الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أهلكتني الوساوس في قراءة الفاتحة والطهارة، فهل من نصيحة؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أعاني من وساوس كثيرة ومرهقة منذ مدة طويلة، وقد بدأت بالتدرج، والآن أصبح الحل بالنسبة لي هو الموت، وأنا أنتظره.

أنا فتاة تؤمن بالله وتخافه، وهذا ما جعلني أتساهل مع هذه الوساوس؛ لأنها تأتيني ناصحةً لي، ولا أدري ماذا أفعل؟

لقد أهلكتني هذه الوساوس، حتى أنها أصبحت تؤثر على دراستي وأهلي؛ فقد أصبح والداي يشعران بالحرج من السفر، أو استقبال الضيوف، ويجدون أن نفسيتي تكون أفضل بكثير عندما أكون حائضًا، وهذا صحيح؛ فوساوس الصلاة تمركزت في الفاتحة، وحاليًا أصبحت أكثر صعوبةً بعد أن علمت أن الشدة حرف من الحروف، فأصبحت أركز على النطق، وأجلس في صلاتي وقتًا طويلاً وأنا أحاول قراءة الفاتحة، ولا تنتهي الصلاة إلا بعد أن ينقطع نفسي.

أتشدد في الراء عند الرّحمن الرّحيم، وفي الدال يوم الدّين، أما إياك نعبد وإياك نستعين فأرفع رأسي لأعلى، وأشدد حتى تبرز عروق عنقي، والأمر متعب حقًا.

وبالنسبة للمشكلة الثانية: وهي المصيبة الأعظم، هي مشكل الاستنجاء عند الغسل؛ حيث أجلس ثلاث ساعات متواصلة، أما بعد التبول، فإني أحتاج ساعةً على الأقل، وأظن أن مشكلتي هي في الفرج؛ حيث تنزل إفرازات مسبقًا، وعند التبول تخالط هذه الإفرازات البول، ويصعب إزالتها بالماء، ثم بعد البول أظن أن الإفرازات الأخرى تخرج؛ كالإفرازات الصفراء، والمخاطية، وإفرازات أخرى كنقط صغيرة بيضاء، وأخرى مثل ورقة مبللة، فأستخدم يدي والماء للتخلص منها، وأحاول تطبيق ما قلتموه في إحدى الفتاوى عن عدم إدخال الإصبع في داخل الفرج أثناء الاستنجاء، لكني إذا لم أفعل سيستمر الأمر إلى وقت أطول، فما الحل؟

الأمر يقتلني، لقد أصبحت أحبس نفسي عن التبول، والأكل، والشرب، وقد نقص من وزني 4 كلغ في أسبوع واحد، وأصبحت أتبول في الليل فقط؛ حتى لا أزعج أهلي، وأصبح شغلي الشاغل هو هذا الأمر.

كما أود أن أسأل أيضًا عن حكم الإفرازات الصفراء التي تخرج، هل هي موجبة للاستنجاء أو الاستجمار؟

أرجو أن لا تحيلوني إلى جواب آخر، وأن لا تتجاهلوا حالتي؛ لأن الحل الوحيد الذي أراه هو الموت.

وجزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ نور حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بكِ -أختنا الكريمة- في إسلام ويب، وردًّا على استشارتك أقول، مستعينًا بالله تعالى:

سأجيب على استشارتك إجابةً وافيةً، وأرجو إن عملتِ بما سأكتبه أن تخرجي مما أنتِ فيه.

الشيطان ضعيف، وكيده ضعيف، وأنتِ أقوى منه بكثير إن عزمتِ على الانتصار عليه، وجاهدتِ نفسكِ في الله كي تخرجي من المعاناة التي أنتِ فيها.

الشيطان الرجيم عدوٌّ لدود للإنسان، ولا يمكن للعدو أن يكون ناصحًا لعدوِّه، قال ربنا سبحانه: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، فهذا توجيه من الله باتخاذ الشيطان عدوًّا، فالعجب من البعض أنهم اتخذوه ناصحًا.

الشيطان أخرجه الله من رحمته بسبب معصية عصى الله فيها، وهي أنه رفض السجود لآدم طاعةً لله تعالى؛ ولذلك عادى الشيطان بني آدم، وتوعَّد بإغوائهم، وقد ذكر الله عنه أنه قال: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾، ومن جملة إغوائه ما يوسوس به لبعض الناس ممن يصغون له.

العلاج النافع الناجع هو ترك الإصغاء لوساوسه تمامًا، والاستعاذة بالله تعالى منه فور وسوسته، والنهوض من المكان الذي جاءت الوساوس فيه، والذهاب إلى مكان آخر، وممارسة أي عمل نافع، مع الاستمرار بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم كلما خطرت وساوسه، وبهذه الطريقة ستنتصرين عليه -بإذن الله تعالى-.

المحافظة على أذكار اليوم والليلة بشكل دائم، وبأوقاتها المحددة؛ ففي ذلك تحصين ووقاية من الشيطان الرجيم، وطمأنينة للقلب.

ما تعانينه هو وسواس قهري حقيقي، وهو مرضٌ نفسي معروف، وليس ضعف إيمان، ولا فساد نية، ولا تقصيراً في الدين، بل كثيرًا ما يبتلي الله به أصحاب القلوب الحية التي تحب الطاعة وتخاف الله، فيتسلط الشيطان عليهم من هذا الباب، كما ورد في الحديث؛ فقد جاء ناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم. قال: «ذاك صريح الإيمان».

الوسواس لم يترك أحدًا، حتى الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، كما مر في الحديث، فكيف بمن سواهم؟ ولكن يختلف الناس في إصغائهم ومحاورتهم لتلك الوساوس؛ فمن أصغى لها، وتحاور معها أدخله الشيطان في دوامة لا يخرج منها إلا من استعان بالله، وجاهد فيه، وعمل بالتوجيهات، أما من لم يُصغِ لها، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن الشيطان ييأس منه.

قولكِ: «الحل بالنسبة لي هو الموت» أمر خطير، ويؤلم القلب سماعه، وأقول لكِ بصدق المستشار، وأمانة الشرع: هذا التفكير نفسه من صميم الوسواس القهري، وليس حلًّا، ولا رغبةً حقيقية منكِ، فاحذري أن يجركِ الشيطان إلى مثل هذا الذنب العظيم.

الله تعالى أرحم بكِ من نفسك، ولم يخلقك ليعذبك، فهذا البلاء قابل للعلاج، بل يتحسن كثيرًا جدًا متى عملتِ بما سبق من التوجيهات، وسلكتِ الطريق الصحيح في العلاج عن طريق الطبيب النفسي، واستخدام العلاج الدوائي، شريطة استخدام العلاج وفق تعليمات الطبيب، وعدم قطعه بغير استشارته.

قتل النفس، أو تمني الموت ليس مخرجًا شرعيًا، ولا نفسيًا، بل هو استسلام لمرضٍ له علاج، ويأثم من ترك العلاج مع إمكانه.

تحسن حالتك أثناء الحيض دليل قاطع على أن المشكلة وسواس قهري؛ لأنه أثناء الحيض تُرفَع عنك الصلاة، فيخف الضغط والتكليف، فيرتاح عقلك من المراقبة والتدقيق القهري، وهذا يؤكد أن المشكلة ليست في الطهارة، ولا في الصلاة نفسها، بل في الوسواس.

ما تفعلينه أثناء الصلاة، وقراءة الفاتحة غير مطلوب منكِ شرعًا، بل ذلك يُعد من الغلو المنهي عنه، وهو من إيحاء الوسواس.

أطمئنكِ بأحكام واضحة:

عليكِ أن تطمئني بأن الشدة ليست حرفًا مستقلًّا، ولا يُطلب منكِ الشعور بها، أو الضغط عليها، وما دمتِ تقرئين الفاتحة بلفظ مفهوم، ولو مع بعض اللحن الخفي، فإن الصلاة صحيحة؛ فالتكلف في إخراج الحروف، ورفع الرأس، وشد العنق، وطول الوقوف حتى ينقطع النفس: كل هذا تكلف واتباع للوسواس.

لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أخف الناس صلاةً، وأكملهم قراءةً، ولم يكن يرهق نفسه، ولا يشدد مثل هذا التشدد.

عوِّدي نفسكِ ألا تقرئي الفاتحة إلا مرةً واحدةً، وإذا قرأتِ الآية فلا تعيديها مرةً أخرى، حتى لو شعرتِ أن النطق لم يكن صحيحًا؛ فغالب ذلك من الوسواس، ولا إعادة عليكِ.

أما معاناتك من وسواس الاستنجاء والإفرازات: فما تصفينه وسواس شديد جدًا، وأحكام الشرع هنا واضحة وقاطعة، وهي على النحو الآتي:

الإفرازات المهبلية: الإفرازات الصفراء، أو البيضاء، أو المخاطية طاهرة عند جمهور أهل العلم، لا توجب استنجاءً، ولا غسلًا، ولا استجمارًا، ولا يُلتفت إليها أصلًا.

خلط البول بالإفرازات: هذا ظنٌّ محض لا يُلتفت إليه، والشرع يقول: اليقين لا يزول بالشك.

إدخال الإصبع داخل الفرج أمر غير جائز، ومخالف للشرع، إذ الشرع لم يطالب بتنظيف غير الظاهر، دون تفتيش، فإن غسلتِ الظاهر فانصرفي فورًا، حتى لو شعرتِ بعد ذلك بخروج شيء، فلا تلتفتي له، وإدخال الإصبع يغذي الوسواس عندكِ.

مدة الاستنجاء الشرعي لا تتجاوز ثوانٍ معدودة، وما تفعلينه من المكث «ساعةً أو ثلاث ساعات» فيه إضرار بالنفس، وهو محرم شرعًا، ويعين على استمرار الوسواس.

حبس البول، والأكل، ونقصان الوزن فيه خطر صحي حقيقي، وليس مجرد وسواس، وقد يؤدي إلى التهابات شديدة، أو يسبب لكِ اضطرابات نفسية وجسدية أكبر.

الواجب عليك شرعًا وعلى أسرتك أن تذهبوا إلى طبيب نفسي ذي خبرة ومعرفة بالوسواس القهري؛ لأن ترك المرض على ما هو عليه فيه إضرار بالنفس، وهو محرم، والوسواس القهري يمكن علاجه عن طريق استخدام العقاقير الطبية، وكثير من الحالات تحسنت، وشُفي أصحابها شفاءً تامًا.

أكثري من التضرع بالدعاء بين يدي الله تعالى، مع تحرّي أوقات الإجابة، وسلي الله تعالى أن يُعذكِ من الشيطان الرجيم ووساوسه.

رسالة طمأنة:
أنتِ لستِ ضعيفةً، ولا فاسدةً، ولا مذنبةً، بل أنتِ مبتلاة بمرض، والمرض يُعالج، والله لا يكلّف نفسًا إلا وسعها، وإن سلكتِ طريق العلاج الصحيح، سيأتي يوم تنظرين لما تعيشينه الآن وكأنه كابوس انتهى.

نسأل الله تعالى أن يعينكِ على الخروج من هذا المأزق، وأن ينصركِ على الشيطان الرجيم، إنه سميع مجيب، ونسعد بتواصلكِ.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً