فالمنهج العلمي الصحيح هو جمع الأدلة الواردة في الموضوع الواحد والتوفيق بينها حسب القواعد المقررة عند أهل العلم، ومن ذلك تقديم الخاص على العام والمقيد على المطلق والأقوى على ما هو دونه عند عدم إمكان الجمع أوعدم ثبوت النسخ، ولو طبقنا هذه القواعد في هذه المسألة لتبين لنا بوضوح أن أدلة تحريم مكث الجنب والحائض في المسجد خاصة وصريحة فهي مقدمة على غيرها.
ومنها: ما رواه أبو داود وصححه ابن القطان وابن خزيمة وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب. أي مكثا فيه لا مرورا، ودل على هذا التفريق قوله تعالى وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ {النساء: 43} ويشترط في جواز عبور المرأة الحائض أن تأمن من تلويثه بدمها وإلا فتمنع حتى من المرور، وقد نقل عن السلف التفريق بين المكث والمرورأيضا، فمن ذلك ما رواه البيهقي في سننه عن ابن عباس: في قوله: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا. قال: لا تدخل المسجد وأنت جنب إلا أن يكون طريقك فيه ولا تجلس. ورواه أبو نعيم عن أبي جعفر وقال: إلا وأنت مار تمر فيه. وعن جابر قال: كان أحدنا يمر في المسجد وهو جنب مجتازا. وعن أنس بن مالك: في قوله وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ قال: يجتاز ولا يجلس.
وعن عطاء قال: الحائض والجنب لا ينقضان عقاصا ولا ضفيرة ولا تمر حائض في المسجد إلا مضطرة، لقول الله تعالى: فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا {التوبة: 28} وهو قول سعيد بن المسيب.
فالاستدلال على جواز المكث بأدلة جواز المرور غير سديد لما سبق؛ بل من أهل العلم من منع المرور أيضا إلا عند الضرورة وبعد التيمم وإن كان الأصح الجواز مطلقا كما سيأتي.
وأما الاستدلال بحديث أبي هريرة فليس بصحيح لأنه ليس فيه دلالة على أن للجنب أن يمكث في المسجد؛ بل فيه أنه لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب, قال: فانخنست منه فاغتسلت, ثم جئت، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة . فقال: سبحان الله, إن المؤمن لا ينجس. متفق عليه. فأين الدلالة فيه على جواز المكث في المسجد؟!.
وأما لعب الحبشة في المسجد فإنهم كانوا مسلمين وليسوا نصارى كما زعم الأخ السائل، ولا دليل فيه للدعوى بكل حال.
وأما قياسه على جواز مكث الكافر فلا يصح من وجهين كما سيأتي في كلام الإمام النووي رحمه الله وسننقله بطوله لما فيه من الفائدة زيادة على ما سبق
قال الامام النووي في المجموع ( فرع ) في مذاهب العلماء في مكث الجنب في المسجد وعبوره فيه بلا مكث, مذهبنا أنه يحرم عليه المكث في المسجد جالسا أو قائما أو مترددا أو على أي حال كان, متوضئا كان أو غيره, ويجوز له العبور من غير لبث, سواء كان له حاجة أم لا, وحكى ابن المنذر مثل هذا عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصري وسعيد بن جبير وعمرو بن دينار ومالك. وحكي عن سفيان الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وإسحاق بن راهويه أنه لا يجوز له العبور إلا أن لا يجد بدا منه فيتوضأ ثم يمر . وقال أحمد : يحرم المكث ويباح العبور لحاجة ولا يباح لغير حاجة. قال: ولو توضأ استباح المكث . وجمهور العلماء على أن الوضوء لا أثر له في هذا . وقال المزني وداود وابن المنذر: يجوز للجنب المكث في المسجد مطلقا. وحكاه الشيخ أبو حامد عن زيد بن أسلم . واحتج من أباح المكث مطلقا , بما ذكره ابن المنذر في الإشراف , وذكره غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسلم لا ينجس. رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة, وبما احتج به المزني في المختصر واحتج به غيره أن المشرك يمكث في المسجد , فالمسلم الجنب أولى, وأحسن ما يوجه به هذا المذهب أن الأصل عدم التحريم , وليس لمن حرم دليل صحيح صريح . واحتج أصحابنا بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ {النساء: 43} قال الشافعي رحمه الله في الأم: قال بعض العلماء بالقرآن: معناها لا تقربوا مواضع الصلاة . قال الشافعي: وما أشبه ما قال بما قال: لأنه ليس في الصلاة عبور سبيل , إنما عبور السبيل في موضعها وهو المسجد, قال الخطابي: وعلى ما تأولها الشافعي تأولها أبو عبيدة معمر بن المثنى . قال البيهقي في معرفة السنن والآثار: وروينا هذا التفسير عن ابن عباس، قال: وروينا عن جابر قال: " كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب" وعن أفلت بن خليفة عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبيوت أصحابه شارعة في المسجد, فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب. رواه أبو داود وغيره. قال البيهقي: ليس هو بقوي قال: قال البخاري عند جسرة عجائب وقد خالفها غيرها في سد الأبواب. وقال الخطابي "ضعف هذا الحديث" وقالوا: أفلت مجهول, وقال الحافظ عبد الحق: "هذا الحديث لا يثبت". ( قلت ) وخالفهم غيرهم, فقال أحمد بن حنبل "لا أرى بأفلت بأسا " وقال الدارقطني "هو كوفي صالح" وقال أحمد بن عبد الله العجلي "جسرة تابعية ثقة" وقد روى أبو داود هذا الحديث ولم يضعفه , وقد قدمنا أن مذهبه أن ما رواه ولم يضعفه ولم يجد لغيره فيه تضعيفا فهو عنده صالح , ولكن هذا الحديث ضعفه من ذكرنا, وجسرة بفتح الجيم وإسكان السين المهملة, وأفلت بالفاء. قال الخطابي: وجوه البيوت أبوابها, وقال: ومعنى وجهوها عن المسجد: اصرفوا وجوهها عن المسجد. وأجاب أصحابنا عن احتجاجهم بحديث: المسلم لا ينجس بأنه لا يلزم من عدم نجاسته جواز لبثه في المسجد . وأما القياس على المشرك فجوابه من وجهين: ( أحدهما ) أن الشرع فرق بينهما, فقام دليل تحريم مكث الجنب. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس بعض المشركين في المسجد, فإذا فرق الشرع لم يجز التسوية. ( والثاني ) أن الكافر لا يعتقد حرمة المسجد فلا يكلف بها, بخلاف المسلم وهذا كما أن الحربي لو أتلف على المسلم شيئا لم يلزمه ضمانه لأنه لم يلتزم الضمان بخلاف المسلم والذمي إذا أتلفا. واحتج من حرم المكث والعبور بحديث:لا أحل المسجد لحائض ولا جنب. وبحديث سالم بن أبي حفصة عن عطية بن سعد العوفي المفسر عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك. رواه الترمذي في جامعه في مناقب علي وقال : حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال أبو نعيم ضرار بن صرد: معناه لا يحل لأحد يستطرقه جنبا غيري وغيرك . قال الترمذي: سمع البخاري مني هذا الحديث واستغربه, قالوا: ولأنه موضع لا يجوز المكث فيه, فكذا العبور, كالدار المغصوبة وقياسا على الحائض ومن في رجله نجاسة. واحتج أصحابنا بما احتج به الشافعي وغيره وهو قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ. وتقدم ذكر الدلالة منها. قال أصحاب أبي حنيفة: المراد بالآية أن المسافر إذا أجنب وعدم الماء جاز له التيمم والصلاة وإن كانت الجنابة باقية, لأن هذه حقيقة الصلاة. والجواب أن هذا الذي ذكروه ليس مختصا بالمسافر بل يجوز للحاضر فلا تحمل الآية عليه, وأما ما ذكرناه فهو الظاهر, وقد جاء الحديث وأقوال الصحابة وتفسيرهم على وفقه فكان أولى. واحتجوا بحديث جابر: كنا نمشي في المسجد جنبا لا نرى به بأسا. رواه الدارمي بإسناد ضعيف, ولأنه مكلف أمن تلويث المسجد فجاز عبوره كالمحدث. وأما الجواب عن حديثهم الأول فهو أنه إن صح حُمِل على المكث جمعا بين الأدلة. وأما الثاني فضعيف لأن مداره على سالم بن أبي حفصة وعطية وهما ضعيفان جدا شيعيان متهمان في رواية هذا الحديث, وقد أجمع العلماء على تضعيف سالم وغلوه في التشيع , ويكفي في رده بعض ما ذكرنا, لاسيما وقد استغربه البخاري إمام الفن, على أنه لو صح لم يكن معناه ما ذكره أبو نعيم لأنه خلاف ظاهره, بل معناه إباحة المكث في المسجد مع الجنابة, وقد ذكر أبو العباس بن القاص هذا في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قياسهم على الدار المغصوبة , فمنتقض بمواضع الخمور والملاهي والطرق الضيقة . وأما قياسهم على من على رجله نجاسة فإنما يمنع عبوره إذا كانت النجاسة جارية أو متعرضة للجريان, وهذا يمنع صيانة للمسجد من تلويثه , والجنب بخلافه فنظير الجنب من على رجله نجاسة يابسة فله العبور. وبهذا يجاب عن قياسهم على الحائض إن حرمنا عبورها, وإلا فالأصح جواز عبورها إذا أمنت التلويث.
والله أعلم.