وأما فيمكن علمه حدوث العالم [1] بالسمع وبالعقل ، فإنه يمكن العلم بالصانع إما بالضرورة والفطرة ، وإما بمشاهدة حدوث المحدثات [2] ، [ ص: 273 ] وإما بغير ذلك ، ثم يعلم صدق الرسول بالطرق الدالة على ذلك وهي كثيرة ، ، وطريق التصديق لا تنحصر في المعجزات ، ثم يعلم بخبر الرسول حدوث العالم . ودلالة المعجزات طريق من الطرق
وأما بالعقل فيعلم [3] أن العالم لو كان قديما لكان : إما واجبا بنفسه ، وهذا باطل كما تقدم التنبيه عليه [4] من أن بمعنى كل جزء من أجزاء العالم مفتقر إلى غيره ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه ; وإما واجبا بغيره فيكون المقتضي له موجبا بذاته [5] أنه مستلزم لمقتضاه ، سواء كان شاعرا مريدا أم [6] لم يكن ، فإن القديم الأزلي إذا قدر أنه معلول مفعول [7] ، فلا بد من أن تكون علة [8] تامة مقتضية له في الأزل ، وهذا هو الموجب بذاته ، ولو كان مبدعه موجبا بذاته [9] علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله [10] ومقتضاه ، والحوادث مشهودة في العالم ، فعلم أن فاعله ليس علة تامة ، [ وإذا لم يكن علة تامة ] [11] لم يكن قديما .
وهذه [12] الحوادث التي في العالم إن قيل : إنها من لوازمه امتنع أن [ ص: 274 ] تكون العلة الأزلية التامة علة للملزوم [13] دون لازمه ، وامتنع أيضا أن يكون علة للازمه ; لأن العلة التامة الأزلية لا تقتضي حدوث شيء ، وإن [14] لم تكن الحوادث من لوازمه كانت حادثة بعد أن لم تكن ، فإن [15] لم يكن لها محدث لزم حدوث الحوادث [16] بلا محدث ، وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة ، وإن كان لها محدث غير الواجب بنفسه ، كان القول في حدوث إحداثه إياها كالقول في ذلك المحدث ، وإن [17] كان الواجب بنفسه هو المحدث فقد حدثت عنه الحوادث بعد أن لم تكن حادثة ، وحينئذ فيكون قد تغير [18] وصار محلا للحوادث بعد أن لم يكن ، والعلة التامة الأزلية لا يجوز عليها التغير والانتقال من حال إلى حال ، وذلك لأن تغيرها لا بد أن يكون بسبب حادث ، والعلة التامة [ الأزلية ] [19] لا يجوز أن يحدث فيها حادث ، فإنه إن حدث [20] بها مع أنه لم يتجدد شيء لزم الحدوث بلا سبب [21] ، وإن لم يحدث بها لزم حدوث الحوادث بلا فاعل ، فبطل أن تكون علة تامة أزلية ، وإن جوز مجوز [22] عليها الانتقال من حال إلى حال ، جاز أن يحدث العالم بعد أن لم يكن ، فبطل [23] حجة من يقول بقدم العالم .
[ ص: 275 ] وأيضا ، فإنه على هذا التقدير [24] لا يكون المنتقل [25] من حال إلى حال إلا فاعلا بالاختيار لا موجبا بالذات . وإيضاح هذا [26] أن الحوادث إما أن يجوز دوامها لا إلى أول ، وإما أن يجب أن يكون لها أول ، فإن وجب أن يكون لها أول بطل مذهب القائلين بقدم العالم القائلين بأن حركات [27] الأفلاك أزلية .
وأيضا ، فإذا وجب أن يكون لها أول لزم حدوث العالم لأنه متضمن للحوادث [28] ، فإنه إما أن يكون مستلزما للحوادث أو [29] تكون عارضة له ، فإن كان مستلزما لها ثبت أنه لا يخلو عنها ، فإذا [30] كان لها ابتداء كان له [31] ( * ابتداء لازما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها ولا يتقدم عليها ، فإذا قدر [32] أن الحوادث كلها كائنة بعد أن لم يكن حادث أصلا ، كان المقرون بها الذي لم يتقدمها كائنا [33] بعد أن لم يكن قطعا * ) [34] ، وإن كانت الحوادث [35] عارضة للعالم [36] ثبت حدوث الحوادث بلا سبب ، ( * وإذا جاز حدوث الحوادث [ كلها ] [37] بلا سبب [ حادث ] [38] ، جاز حدوث العالم بلا سبب حادث * ) [39] [40] ، ( * فبطلت كل حجة توجب قدمه ، وكان القائل بقدمه قائلا بلا حجة أصلا * ) [41] .
[ ص: 276 ] وإذا قيل : يجوز أن يكون العالم قديما عن علته [42] بلا حادث فيه ، ثم حدثت فيه الحوادث كان هذا باطلا ; لأنه إذا جاز أن يحدثها [43] بعد أن لم يكن محدثا [44] لم يكن موجبا [45] بل فاعلا باختياره ومشيئته ، ( 5 والفاعل باختياره ومشيئته 5 ) [46] لا يقارنه مفعوله ، كما قد بسط في موضعه .
ولأنه على هذا يجب أن يقارنه القديم من مفعولاته ، ويجب أن [47] يبقى معطلا عن الفعل إلى أن يحدث الحوادث ، فإيجاب تعطيله [48] وإيجاب فعله جمع بين الضدين [49] ، وتخصيص [50] بلا مخصص [51] ، فإنه [52] بذاته إما أن يجب أن يكون فاعلا في الأزل . ( 12 وإما أن يمتنع كونه فاعلا في الأزل ، وإما أن يجوز الأمران .
فإن وجب كونه فاعلا في الأزل ، جاز حدوث الحوادث في الأزل ، ووجب أن لا يكون لها ابتداء ، والتقدير أن لها ابتداء 12 ) [53] ، وإن امتنع كونه [ فاعلا ] [54] في الأزل امتنع أن يكون شيء قديم [55] في الأزل غيره ، فلا يجوز قدم العالم خاليا عن الحوادث ولا مع الحوادث .
[ ص: 277 ] وإن جاز أن يكون فاعلا في الأزل ( 1 وجاز أن لا يكون لم يمتنع أن يكون فاعلا في الأزل 1 ) [56] ، فجاز [57] حدوث الحوادث في الأزل .
[58] [ وإن قيل : بل يكون فاعلا لغير الحوادث ثم يحدث الحوادث فيما لا يزال ; كما يقوله من يقول [59] بقدم العقول والنفوس ، وأن الأجسام حدثت عن بعض ما حدث للنفس من التصورات والإرادات [60] ، وكما يقوله من يقول بقدم القدماء الخمسة [61] ، كان هذا من أفسد الأقوال ; لأنه يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب حادث أوجب حدوثها إذ لم يكن هناك ما يقتضي تجدد إحداث الحوادث ، مع أن قول القائل بقدم النفس يقتضي دوام حدوث الحوادث ، فإن ما يحدث من تصورات النفس وإراداتها حوادث دائمة عندهم ، وإذا كان القول بحدوث الحوادث بلا سبب حادث [62] ، لم يكن هناك سبب يدل على قدم شيء من العالم ، والذين قالوا بدوام معلول معين عنه التزموا دوام الفاعلية فرارا من هذا المحذور ، فإذا كان هذا لازما لهم على التقديرين ، لم يكن لهم حاجة إلى ذلك الممتنع عند جماهير العقلاء .
[ ص: 278 ] ففي الجملة جواز كونه فاعلا في الأزل ، يستلزم جواز حدوث الحوادث في الأزل ، ولهذا لم يعرف من قال بكونه فاعلا في الأزل مع امتناع دوام الحوادث ، فإن القائلين بحدوث الأجسام عن تصور من تصورات النفس يقولون بدوام الحوادث في النفس ، والقائلين بالقدماء الخمسة لا يقولون : إنه فاعل لها في الأزل ، بل يقولون : إنها واجبة بنفسها ، هذا هو المحكي عنهم ، وقد يقولون : إنها معلولة له لا مفعولة له ] [63] .
فإذا قدر أنه فاعل للعالم في الأزل ، وقدر امتناع الحدوث في الأزل ، جمع بين [ وجوب ] [64] كونه فاعلا ، وامتناع كونه فاعلا .