[ ص: 457 ] المسألة الحادية عشرة
وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر ; إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ولا قاعدة دينية ; فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكما شرعيا ليس بحق في نفسه ، بل هو إما خيال أو وهم ، وإما من إلقاء الشيطان ، وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه ، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع ، وذلك أن ، كما تقدم في المسألة قبل هذا ، وأصله لا ينخرم ، ولا ينكسر له اطراد ، ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف ، وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادا لما تمهد في الشريعة ; فهو فاسد باطل . التشريع الذي أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام لا خاص
ومن أمثلة ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في ; فإنها باطل " ; فمثل هذا من الرؤيا لا معتبر بها في أمر ولا نهي ، ولا بشارة ولا نذارة ; لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة ، وكذلك سائر ما يأتي من هذا النوع . حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في أمر ; فرأى الحاكم في منامه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : " لا تحكم بهذه الشهادة
[ ص: 458 ] وما روي " أن أبا بكر رضي الله عنه " ; فهي قضية عين لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها ، فلعل الورثة رضوا بذلك ، فلا يلزم منها خرم أصل . أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رئيت
وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا الماء المعين مغصوب أو نجس ، أو أن هذا الشاهد كاذب ، أو أن المال لزيد وقد تحصل بالحجة لعمرو ، أو ما أشبه ذلك ; فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر ; فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم ، ولا ترك قبول الشاهد ، ولا الشهادة بالمال لزيد على حال ; فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر ; فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة ، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية ، ولو جاز ذلك ; لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها ، وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه .
وقد جاء في الصحيح : الحديث ; فقيد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك ، وقد كان كثير من الأحكام التي تجرى على يديه يطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل ، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يحكم إلا على وفق ما سمع ، لا على وفق ما علم ، وهو أصل في إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون [ ص: 459 ] ألحن بحجته من بعض ، فأحكم له على نحو ما أسمع منه . منع الحاكم أن يحكم بعلمه
وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه أن ; وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب ; لأنه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكما بعلمه هذا مع كون علم الحاكم مستفادا من العادات التي لا ريبة فيها ، لا من الخوارق التي تداخلها الأمور ، والقائل بصحة حكم الحاكم بعلمه ; فذلك بالنسبة إلى العلم [ ص: 460 ] المستفاد من العادات ، لا من الخوارق ، ولذلك لم يعتبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الحجة العظمى ، وحكى الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه ابن العربي عن قاضي القضاة الشاشي المالكي ببغداد أنه كان ، جريا على طريقة يحكم بالفراسة في الأحكام أيام كان قاضيا ، قال : " ولشيخنا إياس بن معاوية فخر الإسلام أبي بكر الشاشي جزء في الرد عليه " ، هذا ما قال ، وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقا من غير حجة سواها .
فإن قيل : هذا مشكل من وجهين :
أحدهما : أنه خلاف ما نقل عن أرباب المكاشفات والكرامات ، فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء كان جائزا لهم في الظاهر تناولها ، اعتمادا على كشف أو إخبار غير معهود ، ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال ، فرأى بالبادية شجرة تين ; فهم أن يأكل منها فنادته الشجرة : أن لا تأكل مني فإني ليهودي .
وعن عباس بن المهتدي أنه تزوج امرأة ، فليلة الدخول وقع عليه ندامة ، فلما أراد الدنو منها زجر عنها ; فامتنع وخرج ، فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج .
[ ص: 461 ] وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها ; هل هذا المتناول حلال أم لا ؟ حيث كان له عرق في بعض أصابعه إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك ; فيمتنع منه . كالحارث المحاسبي
وأصل ذلك حديث رضي الله عنه وغيره في قصة الشاة المسمومة ، وفيه : أبي هريرة ومات فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل القوم ، وقال : ارفعوا أيديكم ; فإنها أخبرتني أنها مسمومة الحديث ; فبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك القول ، وانتهى هو ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار . بشر بن البراء
وهذا أيضا موافق ، وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ ، وذلك في قصة بقرة لشرع من قبلنا بني إسرائيل إذ أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها ; فأحياه الله وأخبر بقاتله ; فرتب عليه الحكم بالقصاص ، وفي قصة الخضر في خرق [ ص: 462 ] السفينة وقتل الغلام وهو ظاهر في هذا المعنى ، إلى غير ذلك مما يؤثر في معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكرامات الأولياء رضي الله عنهم .
والثاني : أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء كالعادات بالنسبة إلينا ، فكما لو دلنا أمر عادي على نجاسة الماء أو غصبه لوجب علينا الاجتناب ; فكذلك هاهنا ; إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب أو من عالم الشهادة ، كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء ، ورؤيتها بعين الكشف الغيبي ; فلا بد أن يبنى الحكم على هذا كما يبنى على ذلك ، [ ص: 463 ] ومن فرق بينهما ; فقد أبعد .
فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابا ، وعملا بما هو مشروع على الجملة ، وذلك من وجهين :
أحدهما : الاعتبار بما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، فيلحق به في القياس ما كان في معناه ، إذا لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع ، وإنما يختص به من حيث كان معجزا ، وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ في شريعتنا ، على أن خرق السفينة قد عمل بمقتضاه بعض العلماء ، بناء على ما ثبت عنده من العادات ، أما قتل [ ص: 464 ] [ ص: 465 ] [ ص: 466 ] الغلام ; فلا يمكن القول به ، وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين ، ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي في قول المقتول : دمي عند فلان .
والثاني : على فرض أنه لا يقاس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى ، إذ الجاري عليها العمل بالقياس ، ولكن إن قدرنا عدمه ; فنقول : إن هذه الحكايات عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي ، وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذي هو الإثم ، وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر ، فيدخل فيها هذا النمط ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ، فإذا لم يخرج هذا عن كونه مستندا إلى نصوص شرعية عند [ ص: 467 ] من فسر حزاز القلوب بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم ، ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية ، وكلامنا إنما هو في مثل مسألة البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في صدرك ابن رشد وأشباهها ، وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول بمثله في شريعتنا البتة ، فهو حكم منسوخ ، ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال ; فعمدة الشريعة تدل على خلافه ، فإن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا ، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما أيضا ; فإن سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم ، وإن علم بواطن أحوالهم ، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه .
ولا يقال : إنما كان ذلك من قبيل ما قال : " محمدا يقتل أصحابه " ; فالعلة أمر آخر لا ما زعمت ، فإذا عدم ما علل به ; فلا حرج . خوفا أن يقول الناس : إن
[ ص: 468 ] لأنا نقول : هذا من أدل الدليل على ما تقرر ، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر ; فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر ; فالعذر فيه ظاهر واضح ، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر ، وران على الظواهر ، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ، ألا ترى إلى باب الدعاوى المستند إلى أن " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " ، ولم يستثن من ذلك أحد ، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتاج إلى البينة [ ص: 469 ] في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه ; فقال : من يشهد لي ؟ حتى شهد له ; فجعلها الله شهادتين ; فما ظنك بآحاد الأمة ؟ فلو ادعى أكفر الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، وهذا من ذلك ، والنمط واحد ; فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية ، ومن هنا لم يعبأ الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع ، بل عدوا أنه من الشيطان ، وإذا ثبت هذا ; فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة . خزيمة بن ثابت
وما ذكر من تكليم الشجرة ; فليس بمانع شرعي ، بحيث يكون تناول التين منها حراما على المكلم ، كما لو وجد في الفلاة صيدا ; فقال له : إني مملوك ، وما أشبه ذلك ، لكنه تركه لغناه عنه بغيره من يقين بالله ، أو ظن طعام بموضع آخر ، أو غير ذلك ، وكذلك سائر ما في هذا الباب ، أو نقول : كان المتناول مباحا له ; فتركه لهذه العلامة كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا أو غير [ ص: 470 ] ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله تعالى ; فكذلك نقول في الماء الذي كوشف أنه نجس أو مغصوب ، وإذا كان له مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر ، بل يصير منتقلا من جائز إلى مثله ; فلا حرج عليه مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف إعمالا للظاهر ، واعتمادا على الشرع في معاملته به ، فلا حرج عليه ، ولا لوم ; إذ ليس القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرا شرعيا ، ولا أن تعود على شيء منه بالنقض ، كيف وهي نتائج عن اتباعه ; فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع ، أو يعود الفرع على أصله بالنقض ، هذا لا يكون البتة .
وتأمل ما جاء في شأن المتلاعنين ; إذ قال عليه الصلاة والسلام : ; فجاءت به على إحدى الصفتين وهي المقتضية للمكروه ، ومع ذلك ; فلم يقم الحد عليها ، وقد جاء في الحديث نفسه : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن فدل على أن الأيمان هي المانعة وامتناعه مما هم به يدل على أن ما تفرس به لا حكم له حين شرعية الأيمان ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد الأيمان ما قال الزوج لم تكن الأيمان دارئة للحد عنها . والجواب على السؤال الثاني أن الخوارق وإن صارت لهم كغيرها ; [ ص: 471 ] فليس ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق ، إذا لم يثبت ذلك شرعا معمولا به . إن جاءت به على صفة كذا ; فهو لفلان ، وإن جاءت به على صفة كذا ; فهو لفلان
وأيضا ; فإن الخوارق إن جاءت تقتضي المخالفة ، فهي مدخولة قد شابها ما ليس بحق ، كالرؤيا غير الموافقة ، كمن يقال له : " لا تفعل كذا " ، وهو مأمور شرعا بفعله ، أو " افعل كذا " ، وهو منهي عنه ، وكثيرا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب ، أو من سلك وحده بدون شيخ ، ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة ، غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء .
فإن قيل : هذا يقتضي أن لا يعمل عليها ، وقد بنيت المسألة على أنها يعمل عليها .
قيل : إن المنفي هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية ، فأما العمل عليها مع الموافقة ; فليس بمنفي .