الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

اجتهدت في إصلاح العلاقة مع أمي لكني فشلت، فماذا أفعل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا أخاف أن أعق أمي؛ لأنها تصرخ، وتسبني، وتشوه سمعتي، وأنا هادئة، ومهذبة جدًا، وأحاول أن أحسن إليها بالهدية، والكلمة الطيبة، وأساعدها في البيت، ولكنها محاولات فاشلة؛ هي لا تفهمني، ولا تريد أن تفهمني، وتريدني كما تتخيل حتى لو لم يكن ذلك ممكنًا.

المشاكل بيننا منذ صغري، وخاصةً بعد دخولي الجامعة، حتى أصبحت لا أحتمل، ولا أجلس معها إلا قليلاً، وأغلب الوقت أكون في غرفتي، وكلامي معها سطحي جدًا، وأحاول التبسم، ولا ترى إلا عيوبي، وتكره هدوئي، وتنعتني بالخرساء.

لن أتحدث عن أمراضي النفسية؛ لأنه لا يهم، أعلم أنني يجب أن أبرها مهما كانت سيئةً معي، وهي لا تقصد أن تكون سيئةً، لكنها تسيء إليّ، ولا تحترمني، أعترف بعجزي عن التعامل معهما؛ فكل ما أستطيع تحسينه هو زيادة مساعدتها في البيت، أما الكلام معها فلست حملاً للمشاحنات، كثيرًا ما أفكر أن أتكلف الأمر فحسب، وأتظاهر بحبها، واحترامها، والتقرب منها، ولكن عند التطبيق لا أجد ما أقوله، وكأني سأبكي وأتقيأ إذا كلمتها كلمةً؛ عني من شدة التراكمات بيننا!

لقد تعبت من نفسي، لا أعلم لماذا لا أستطيع تحملها رغم إيماني بالأجر إن فعلت، هي تنتظر الزلة، وعند حدوث أي شيء تافه تنفجر فجأةً، وتذكر كل شيء بسيط حصل منذ فترة، وكأنها تنتظر هذه اللحظة، تكرر كلامها أنها لا تحتاج إلي، ولكنني أعلم أنها تحب أن تكون محط الاهتمام، هي لا تقصد أن تكون متسلطةً، لا أريد أن أذكرها بسوء، أعتقد أنها تشعر أني غير متعلقة بها، أو أحمل عليها، سبق أن حاولت أن ألمح بهذا، وانتهينا بكارثة، وقطيعة بالكاد مرت، فهي لا تهتم بما أشعر به، المهم ما تشعر هي به.

أعصابي لم تعد تحتمل، فهل قلة كلامي معها عقوق؟ لا أئتمنها على كلامي، تعلمت من ندمي، وأصبحت أخفي كل شيء، فأرجو أن توجهوني؛ فأخلاقها صعبة رغم أنها متدينة، وقد حاولت تحمل الألم، ولكني أفشل!

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أمة الله حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أختي الكريمة، أسأل الله أن يفرّج همّك، ويكتب لك الصبر والأجر العظيم، ويعينك على بر والدتك مهما واجهتِ من صعوبات.

بدايةً، أريد أن أقول إن كلماتك تعبّر عن ألم عميق تعيشينه، وعن صراع نفسي صادق بين رغبتك في القيام بما يُرضي الله تعالى تجاه والدتك، وبين المشاعر المتراكمة من الألم والإحباط نتيجة المعاملة التي تجدينها منها.

أعانك الله على هذا الابتلاء، ورفع عنك الحزن، وجعل لك من هذا الطريق الصعب بابًا إلى الجنة -بإذنه تعالى-.

أود أن أبدأ بتفهم مشاعرك، لأنها مشروعة؛ فالشعور بالألم والخذلان من أقرب الناس إلينا، وخاصةً الوالدين أمر صعب للغاية، وقد يؤدي إلى تراكمات نفسية تُثقل القلب، وخاصةً عندما تبذلين جهدك للإحسان، ولا تجدين التقدير، لكن هذا الشعور رغم ثقله لا يُنقص من قيمتك، أو من جهدك، بل يدل على أنك شخص واعٍ، وصادق مع نفسه، حريص على رضا الله، وهذا في حد ذاته نعمة عظيمة.

ولكي نفهم جذور المشكلة، قد تكون والدتك من خلال تصرفاتها تعكس ضغوطًا، أو تجارب سابقة مرّت بها ولم تُعالجها، فأحيانًا يعاني الآباء من تجارب صعبة في حياتهم تجعلهم يعبّرون عن مشاعرهم بطريقة خاطئة، أو يبالغون في انتقاد أبنائهم؛ لأنهم يرون فيهم انعكاسًا لما كانوا يتمنون أن يكونوا عليه، وهذا لا يعني أن تصرفاتها مبرّرةً، ولكن فهمنا للأسباب يساعدنا على التعامل مع الأمر بحكمة أكبر.

من جهة أخرى: قد تكونين أنت أيضًا في حالة نفسية تجعل التعامل معها أكثر صعوبةً بسبب التراكمات، أو الإرهاق النفسي، وقد يكون هذا الإرهاق ناتجًا عن محاولاتك المستمرة لتحسين العلاقة، أو عن الإحباط الذي تشعرين به نتيجة عدم الاستجابة لمبادراتك، ومن الطبيعي أن تشعري بالتعب، أو حتى بالرغبة في الانسحاب، لكن المهم هو أن نحاول إدارة هذه المشاعر بطريقة لا تُثقل قلبك أكثر، ولا تُضعف من عزمك على برّها.

سؤالك: هل قلة الكلام مع الوالدة يعدّ عقوقًا؟

في الإسلام، برّ الوالدين لا يعني بالضرورة إقامة علاقة عاطفية، مثالية، خالية من المشاكل؛ فالله تعالى يأمرنا بالإحسان إليهما حتى لو كانا ظالمين، أو متسلطين، وقد قال سبحانه وتعالى: "وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا..." (العنكبوت: 8). وأيضًا: "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" (الإسراء: 24).

لكن الإحسان لا يعني أن تتحملي فوق طاقتك، أو أن تتحدثي معها في كل صغيرة وكبيرة إن كان ذلك يؤذيك نفسيًا، قلة الكلام معها ليست عقوقًا إذا كنتِ تحافظين على حدّ أدنى من الاحترام والتواصل، وتقومين بواجباتك تجاهها كالخدمة والمساعدة، مع تجنب الإساءة أو رفع الصوت أو إظهار التذمر.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد" (رواه الترمذي)، فالمعيار الأساسي هو أن تكوني حريصةً على رضاها قدر الإمكان، ولكن دون أن تُجهدي نفسك، أو تدمّري نفسيتك؛ خاصة إن كانت كثرة الكلام قد تؤدي إلى فتح أبواب المشاكل بينكما.

خطوات عملية لتحسين الوضع:

1. تعاملي مع والدتك كإنسانة لها احتياجاتها، وحاولي أن تنظري إلى والدتك كشخص منفصل له مشاعره واحتياجاته، حتى لو كانت طريقتها في التعبير عن هذه الاحتياجات مؤذيةً؛ فقد تكون تريد الشعور بالتقدير، أو تعاني من إحساس بعدم الأمان أو الوحدة، فإذا استطعتِ أن تري هذه الجوانب فيها، فقد يساعدك ذلك على التعامل معها برحمة، حتى لو كنتِ تشعرين بالخذلان.

2. تخصيص وقت قصير لها يوميًا كخطوة عملية؛ كأن تخصصي وقتًا قصيرًا يوميًا للجلوس معها ولو لمدة 10 أو 15 دقيقة فقط، وخلال هذا الوقت، حاولي أن تسأليها عن يومها، أو تشاركيها شيئًا بسيطًا (مثل مشاهدة برنامج، أو تصفح صور قديمة)، ولا تضغطي على نفسك في الحديث العاطفي إذا كان يؤلمك، ولكن اجعلي هذا الوقت فرصةً لإظهار الاهتمام دون الدخول في صراعات.

3. إذا كنتِ تجدين صعوبةً في الحديث المباشر معها عن مشاعرك، فحاولي استخدام طرق غير مباشرة، ككتابة رسالة تحمل كلمات لطيفة (أحيانًا عبر تطبيق الواتساب)، أو تقديم هدية تحمل معنى خاصًا، وأحيانًا الكلمات المكتوبة تكون أبلغ من الحديث المباشر.

4. إذا انفجرت والدتك، أو بدأت في الانتقاد، حاولي أن تذكّري نفسك بأنها قد تكون تعبر عن ألمها، أو إحباطها الشخصي، ولا تأخذي كلامها على محمل شخصي بقدر الإمكان، وركزي على ضبط أعصابك؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (رواه البخاري ومسلم).

5. لا تستهيني بقوة الدعاء؛ فهو سلاح المؤمن، فاسألي الله أن يصلح قلبها، وأن يعينك على برّها، وأن يخفف عنك هذا البلاء، فقد قال تعالى: "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" (غافر: 60)، وكرري الدعاء: "ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيرًا"، حتى إن كنتِ تشعرين بصعوبة في الإحساس بذلك الدعاء أحيانًا، فهذا من الصبر الذي يُثاب عليه العبد.

6. إذا كان هناك شخص تثق به والدتك، كقريب، أو صديقة، يمكنكِ أن تطلبي منه أن يتحدث معها بلطف عن حاجتكما لتحسين العلاقة، دون أن يبدو الأمر شكوى منكِ.

- تذكري أن بر الوالدين من أفضل الأعمال بعد الصلاة: عَبْدِ اللَّهِ بن مسعُود -رضي الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: (الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا) قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (بِرُّ الوَالِدَيْنِ) قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

قال الشافعي:
أحسِن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

وتذكّري أن صبرك على والدتك قد يكون سببًا لدخولك الجنة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئتَ فأضعْ هذا الباب أو احفظْه" (رواه الترمذي).

أسأل الله أن يكتب لكِ الأجر العظيم، وأن يلين قلب والدتك، ويجعل قلبك مطمئنًا برضا الله.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً