الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين  لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين  إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين  فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين  فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين  من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون  

[ ص: 294 ] واتل عليهم نبأ ابني آدم ، يقول: اتل يا محمد على أهل مكة نبأ ابني آدم، بالحق ليعرفوا نبوتك، يقول: اتل عليهم حديث ابني آدم هابيل ، وقابيل ، وذلك أن حواء ولدت في بطن واحد غلاما وجارية، قابيل وإقليما، ثم ولدت في البطن الآخر غلاما وجارية، هابيل وليوذا، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل ، فلما أدركا، قال آدم، عليه السلام، ليتزوج كل واحد منهما أخت الآخر، قال قابيل: لكن يتزوج كل واحد منهما أخته التي ولدت معه، قال آدم، عليه السلام: قربا قربانا، فأيما تقبل قربانه كان أحق بهذه الجارية.

وخرج آدم، عليه السلام، إلى مكة، فعمد قابيل ، وكان صاحب زرع، فقرب أخبث زرعه البر المأكول فيه الزوان، وكان هابيل صاحب ماشية، فعمد فقرب خير غنمه مع زبد ولبن، ثم وضعا القربان على الجبل، وقاما يدعوان الله عز وجل، فنزلت نار من السماء، فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، فحسده قابيل ، فقال لهابيل: لأقتلنك، قال هابيل: يا أخي، لا تلطخ يدك بدم بريء، فترتكب أمرا عظيما، إنما طلبت رضا والدي ورضاك، فلا تفعل، فإنك إن فعلت أخزاك الله بقتلك إياي بغير ذنب ولا جرم، فتعيش في الدنيا أيام حياتك في شقوة ومخافة في الأرض، حتى تكون من الخوف والحزن أدق من شعر رأسك، ويجعلك إلهي ملعونا.

فلم يزل يحاوره حتى انتصف النهار، وكان في آخر مقالة هابيل لقابيل:  إن أنت قتلتني كنت أول من كتب عليه الشقاء، وأول من يساق إلى النار من ذرية والدي، وكنت أنا أول شهيد يدخل الجنة، فغضب قابيل: فقال لا عشت في الدنيا، ويقال: قد تقبل قربانه ولم يتقبل قرباني، فقال له هابيل: فتشقى آخر الأبد، فغضب عند ذلك قابيل، فقتله بحجر دق رأسه، وذلك بأرض الهند عشية، وآدم، عليه السلام، بمكة، فذلك قوله عز وجل: إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين .

لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ، فطوعت له نفسه قتل أخيه ، يقول: فزينت له [ ص: 295 ] نفسه قتل أخيه، فقتله فأصبح من الخاسرين .

قال: وكان هابيل قال لأخيه قابيل: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني إلى قوله: بإثمي وإثمك ، يعني أن ترجع بإثمي بقتلك إياي، وإثمك الذي عملته قبل قتلي، فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ، يعني جزاء من قتل نفسا بغير جرم، فلما قتله عشية من آخر النهار، لم يدر ما يصنع، وندم ولم يكن يومئذ على الأرض بناء ولا قبر، فحمله على عاتقه، فإذا أعيى وضعه بين يديه، ثم ينظر إليه ويبكي ساعة، ثم يحمله، ففعل ذلك ثلاثة أيام.

فلما كان في الليلة الثالثة، بعث الله غرابين يقتتلان، فقتل أحدهما صاحبه وهو ينظر، ثم حفر بمنقاره في الأرض، فلما فرغ منه، أخذ بمنقاره رجل الغراب الميت، حتى قذفه في الحفيرة، ثم سوى الحفيرة بالأرض، وقابيل ينظر، فذلك قوله تعالى: فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال قابيل: يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب ، يقول: أعجزت أن أعلم من العلم مثل ما علم هذا الغراب، فأواري سوءة أخي ، يقول: فأغطي عورة أخي كما وارى الغراب صاحبه، فأصبح من النادمين بقتله أخاه.

فعمد عند ذلك قابيل ، فحفر في الأرض بيده، ثم قذف أخاه في الحفيرة، فسوى عليه تراب الحفيرة كما فعل الغراب بصاحبه، فلما دفنه ألقى الله عز وجل عليه الخوف، يعني على قابيل ; لأنه أول من أخاف، فانطلق هاربا، فنودي من السماء: يا قابيل ، أين أخوك هابيل؟ قال: أورقيبا كنت عليه؟ ليذهب حيث شاء، قال المنادي: أما تدري أين هو؟ قال: لا، قال المنادي: إن لسانك وقلبك ويديك ورجليك وجميع جسدك يشهدون عليك أنك قتلته ظلما، فلما أنكر شهدت عليه جوارحه، فقال المنادي: أين تنجو من ربك؟ إن إلهي يقول: إنك ملعون بكل أرض، وخائف ممن يستقبلك، ولا خير فيك، ولا في ذريتك.

فانطلق جائعا، حتى أتى ساحل البحر، فجعل يأخذ الطير، فيضرب بها الجبل، فيقتلها ويأكلها، فمن أجل ذلك حرم الله الموقوذة، وكانت الدواب، والطير، والسباع، لا يخاف بعضها من بعض، حتى قتل قابيل هابيل ، فلحقت الطير بالسماء، والوحش بالبرية والجبال، ولحقت السباع بالغياض، وكانت قبل ذلك تستأنس إلىآدم، عليه [ ص: 296 ] السلام، وتأتيه، وغضبت الأرض على الكفار من يومئذ، فمن ثم يضغط الكافر في الأرض حتى تختلف أضلاعه، ويتسع على المؤمن قبره حتى ما يرى طرفاه،  وتزوج شيت بن آدم ليوذا التي ولدت مع هابيل ، وبعث الله عز وجل ملكا إلى قابيل فعلق رجله، وجعل عليه ثلاث سرادقات من نار، كلما دار دارت السرادقات معه، فمكث بذلك حينا، ثم حل عنه.

من أجل ذلك ، يعني من أجل بني آدم، تعظيما للدم، كتبنا على بني إسرائيل في التوراة أنه من قتل نفسا بغير نفس عمدا، أو فساد في الأرض ، أو عمل فيها بالشرك، وجبت له النار، ولا يعفى عنه حتى يقتل، فكأنما قتل الناس جميعا ، أي كما يجزى النار لقتله الناس جميعا لو قتلهم، ثم قال سبحانه: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ، وذلك أنه مكتوب في التوراة أنه من قتل رجلا خطأ، فإنه يقاد به،  إلا أن يشاء ولي المقتول أن يعفو عنه، فإن عفا عنه، وجبت له الجنة، كما تجب له الجنة لو عفا عن الناس جميعا، فشدد الله عز وجل عليهم القتل ; ليحجز بذلك بعضهم عن بعض، ثم قال سبحانه: ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ، يعني بالبيان في أمره ونهيه، ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك البيان في الأرض لمسرفون ، يعني إسرافا في سفك الدماء واستحلال المعاصي.

التالي السابق


الخدمات العلمية