فإن قال هؤلاء الرافضة : بإلياس ، والخضر ، والغوث ، والقطب إيماننا بهذا المنتظر المعصوم مثل إيمان كثير من شيوخ الزهد والدين [1] ، [ ورجال [ ص: 92 ] الغيب ] [2] ، ونحو ذلك من الأشخاص الذين لا يعرف [3] وجودهم ، ولا بماذا يأمرون ، ولا عماذا ينهون [4] فكيف يسوغ لمن يوافق هؤلاء أن ينكر علينا ما ندعيه ؟ .
قيل : الجواب من وجوه :
أحدها : أن الإيمان بوجود هؤلاء ليس واجبا عند أحد من علماء المسلمين ، وطوائفهم المعروفين ، وإذا كان بعض الغلاة يوجب على أصحابه الإيمان بوجود هؤلاء ، ويقول : إنه لا يكون مؤمنا وليا لله إلا من يؤمن بوجود هؤلاء في هذه الأزمان كان قوله مردودا كقول الرافضة ( * فإن من قال من هؤلاء الغلاة : إنه لا يكون وليا لله إن لم يعتقد [5] الخضر ، ونحو ذلك كان قوله مردودا كقول الرافضة * ) [6] .
الوجه الثاني : أن يقال : من الناس من يظن أن التصديق بهؤلاء يزداد به [ ص: 93 ] الرجل [7] إيمانا وخيرا ، وموالاة لله ، وأن المصدق بوجود هؤلاء أكمل [ وأشرف ] [8] ، وأفضل عند الله ممن لم يصدق بوجود هؤلاء ، وهذا القول ليس مثل قول الرافضة من كل وجه ، بل هو مشابه له من بعض الوجوه لكونهم جعلوا كمال الدين موقوفا على ذلك .
وحينئذ فيقال : هذا القول أيضا باطل باتفاق علماء المسلمين ، وأئمتهم ، فإن العلم بالواجبات ، والمستحبات ، وفعل الواجبات ، والمستحبات كلها ليس موقوفا على التصديق بوجود أحد من [9] هؤلاء ، ومن ظن من أهل النسك ، والزهد ، والعامة أن شيئا من الدين - واجبه ، أو مستحبه - موقوفا [10] على التصديق بوجود هؤلاء ، فهو [11] جاهل ضال باتفاق أهل العلم ، والإيمان العالمين بالكتاب والسنة ، إذ قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لأمته التصديق بوجود هؤلاء ، ولا أصحابه كانوا يجعلون ذلك من الدين ، [ ولا أئمة المسلمين .
وأيضا ، فجميع هذه الألفاظ لفظ الغوث ، والقطب ، والأوتاد ، والنجباء [12] ، وغيرها لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد معروف أنه [ ص: 94 ] تكلم بشيء منها ، ولا أصحابه ، ولكن لفظ الأبدال [13] تكلم به بعض السلف ، ويروى فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث ضعيف ، وقد [ ص: 95 ] بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع ] [14] .
الوجه الثالث : أن يقال : القائلون بهذه الأمور منهم من ينسب إلى أحد هؤلاء ما لا تجوز نسبته إلى [ أحد من ] البشر [15] مثل دعوى بعضهم أن الغوث ، أو القطب هو الذي يمد أهل الأرض في هداهم ، ونصرهم ، ورزقهم ، فإن هذا لا يصل إلى أحد من أهل الأرض [16] إلا بواسطة نزوله على ذلك الشخص ، وهذا باطل بإجماع المسلمين ، وهو من جنس قول النصارى في الباب .
وكذلك ما يدعيه بعضهم من أن الواحد من هؤلاء قد [17] يعلم كل ولي لله كان ، ويكون ، واسمه [18] ، واسم أبيه ، ومنزلته من الله ، ونحو ذلك من [ ص: 96 ] المقالات الباطلة التي تتضمن أن الواحد من البشر يشارك الله في بعض خصائصه مثل أنه بكل شيء عليم ، أو على كل شيء قدير ، ونحو ذلك ، كما يقول بعضهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي شيوخه : إن علم أحدهم ينطبق على علم الله ، وقدرته منطبقة على قدرة الله ، فيعلم ما يعلمه الله ، ويقدر على ما يقدر الله عليه [19] .
فهذه المقالات ، وما يشبهها من جنس قول النصارى ، والغالية في ، وهي باطلة بإجماع علماء علي [20] المسلمين ، ومنهم من ينسب إلى الواحد من هؤلاء ما تجوز نسبته إلى الأنبياء ، وصالحي المؤمنين من الكرامات كدعوة مجابة ، ومكاشفة [21] من مكاشفات الصالحين ، ونحو ذلك .
فهذا القدر يقع كثيرا من الأشخاص الموجودين [ المعاينين ] [22] ، ومن نسب ذلك إلى من لا يعرف وجوده ، فهؤلاء وإن كانوا مخطئين في نسبة ذلك إلى شخص معدوم ، فخطؤهم كخطأ من اعتقد أن في البلد الفلاني رجالا من أولياء الله ، وليس فيه أحد ، أو اعتقد في ناس معينين أنهم أولياء الله ، ولم يكونوا كذلك ، ولا ريب أن هذا خطأ . وجهل ، وضلال يقع فيه كثير من الناس لكن خطأ الإمامية ، وضلالهم [23] أقبح ، وأعظم .
الوجه الرابع : أن يقال : الصواب الذي عليه محققو العلماء أن إلياس ، [ ص: 97 ] والخضر ماتا [24] ، وأنه ليس أحد من البشر واسطة بين الله وبين خلقه في رزقه ، وخلقه [25] ، وهداه ، ونصره ، وإنما الرسل وسائط في تبليغ رسالاته لا سبيل لأحد إلى السعادة إلا بطاعة الرسل [26] ، وأما خلقه ، ورزقه ، وهداه ، ونصره [27] ، [ فلا يقدر عليه إلا الله تعالى ] [28] ، فهذا لا يتوقف [ على حياة الرسل ، وبقائهم ، . بل . ولا يتوقف نصر الخلق ، ورزقهم على وجود الرسل أصلا ] [29] ، بل قد يخلق الله ذلك بما شاء من الأسباب بواسطة الملائكة ، [ أو غيرهم ] [30] ، وقد يكون لبعض البشر في ذلك من الأسباب ما هو معروف في البشر .
وأما كون ذلك لا يكون إلا بواسطة البشر [31] ، أو أن أحدا من البشر يتولى ذلك كله ، ونحو ذلك ، فهذا كله باطل ، وحينئذ فيقال : للرافضة إذا احتجوا بضلال الضلال : ( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) [ سورة الزخرف : 39 ] .
[ ص: 98 ] وأيضا : وبيان الرسول لها أولى من بيان غيرها ، والقرآن مملوء بذكر توحيد الله ، وذكر أسمائه . وصفاته ، وآياته ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقصص ، والأمر ، والنهي ، والحدود ، والفرائض بخلاف الإمامة ، فكيف يكون القرآن مملوءا بغير الأهم الأشرف ؟ . فمن المعلوم أن أشرف مسائل المسلمين ، وأهم المطالب في الدين ينبغي أن يكون ذكرها في كتاب الله أعظم من غيرها ،
وأيضا : فإن الله تعالى قد علق السعادة بما لا ذكر فيه للإمامة ، فقال : [ ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) [ سورة النساء : 69 ] ، وقال ] [32] : ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) [ سورة النساء : 13 - 14 ] ، فقد بين الله في القرآن أن من أطاع الله ورسوله كان سعيدا في الآخرة ، ومن عصى الله ورسوله ، وتعدى حدوده كان معذبا ، فهذا [33] هو الفرق بين السعداء ، والأشقياء ، ولم يذكر الإمامة .
فإن قال قائل : إن الإمامة داخلة في طاعة الله ورسوله .
قيل : غايتها [34] أن تكون كبعض الواجبات كالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، [ ص: 99 ] والحج ، وغير ذلك مما يدخل في طاعة الله ورسوله ، فكيف تكون هي وحدها أشرف مسائل المسلمين ، وأهم مطالب الدين ؟ .
فإن قيل : لا يمكننا طاعة [35] الرسول إلا بطاعة إمام [36] ، فإنه هو الذي يعرف الشرع .
قيل : هذا [ هو ] [37] دعوى المذهب ، ولا حجة فيه ، ومعلوم أن القرآن لم يدل على هذا ، كما دل على سائر أصول الدين ، [ وقد تقدم أن هذا الإمام الذي يدعونه لم ينتفع به أحد في ذلك ، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن ما جاء به الرسول لا يحتاج في معرفته إلى أحد من الأئمة ] [38] .