فصل
إذا تقرر اعتبار ذلك الشرط ; فأين يسوغ العمل على وفقها ؟
فالقول في ذلك أن الأمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدم ، : وذلك على أوجه
أحدها : أن يكون في أمر مباح ، كأن يرى المكاشف أن فلانا يقصده في الوقت الفلاني ، أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة ، أو يطلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل ، وما أشبه ذلك ; فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه ، أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده الشر ; فهذا من الجائز له ، كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك ، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع كما تقدم .
والثاني : أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها ، فإن العاقل لا يدخل [ ص: 472 ] على نفسه ما لعله يخاف عاقبته ; فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها عجب أو غيره ، والكرامة كما أنها خصوصية ، كذلك هي فتنة واختبار ، لينظر كيف تعملون ، وقد تقدم ذكره ، فإذا عرضت حاجة ، أو كان لذلك سبب يقتضيه ; فلا بأس ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بالمغيبات للحاجة إلى ذلك ، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه ، بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات ، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام المصلين خلفه أنه " يراهم من وراء ظهره " لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث ، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك ، وهكذا سائر [ ص: 473 ] كراماته ومعجزاته ; فعمل أمته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الأول ، ولكنه مع ذلك في حكم الجواز ; لما تقدم من خوف العوارض كالعجب ونحوه ، والإخبار في حق النبي عليه الصلاة والسلام مسلم ، ولا يخلو إخباره من فوائد ، ومنها تقوية إيمان كل من رأى ذلك أو سمع به ، وهي فائدة لا تنقطع مع بقاء الدنيا .
والثالث : أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد لكل عدته ; فهذا أيضا جائز ، كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا ، أو لا يكون إن فعل كذا ; فيعمل على وفق ذلك على وزان الرؤيا الصالحة ، فله أن يجري بها مجرى الرؤيا ، كما روي عن أبي جعفر بن تركان ; قال : كنت أجالس الفقراء ; ففتح علي بدينار ، فأردت أن أدفعه إليهم ، ثم قلت في نفسي : لعلي أحتاج إليه ، فهاج بي وجع [ ص: 474 ] الضرس فقلعت سنا ، فوجعت الأخرى حتى قلعتها ; فهتف بي هاتف : إن لم تدفع إليهم الدينار لا يبقى في فيك سن واحدة .
وعن الروذباري قال : في استقصاء في أمر الطهارة ; فضاق صدري ليلة لكثرة ما صببت من الماء ولم يسكن قلبي ، فقلت : يا رب ! عفوك ، فسمعت هاتفا يقول : العفو في العلم ، فزال عني ذلك .
وعلى الجملة ; فالشرط المتقدم لا محيص من اعتباره في العمل بمقتضى الخوارق ، وهو المطلوب ، وإنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة لتكون مثالا يحتذى حذوه وينظر في هذا المجال إلى جهته ، وقد أشار هذا النحو إلى التنبيه على أصل آخر ، وهي :