الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ولما ظهر هذا سألوا أئمة الإسلام مثل جعفر الصادق [1] وأمثاله ، فقالوا لجعفر [ الصادق ] [2] : القرآن خالق أم مخلوق ؟ [3] فقال : ليس بخالق ولا مخلوق ، ولكنه كلام الله . ومعلوم أن قوله : " ليس بخالق ولا مخلوق " لم يرد به [ أنه ] [4] ليس بكاذب ولا مكذوب ، لكن أراد [ أنه ] [5] ليس هو الخالق للمخلوقات ، ولا هو من المخلوقات ولكنه كلام الخالق .

                  وكذلك ما نقل عن علي بن أبي طالب - [ رضي الله عنه ] [6] - لما قيل [ ص: 252 ] له : حكمت مخلوقا ! ؟ قال : لم أحكم مخلوقا وإنما حكمت القرآن .

                  وما رواه ابن أبي حاتم في " الرد على الجهمية " [7] . قال : " كتب إلي حرب الكرماني ، ثنا محمد بن المصفى ، [8] ثنا عبد الله بن محمد ، عن عمرو بن جميع ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس قال : لما حكم علي الحكمين ، قالت الخوارج : حكمت رجلين ؟ قال : ما حكمت مخلوقا ، إنما حكمت القرآن .

                  حدثنا الأشج ، ثنا يحيى بن يمان ، ثنا حسن بن صالح ، عن عبد الله بن الحسن ، قال : قال علي للحكمين : احكما بالقرآن كله ، فإنه كله لي " .

                  وقال ابن أبي حاتم : " ثنا أبي [9] ، ثنا الصهيبي ابن عم علي بن عاصم وعلي بن صالح ، عن عمران بن حدير [10] ، عن عكرمة قال : كان ابن [ ص: 253 ] عباس في جنازة فسمع رجلا يقول : يا رب القرآن ارحمه . فقال ابن عباس : مه ، القرآن منه ، القرآن كلام الله وليس بمربوب ، منه خرج وإليه يعود .

                  حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، ثنا أبو مروان الطبري بمكة - يعني الحكم بن محمد - ثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار : سمعت مشيختنا منذ سبعين سنة يقولون : القرآن كلام الله غير مخلوق . وفي رواية : منه بدأ وإليه يعود " . وهذا رواه [11] غير واحد عن [ سفيان ] [12] بن عيينة عن عمرو ، ورواه البخاري في كتاب " خلق أفعال العباد " [13] .

                  وقال ابن أبي حاتم : " ثنا أبي ، ثنا العباس بن عبد العظيم ، ثنا رويم بن يزيد المقري ، ثنا عبد الله بن عباس ، عن يونس بن بكير ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه قال : سئل علي بن الحسين عن القرآن ، فقال : ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الخالق ، ورواه أبو زرعة ، عن يحيى بن منصور ، عن رويم ، فذكره .

                  وحدثنا [14] جعفر بن محمد بن هارون ، ثنا عبد الرحمن بن مصعب ، ثنا موسى بن داود الكوفي عن رجل ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه أنه سأله : إن قوما يقولون : القرآن مخلوق ؟ فقال : ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله .

                  [ ص: 254 ] حدثنا موسى بن سهل الرملي ، ثنا موسى بن داود ، ثنا معبد أبو عبد الرحمن عن معاوية [15] بن عمار الذهبي ، قال : قلت لجعفر بن محمد : إنهم يسألوني عن القرآن : مخلوق أو خالق ؟ فقال : إنه ليس بخالق ولا مخلوق ، ولكنه كلام الله .

                  وحدثنا أبو زرعة ، ثنا سويد بن سعيد ، عن معاوية ، فذكره .

                  وحدثنا أبي [16] ، قال : حدثنا الحسن بن الصباح ، ثنا معبد بمثله .

                  حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إلي ، قال : قال أبي [17] : وحدثت [18] عن موسى بن داود بهذا الحديث عن معبد ، قال [19] : رأيت معبدا هذا ولم يكن به بأس ، وأثنى عليه [20] ثم قال : كان يفتي برأي ابن أبي ليلى .

                  حدثنا عبد الله مولى المهلب بن أبي صفرة ، ثنا علي بن أحمد بن علي بن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن أخيه موسى بن جعفر ، قال : سئل أبي [ جعفر بن محمد ] [21] عن القرآن : خالق أو مخلوق ؟ قال : لو كان خالقا لعبد ، ولو كان مخلوقا لنفد " .

                  ومثل هذه الآثار كثيرة عن الصحابة والتابعين والأئمة من أهل البيت [22] [ ص: 255 ] وغيرهم . فعلي - [ رضي الله عنه ] [23] - لم يرد بقوله : ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن ، أي : ما حكمت كلاما مفترى ; فإن الخوارج إنما قالوا له : حكمت مخلوقا من الناس ! ؟ - وهما أبو موسى وعمرو بن العاص [24] - فقال : لم أحكم مخلوقا ، وإنما حكمت القرآن ، وهو كلام الله .

                  فالحكم لله ، وهو سبحانه يصف كلامه بأنه يحكم ويقص [25] [ ويفتي ] [26] ، كقوله : ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل ) [ سورة النمل : 76 ] وكقوله [27] : ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء ) [ سورة النساء : 127 ] أي : وما يتلى عليكم يفتيكم فيهن .

                  وقوله : ( وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) [ سورة البقرة : 213 ) .

                  وإذا أضيف الحكم والقصص والإفتاء [28] إلى القرآن - الذي هو كلام الله - فالله هو الذي [29] حكم به وأفتى به وقص به ، كما أضاف ذلك إلى نفسه في غير موضع .

                  [ ص: 256 ] فهذا هو مراد علي [ بن أبي طالب ] وجعفر [ بن محمد ] وغيرهما [30] من أهل البيت - [ رضوان الله عليهم ] [31] - وسائر سلف الأمة بلا ريب . فتبين أن هؤلاء الرافضة مخالفون لأئمة أهل البيت وسائر السلف في مسألة القرآن كما خالفوهم في غيرها .

                  وأما قولهم : إنه مجعول ، فالله لم يصفه بأنه مجعول معدى إلى مفعول واحد ، بل قال : ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) [ سورة الزخرف : 3 ] ، فإذا قالوا : هو مجعول قرآنا عربيا ، فهذا حق . وأما قوله تعالى : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) [ سورة الأنبياء : 2 ] ، فهذه الآية تدل على أن " الذكر " نوعان : محدث وغير محدث ، كما تقول : ما جاءني من رجل عدل إلا قبلت شهادته ، وصفة النكرة للتخصيص ، وعندهم كل ذلك محدث ، والمحدث في القرآن ليس هو المحدث في كلامهم ، فلم يوافقوا القرآن .

                  ثم إذا قيل : هو محدث [32] ، لم يلزم من ذلك أن يكون مخلوقا بائنا [33] عن الله ، بل إذا تكلم الله به [34] بمشيئته وقدرته وهو قائم به ، جاز أن يقال : هو محدث ، وهو مع ذلك كلامه القائم بذاته وليس بمخلوق .

                  وهذا قول كثير من أئمة السنة والحديث . وقد احتج البخاري وغيره على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله يحدث من أمره ما [ ص: 257 ] يشاء [35] ، وإن مما أحدث أن لا تكلموا [36] في الصلاة " [37] . ومعلوم أن الذي أحدثه هو أمره أن لا يتكلموا في الصلاة ، لا عدم تكلمهم في الصلاة ، فإن ذلك يكون باختيارهم . ومنهم من تكلم بعد النهي ، لكن نهوا عن ذلك ، ولهذا قال : يحدث من أمره ما يشاء [38] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية