الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير  وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين  يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين  قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون  قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين  قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون  قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين  

يا أهل الكتاب ، يعني اليهود، منهم: رافع بن أبي حريملة ، ووهب بن يهوذا ، قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، يبين لكم الدين، على فترة من الرسل فيها تقديم، وكان بين محمد وعيسى، صلى الله عليهما وسلم، ستمائة سنة،  أن تقولوا ، يعني لئلا تقولوا: ما جاءنا من بشير بالجنة، ولا نذير من النار، يقول: فقد جاءكم بشير ونذير ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، والله على كل شيء قدير ، إذ بعث محمدا رسولا.

وإذ قال موسى لقومه ، وهم بنو إسرائيل، يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم [ ص: 291 ] يعني بالنعمة، إذ جعل فيكم السبعين الذي جعلهم الله أنبياء بعد موسى وهارون، وبعدما أتاهم الله بالصاعقة، وجعلكم ملوكا ، يعني أغنياء، بعضكم عن بعض، فلا يدخل عليه أحد إلا بإذنه بمنزلة الملوك في الدنيا، ثم قال: وآتاكم ، يعني وأعطاكم، ما لم يؤت ، يعني ما لم يعط أحدا من العالمين ، يعني الخير والتوراة، وما أعطاكم الله عز وجل في التيه من المن والسلوى، وما ظلل عليهم من الغمام وأشباه ذلك مما فضلوا به على غيرهم.

فقال موسى: يا قوم بني إسرائيل، ادخلوا الأرض المقدسة ، يعني المطهرة التي كتب الله لكم ، يعني التي أمركم الله عز وجل أن تدخلوها وهي أريحا أرض الأردن وفلسطين، وهما من الأرض المقدسة، ولا ترتدوا على أدباركم ، يعني ولا ترجعوا وراءكم بترككم الدخول، فتنقلبوا خاسرين ، يعني فترجعوا خاسرين.

وذلك أن الله عز وجل قال لإبراهيم، عليه السلام، وهو بالأرض المقدسة: إن هذه الأرض التي أنت بها اليوم هي ميراث لولدك من بعدك، فلما أخرج الله عز وجل موسى، عليه السلام، من مصر مع بني إسرائيل، وقطعوا البحر، وأعطوا التوراة، أمرهم موسى أن يدخلوا الأرض المقدسة، فساروا حتى نزلوا على نهر الأردن في جبل أريحا، وكان في أريحا ألف قرية، في كل قرية ألف بستان، وجبنوا أن يدخلوها، فبعث موسى، عليه السلام، اثني عشر رجلا، من كل سبط رجلا، يأتونه بخبر الجبارين، وأمرهم أن يأتوه منها بالثمرة.

فلما أتوها خرج إليهم عوج بن عناق بنت آدم ، فاحتملهم ومتاعهم بيده حتى وضعهم بين يدي الملك بانوس بن سشرون ، فنظر إليهم، فأمر بقتلهم، فقالت امرأته: أيها الملك، أنعم على هؤلاء المساكين، فدعهم فليرجعوا وليأخذوا طريقا غير الذي جاءوا فيه، فأرسلهم لها، فأخذوا عنقودا من كرومهم، وحملوه على عمودين بين رجلين، وعجزوا عن حمله، وحملوا رمانتين على بعض دوابهم، فعجزت الدابة عن حملهما حتى أتوا به أصحابهم وهم بواد يقال له: جبلان، فسموا ذلك المنزل وادي العنقود؟ قالوا يا موسى وجدناها أرضا مباركة تفيض لبنا وعسلا كما عهد الله عز وجل إليك، ولكن إن فيها قوما جبارين ، يعني قتالين أشداء يقتل الرجل منهم العصابة منا، [ ص: 292 ] فإن كان الله عز وجل أراد أن يجعلها لنا منزلا وسكنا، فليسلطك عليهم فتقتلهم وإلا فليس لنا بهم قوة، وحصنهم منيع، فتتابع على ذلك منهم عشرة، فقالوا لموسى: إن فيها قوما جبارين ، طول كل رجل منهم سبعة أذرع ونصف من بقايا قوم عاد، وكان عوج بن عناق بنت آدم فيهم، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ، وهي أريحا، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون .

قال يوشع بن نون ، وهو من سبط بنيامين ، وكالب بن يوقنا ، وهو من سبط يهوذا ، قال رجلان ، وهما الرجلان من القوم، من الذين يخافون من العدو وقد أنعم الله عليهما بالإسلام، قالا: ليس كما يقول العشرة، سيروا حتى تحيطوا بالمدينة وبأبوابها، فإن القوم إذا رأوا كثرتكم بالباب وكبرتم رعبوا منكم، فانكسرت قلوبهم وانقطعت ظهورهم، وذهبت قوتهم، فـ ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا ، يقول: وبالله فلتتقوا، إن كنتم مؤمنين بقتلهم بأيديكم، وينفيهم من أرض هي ميراثهم.

قالوا يا موسى أتصدق رجلين وتكذب عشرة يا موسى، إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك ينصرك عليهم، فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، يعني مكاننا، فإننا لا نستطيع قتال الجبابرة، فغضب موسى عليهم، و قال رب إني لا أملك من الطاعة إلا نفسي وأخي هارون، فافرق بيننا ، يعني فاقض بيننا وبين القوم الفاسقين ، يعني العاصين الذين عصوا أن يقاتلوا عدوهم، وهم كلهم مؤمنون.

فأوحى الله عز وجل إلى موسى، عليه السلام: أما إذا سميتهم فاسقين، فالحق أقول: لا يدخلونها أبدا، وذلك قوله عز وجل: قال فإنها محرمة عليهم دخولها البتة أبدا، أربعين سنة فيها تقديم، يتيهون في الأرض في البرية، فأعمى الله عز وجل عليهم السبيل، فحبسهم بالنهار، وسيرهم بالليل، يسهرون ليلهم، فيصبحون حيث أمسوا، فإذا بلغ أجلهم، وهو أربعون سنة، أرسلت عليهم الموت، فلا يدخلها إلا خلوفهم، إلايوشع بن نون ، وكالب بن يوقنا ، فهما يسوقان بني إسرائيل إلى تلك الأرض، فتاه القوم في تسع فراسخ عرض وثلاثين فرسخا طول، وقالوا أيضا: ستة [ ص: 293 ] فراسخ عرض في اثني عشر فرسخا طول، فقال القوم لموسى، عليه السلام، ما صنعت بنا، دعوت علينا حتى بقينا في التيه؟ وندم موسى، عليه السلام، على ما دعا عليهم، وشق عليه حين تاهوا، فأوحى الله عز وجل إليه: فلا تأس على القوم الفاسقين ، يعني لا تحزن على قوم أنت سميتهم فاسقين أن تاهوا.

ثم مات هارون، عليه السلام، في التيه، ومات موسى من بعده بستة أشهر، فماتا جميعا في التيه، ثم إن الله عز وجل أخرج ذرياتهم بعد أربعين سنة وقد هلكت الأمة العصاة كلها، وخرجوا مع يوشع بن نون ابن أخت موسى ، وكالب بن يوقنا بعد وفاة موسى، عليه السلام، بشهرين، فأتوا أريحا، فقاتلوا أهلها ففتحوها، وقتلوا مقاتلهم، وسبوا ذراريهم، وقتلوا ثلاثة من الجبارين، وكان قاتلهم يوشع بن نون ، فغابت الشمس، فدعا يوشع بن نون ، فرد الله عز وجل عليه الشمس، فأطلعت ثانية، وغابت الشمس الثانية، ودار الفلك فاختلط على الحساب حسابهم منذ يومئذ فيما بلغنا، ومات في التيه، كل ابن عشرين سنة فصاعدا، وموضع التيه بين فلسطين وأيلة ومصر، فتاه القوم بعصيانهم ربهم عز وجل، وخلافهم على نبيهم، مع دعاء بلعام بن باعور بن ماث عليهم فيما بين ستة فراسخ إلى اثني عشر فرسخا، لا يستطيعون الخروج منها أربعين سنة، ومات هارون حين أتم ثمانية وثمانين سنة، وتوفي موسى بعده بستة أشهر، واستخلف عليهم يوشع بن نون،  وحين ماتوا كلهم أخرج ذراريهم يوشع بن نون ، وكالب بن يوقنا.

التالي السابق


الخدمات العلمية