجادلة : 1 ] الآية .  
 [ ص: 422 ] ومن هذا كثير لمن تتبع .  
ونزلت  براءة  عائشة     - رضي الله عنها - من الإفك على وفق ما أرادت      ; إذ قالت : وأنا حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما ظننت أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها     .  
 [ ص: 423 ] وقال  هلال بن أمية     : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد . فنزل :  والذين يرمون أزواجهم      [ النور : 6 ] الآية ، وهذا خاص بزمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لانقطاع الوحي بانقطاعه     .  
والسابع : الشفاعة ; قال تعالى :  عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا      [ الإسراء : 79 ] .  
وقد ثبتت  شفاعة هذه الأمة      ; كقوله عليه الصلاة والسلام في  أويس     :  يشفع في مثل  ربيعة   ومضر      .  
 [ ص: 424 ]    "  أئمتكم شفعاؤكم     " ، وغير ذلك .  
 [ ص: 425 ] والثامن : شرح الصدر ; قال تعالى :  ألم نشرح لك صدرك      [ الشرح : 1 ] الآية .  
وقال في الأمة :  أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه      [ الزمر : 22 ] .  
والتاسع : الاختصاص بالمحبة ; لأن  محمدا   حبيب الله ، ثبت ذلك في الحديث ;  إذ خرج عليه الصلاة والسلام ، ونفر من أصحابه يتذاكرون ; فقال بعضهم : عجبا إن الله اتخذ من خلقه خليلا ، وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام  موسى   ، كلمه الله تكليما ، وقال آخر :  فعيسى   كلمة الله وروحه . وقال آخر :  آدم   اصطفاه الله . فخرج عليهم فسلم وقال : قد سمعت كلامكم وعجبكم ، إن الله اتخذ  إبراهيم   خليلا ، وهو كذلك ،  وموسى   نجي الله وهو كذلك ،  وعيسى   روح الله وهو كذلك ،  وآدم   اصطفاه الله وهو كذلك ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع وأنا أول مشفع ولا فخر ،      [ ص: 426 ] وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر     .  
وفي الأمة :  فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه      [ المائدة : 54 ] الآية .  
وجاء في هذا الحديث أنه أول من يدخل الجنة وأن أمته كذلك ، وهو العاشر .  
وأنه أكرم الأولين والآخرين ، وقد جاء في الأمة :  كنتم خير أمة أخرجت للناس      [ آل عمران : 110 ] .  
 [ ص: 427 ] وهو الحادي عشر .  
والثاني عشر : أنه جعل شاهدا على أمته ، اختص بذلك دون الأنبياء عليهم السلام .  
وفي القرآن الكريم :  وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا      [ البقرة : 143 ] .  
والثالث عشر : خوارق العادات معجزات وكرامات للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي حق الأمة كرامات ، وقد وقع الخلاف : هل يصح أن يتحدى الولي بالكرامة دليلا على أنه ولي أم لا ؟ وهذا الأصل شاهد له ، وسيأتي بحول الله وقدرته .  
والرابع عشر : الوصف بالحمد في الكتب السالفة وبغيره من الفضائل ; ففي القرآن :  ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد      [ الصف : 6 ] ، وسميت أمته الحمادين .  
والخامس عشر : العلم مع الأمية ، قال تعالى :  هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم      [ الجمعة : 2 ] .  
وقال :  فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله      [ الأعراف : 158 ] الآية .  
 [ ص: 428 ] وفي الحديث :  نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب     .  
والسادس عشر : مناجاة الملائكة ; ففي النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهر ، وقد روي في بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أنه كان يكلمه الملك ;   كعمران بن الحصين  ونقل عن الأولياء من هذا .  
والسابع عشر : العفو قبل السؤال ، قال تعالى :  عفا الله عنك لم أذنت لهم      [ التوبة : 43 ] .  
وفي الأمة :  ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم      [ آل عمران : 152 ] .  
والثامن عشر : رفع الذكر ، قال تعالى :  ورفعنا لك ذكرك      [ الشرح : 4 ] .  
وذكر أن معناه قرن اسمه باسمه في عقد الأيمان ، وفي كلمة الأذان ; فصار ذكره عليه الصلاة والسلام مرفوعا منوها به ، وقد جاء من ذكر الأمة ومدحهم والثناء عليهم في القرآن وفي الكتب السالفة كثير .  
وجاء في بعض الأحاديث عن  موسى   عليه الصلاة والسلام ; أنه قال :      [ ص: 429 ] اللهم اجعلني من أمة  أحمد   لما وجد في التوراة من الإشادة بذكرهم والثناء عليهم .  
والتاسع عشر : أن معاداتهم معاداة لله ، وموالاتهم موالاة لله ، قال تعالى :  إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله      [ الأحزاب : 57 ] [ هي عند طائفة بمعنى أن الذين يؤذون رسول الله لعنهم الله ] .  
وفي الحديث :  من آذاني ; فقد آذى الله     .  
 [ ص: 430 ] وفي الحديث :  من آذى لي وليا ; فقد بارزني بالمحاربة     .  
وقال تعالى :  من يطع الرسول فقد أطاع الله      [ النساء : 80 ] .  
ومفهومه من لم يطع الرسول لم يطع الله .  
وتمام العشرين : الاجتباء ; فقال تعالى في الأنبياء عليهم السلام :  واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم      [ الأنعام : 87 ] .  
وفي الأمة :  هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج      [ الحج : 78 ] .  
وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام مصطفى من الخلق .  
 [ ص: 431 ] وقال في الأمة :  ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا      [ فاطر : 32 ] .  
والحادي والعشرون : التسليم من الله ; ففي أحاديث إقراء السلام من الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام .  
وقال تعالى :  قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى      [ النمل : 59 ] .  
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم      [ الأنعام : 54 ] .  
وقال  جبريل   للنبي عليه الصلاة والسلام في خديجة :  اقرأ عليها السلام من ربها ومني     .  
والثاني والعشرون : التثبيت عند توقع التفلت البشري ، قال تعالى :  ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا      [ الإسراء : 74 ] .  
 [ ص: 432 ] وفي الأمة :  يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة      [ إبراهيم : 27 ] .  
والثالث والعشرون : العطاء من غير منة ، قال تعالى :  وإن لك لأجرا غير ممنون      [ القلم : 3 ] .  
وقال في الأمة :  فلهم أجر غير ممنون      [ التين : 6 ] .  
والرابع والعشرون : تيسير القرآن عليهم ، قال تعالى :  إن علينا جمعه وقرآنه   فإذا قرأناه فاتبع قرآنه   ثم إن علينا بيانه      [ القيامة : 17 - 19 ] .  
قال   ابن عباس     : علينا أن نجمعه في صدرك ،  ثم إن علينا بيانه      [ القيامة : 19 ] ; علينا أن نبينه على لسانك .  
وفي الأمة :  ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر      [ القمر : 17 ] .  
والخامس والعشرون : جعل السلام عليهم مشروعا في الصلاة ; إذ يقال في التشهد : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .  
والسادس والعشرون : أنه سمى نبيه عليه السلام بجملة من أسمائه كالرءوف الرحيم ، وللأمة نحو المؤمن والخبير والعليم والحكيم .  
والسابع والعشرون : أمر الله تعالى بالطاعة لهم ، قال تعالى :  يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم      [ النساء : 59 ] ،      [ ص: 433 ] وهم الأمراء والعلماء .  
وفي الحديث :  من أطاع أميري ; فقد أطاعني     .  
وقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله .  
والثامن والعشرون : الخطاب الوارد مورد الشفقة والحنان ; كقوله تعالى :  طه   ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى      [ طه : 1 - 2 ] .  
وقوله :  فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به      [ الأعراف : 2 ] .  
واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا      [ الطور : 48 ] .  
وفي الأمة :  ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم      [ المائدة : 6 ] الآية .  
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر      [ البقرة : 185 ] .  
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا      [ النساء : 28 ] .  
ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما      [ النساء : 29 ] .  
والتاسع والعشرون : العصمة من الضلال بعد الهدى ، وغير ذلك من      [ ص: 434 ] وجوه الحفظ العامة ; فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عصمه الله تعالى من ذلك كله .  
وجاء في الأمة :  لا تجتمع أمتي على ضلالة     .  
 [ ص: 435 ]  [ ص: 436 ]  [ ص: 437 ] وجاء :  احفظ الله يحفظك     .  
وفي القرآن :  لأغوينهم أجمعين   إلا عبادك منهم المخلصين      [ ص : 83 ] ، تفسيره في قوله :  لا تجتمع أمتي على ضلالة     .  
وفي قوله :  وإنى والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها     .  
وتمام الثلاثين : إمامة الأنبياء ; ففي حديث الإسراء أنه عليه الصلاة والسلام أم بالأنبياء ; قال : "  وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء . . . فحانت الصلاة فأممتهم     " .  
وفي حديث نزول  عيسى   عليه السلام إلى الأرض في آخر الزمان :  إن إمام هذه الأمة منها ، وإنه يصلي مؤتما بإمامها     .  
 [ ص: 438 ] ومن تتبع الشريعة وجد من هذا كثيرا ، [ مجموعه ] يدل على أن  أمته تقتبس منه خيرات وبركات   ، وترث أوصافا وأحوالا موهوبة من الله تعالى ومكتسبة ، والحمد لله على ذلك .  
				
						
						
