الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أعاني من الحساسية المفرطة وعدم الثقة بالنفس، ما الحل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لا أعلم كيف أبدأ حديثي، ولكنني متأكدة بأنكم بفضل الله، ثم باستشارتكم، سأقضي على ما أعاني منه.

أنا فتاة أبلغ من العمر 27 سنة، أعاني من القولون منذ عمر 13 سنة، وقد أكملت دراستي الجامعية بمعدل عالٍ، ولله الحمد والفضل والمنة، منذ صغري وأنا أعاني من أمور عدة، جعلتني أكبر وأنا محطمة، وثقتي بنفسي مهزوزة من كل الجوانب، ففي صغري كنت أتلقى كلامًا جارحًا، النقد السلبي، والاستهزاء الذي يكسرني من الداخل، كنت دائمًا أشعر أني أقل من أفراد عائلتي كلهم، من جميع النواحي، كانوا دائمًا ينادونني بلقب معين، صرت أستحي من شكلي ومظهري، برغم صغر سني، إلَّا أني كنت أتمنى أن أكبر بسرعة لأغطي وجهي، لأني أخجل منه.

كنت أشعر أن الناس سيظنون أني خادمتهم، لأن جميع من حولي كانوا يشبهونني بهن، ويقلدون أصوات الخادمات عندما يتكلمون، كانوا يستهزئون بطولي، وبطريقة كلامي، وبأني غبية لا أعرف كيف أتكلم، والله إني أكتب ودموعي على خدي، والله ما أحسست بطعم الطفولة، لأني كنت أستحي أن ألعب، فأنا أخجل من شكلي وطولي، وكل ذلك أثر عليّ، لم أكن أعلم أنه كان بإمكاني أن لا أُعير أحدًا أي اهتمام لما يقوله، وأنا الآن أعاني والله، وحاولت مرارًا وتكرارًا أن أغير من نفسي وفكري، ونظرتي عن نفسي، ولكن لا جدوى، والله تعبت، ولم أقدر على تغيير ما تم ترسيخه في عقلي منذ صغري.

نشأت وكبرت، وبداخلي طاقة سلبية، دائمًا أتوتر عند أداء المهام أو المطلوب، وأقلق عندما أقوم بأي عمل، وأتملل بسرعة، ولا أستطيع أن أُنجز شيئًا على أكمل وجه، عزيمتي تكون قوية وتضعف مع الأيام، وأجاهد، ولكن لا أستمر، ولا أحب أن يطلب مني أحد أي مهام، فأنا لا أطيق الشغل لأني أتعب بسرعة، وأشعر أنه لا طاقة لي، دائمًا أشعر بالخمول والكسل، وتعكر المزاج السريع، والحساسية المفرطة.

أنا عصبية ومندفعة في الحكم والكلام، وأشعر بحزن في داخلي دائمًا، وبضيق، لا أنكر أني أضحك وأسعد بمن حولي، ولكن سرعان ما يتعكر مزاجي، وأكتئب وأتملل، خوفًا من أداء أي عمل، الإحساس بالفشل دائمًا، حتى وإن مدحني الناس على ما قدمته، أشعر أنه ناقص، وأنهم يجاملونني لأكون واثقة من نفسي، ولا يجرحونني، لم أُنجز أي شيء في حياتي إلى الآن، لا أفرح بما قدمت، ولا أشعر بأني جميلة ومرتبة، حتى وإن مدحني الناس.

أكره الخروج مع أمي وأخواتي، ودائمًا أشعر أني أقل منهن، وممن حولي من الناس، شكلًا ومظهرًا ومضمونًا، ولا أستطيع الكلام، فأضطرب في الكلام وأتوتر، وهذا يضايقني ويجعلني أتملل.

في أوقات كثيرة أحب الخروج مع أهلي، وأشعر أني متسامحة معهم، ولكن مع أي مشكلة أشعر أني أكرههم وبقوة، وفي الحقيقة أشعر أن بداخلي كرهًا لهم.

أجاهد على صفاء قلبي، ولكني مكسورة منهم، فأنا أضحك وأتكلم مع الكل معهم ومع الناس، وأمزح وأخرج، ولكن بداخلي شيء يجعلني أنعزل عنهم في أوقات كثيرة، ولا أحب الخروج معهم، أفضل العزلة عنهم وعن الناس كثيرًا.

أنا بداخل البيت كسولة غير مُنجزة، وكئيبة، لا نافعة لنفسها ولا لغيرها، كالجماد! ولا أطيق أحدًا، وأتكلم بعصبية أو بتأفف وسطحية، ولكن عندما أذهب إلى الجامعة أو أُخالط الناس يكون العكس! وأشعر بنشوة حب المساعدة، وبتحفيز الغير، وأتكلم نوعًا ما بشكل أفضل، وأستمتع بكل عمل، عكس البيت، فإني أشعر بملل وخمول، ورغبة في ترك الشيء، أشعر بتأنيب الضمير دائمًا، لأني أشعر أني منافقة، ولا خير لي مع أهلي، ولكن مع الناس جيدة جدًا.

عندما أُكلف بمهام، أكون متفاعلة وقوية الثقة، ولكن سرعان ما أتهرب من الشغل وأشعر بخوف أو ضعف ثقة، وبأني سأفشل، أو لن أقوم بالعمل جيدًا، كما أشعر أني لا أُقدر أمي وأبي، وما قدماه لي، ومللت من نفسي، فأنا أسعى لتغييرها منذ سنين، دون جدوى.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Pure حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

بارك الله فيكِ – أختي العزيزة – وأشكر لكِ حسن ظنّك وتواصلك مع الموقع، سائلاً الله تعالى أن يُفرّج همّكِ ويشرح صدركِ، وييسر أمركِ، ويرزقكِ التوفيق والسداد والحياة السعيدة في الدنيا والآخرة.

أما بخصوص ما تعانين منه من الحساسية المفرطة، وعدم الثقة بالنفس، نتيجة خجلكِ من بعض صفاتكِ التي خلقكِ الله عليها في الشكل والطول، وتعيير الناس لكِ، فاعلمي أولاً أن الحياة الدنيا طُبِعَت على الابتلاء، وأن الذي ينبغي على العبد التعامل مع الابتلاء بالصبر والشكر والرضا، وإدراك (أن كل خلق الله حسن) كما في الحديث الصحيح.

من المتقرر عقلاً أن المِنَح الإلهية والعطايا الربّانية أنواع، فمنها الجمال في العقل، والدين، والخُلق، والصحة والمال، وغيرها، كما أن الجمال نسبي، حيث تختلف نظرة الناس في تقويم الجمال كما هو واقعكِ، وكما يظهر من تفوقكِ، وثناء بعض الناس عليكِ، وتذكّري مزايا جمال الشكل والصورة لديكِ، وما حباكِ الله بها، وكذا في الفهم والحفظ والعافية، وغيرها مما يستوجب الشكر، وعدم المبالغة فيما دونها.

في واقعنا أيضاً ما يشهد على تعلُّق أزواج كثيرين بزوجات قليلات الحظ، من جمال الصورة، لتعلقه بمزايا في الأدب والعفّة والحياء، وحس المرح والدعابة لدى الزوجة، وخفّة الروح وكرم النفس وهدوء الطبع، ومزايا في مهارات النظافة والطباخة والخدمة، أو بجمال القامة أو العقل، أو الخلق أو الثقافة، أو النسب والحسب، والمال والوظيفة، وفي الحديث: (تنكح المرأة لأربع: لمالها وجمالها وحسبها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) متفق عليه، والمعنى أن الصفات الأربع المذكورات مطلوبات ومرغوبات لدى الرجال، لكن المسلم العاقل من يقدّم جمال الدين عليها، حيث قال تعالى: (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله) أي طائعات لله ولأزواجهن، وحافظات لأزواجهن في المال والسر والعِرض ونحوها، فاحرصي – حفظكِ الله – على التحلّي والتميّز بذلك، طاعةً لله تعالى ورغبة في ثوابه وجنّته ومرضاته، وكم ابتُليَت نساء كثيرات جميلات في الصورة والشكل بالفشل في الزواج، والطلاق، لعدم توفُّر الحظ الكافي من الجمال في الجوانب الأخرى، وعكسه بعكسه، بل وكم من امرأة ثيّب أو عانس حَظيَت بالسعادة وراحة البال، ما لم تحظَ به نساء متزوجات حصل لهن بالزواج متاعب نفسية كثيرة، قال أحدهم:
جمال الوجه مع قُبح النفوس ** كقنديلٍ على قبر المجوسِ

وقال الآخر:
ليس الجمال بمئزرٍ ** فاعلم ولو حُلّيت بُردا
إن الجمال مآثرٌ ** ومناقبٌ أورثن حمدا".

أوصيكِ – أختي الفاضلة – بالمحافظة والعناية بجمال دينكِ وخُلقكِ، وعفّتكِ، وثقافتكِ وروحكِ أولاً، مع العناية بأنوثتكِ، فالمرأة برقّتها ودلالها وأنوثتها وحيائها، ومن الجميل أيضاً أن تعتني بزيادة جمال مظهركِ، بأن تترددي في الأحيان على محلّات التجميل النسائية، وتتعلمي طرق التجميل وتعتني بنفسكِ، والأهم من ذلك أن تشغلي نفسكِ بما يعود عليكِ بالفائدة في دينكِ ودنياكِ، حققي طموحكِ في مواصلة تعليمكِ والنجاح في مجالكِ، وتنمية ثقافتكِ وتوسيع مدارككِ، ومتابعة المحاضرات والبرامج المفيدة والنافعة، وتذكُّري أن كل محنة في طيّها المنحة والنعمة (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

احذري -حفظكِ الله- من آفات المقارنة بالأخريات، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلّم: (إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّل عليه في المال والخَلق -أي الجمال- فلينظر إلى من هو أسفل منه، ولا ينظر إلى من هو فوقه ؛ فإن ذلك جدير ألّا تزدروا نعمة الله عليكم) متفق عليه، لا أجمل وأفضل وأكمل من تذكيركِ بضرورة اللجوء إلى الله تعالى، والإلحاح عليه سبحانه بالدعاء {أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء}، ولزوم الأذكار والصلاة والاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه وتقواه {واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين}، {ومن يتقِ الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيءٍ قدرا}.

لذلك فإن الواجب عليكِ –حفظكِ الله وعافاكِ- مجاهدة النفس على تحقيق توازنها واعتدالها، وترك الحساسية الزائدة؛ فالحساسية المفرطة تجلب لصاحبها الحزن والضيق، والتأثُّر السلبي، والمبالغة في فهم الأمور، والمتاعب النفسية والصحيّة، وكثيراً ما تضطر المرأة -كدفاع عن النفس- بالوقوع في آفة الأنانية، واعتزال الناس وكراهيتهم، والتعب والعصبية، وترك الإيجابية والفاعلية، مما يؤثر على سعادتها ونجاحها وحياتها، ويشمل ذلك مصالح دينها ودنياها وآخرتها.

للحفاظ على تحقيق التوازن والتحرر من الانفعالات الزائدة، لابد من إدارة وتدريب النفس على التوازن، وذلك بضرورة الاعتراف والإدراك لهذا الخطأ، والسلبية في النفس أولاً، وإدراك آثاره السلبية المذكورة سابقاً، وضرورة التصميم على التخلص من هذه المشاعر، والحساسية النفسية السلبية السيئة، وضرورة الالتزام بأخلاق الإسلام في حسن الظن بالناس، ومحبتهم، وحسن التعامل معهم، مهما كانت الأمور، وعدم المبالغة في مراعاة نظرة الآخرين ومشاعرهم نحوِكِ.

عليك بالحرص على حسن الظن بالله تعالى، وتعزيز الثقة بالنفس، والإرادة، وعدم التعجُّل في اتخاذ المواقف والقرارات، إلا بعد تأمُّل وتفكير وتثبُّت وموازنة، والحذر مما قد تؤدي إليه الحساسية المفرطة، أو تسرُّع وانفعال، وعزلة وتضخيم للأمور، والحذر من المبالغة في حمل الهم والحزن لذلك، أو المبالاة بنظرة الناس وكلامهم؛ حيث أن ذلك لا يقدّم ولا يؤخّر، ولا يزيد ولا ينقص.

أوصيكِ بالمزيد من التحلي بقوة الإرادة والعزيمة، والتصميم والإصرار على تنمية مواهبكِ وقدراتكِ وثقافتكِ، مع لزوم الثقة بالله تعالى، وحسن الظن به، والاستعانة به، وتقواه وطاعته، والتوكل عليه في كل شؤون الحياة، وتعزيز الثقة بالنفس وتجاوز كل العوائق والتحديات، لا سيما وكونكِ تتحلين خارج المنزل بإيجابية، بدليل حصولكِ في دراستكِ على درجات عالية، وهو مما يؤكد على قدرتكِ على تخطي مشاعركِ ومشكلتكِ.

لا أفضل من الحرص على تعميق وتنمية الإيمان، بلزوم الذكر والدعاء، والصحبة الطيّبة، وقراءة القرآن، وشغل الوقت والفراغ فيما يعود عليكِ بالمنفعة والفائدة في دينكِ ودنياكِ، كالتركيز على الأهم من ذلك، وذلك في واجباتكِ وحياتكِ، والترويح عن النفس بما يخفف من الضغوط النفسية أو الواقعية عليها، بممارسة الرياضة، والاشتراك في الأعمال الخيرية والاجتماعية ونحوها، وهي مهمة تحتاج إلى مزيد من الصبر والمجاهدة للنفس {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.

نوصيك بالمبادرة -ما أمكن- بالزواج إذا توفرت فُرَصُه ومعاييره الشرعية الطيبة، ولاشك أنه سيسهم في مساعدتكِ على حل مشكلتكِ وصفو نفسكِ وطبعكِ، ومن المهم العناية بنفسكِ في كافة المجالات النفسية والصحية والثقافية والأخلاقية والجمالية أيضاً، مع ضرورة لزوم الصبر والحِلم والرضا بالقضاء والقدر، واحتساب الثواب والأجر على كل ذلك، فأحسني الظن بالله تعالى، وثقي بقدرتكِ على تجاوز هذه المشكلة بإذنه سبحانه، ما دمتِ على هذه الحال الطيبة، أعانكِ الله على ذكره وشكره وحسن عبادته.

أسأل الله تعالى لكِ التوفيق والسداد، والهدى والصبر، والحكمة والرشاد، وأن يرزقكِ الزوج الصالح، وسعادة الدنيا والآخرة.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً